مقالات ودراسات

الباحث أحمد محمود سعيد يكتب: الرمز في الإسكافي ملكًا للكاتب يسري الجندي


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

الاسم : الباحث: أحمد محمود سعيد

 

 

الكاتب الذي يتخلَّى عن المُباشَرَة والتَّقرير والتَّصريح والخطابية ويلجأ إلى الإيحاءات والتَّلميحات والإشارات والرُّموز في كتاباته هو كاتبٌ مُتَمَيِّز، إذ إنَّه يخلق آفاقًا رحبةً لنصوصه، يستطيع المتلقي من خلالها أن يُوَلِّدَ نصوصًا أخرى مُتَعَدِّدَةَ القراءات؛ لأنَّ الكاتب يقصد المعنى العميق، وهذا المعنى قابل لتأويلات عِدَّة، ويُعطِي ذهن المتلقي مساحةً واسعةً؛ لأن يقوم بعملية التَّخَيُّل.

والرَّمز من بين تعريفاته يُقصَدُ به (كلُّ تعبيرٍ عميقِ الفكرةِ، مزدوجِ المعنى، خفي الدِّلالة)؛ لذلك كان من الأجدر أن يستحضر الكاتب هذه التقنية في نصوصه وتصبح ذات حضور مُهَيمِن في الأجناس الأدبية كُلِّها؛ لأنَّها تتشاكل مع الهدف الرئيس الذي ترنو إليه الفنون الأدبية.

ولأنَّ المسرح بوصفه فنٌ أدبيٌّ ذات طابع خاص من بين الفنون الأدبية جميعها؛ – إذ يعتمد على خِصِّيصَتين (النص/ العرض) في آن واحد؛ كما أنَّ وظيفته الأوَّلية تعرية الواقع بكلِّ طبقاته ومواجهة السلطة- كان الرمز السِّمة الغالبة التي سعى كتَّاب المسرح إليه في النصوص المسرحية معظمها؛ لأنه يتميز بالانفتاح ويُعطي النَّص الخلود من خلال ارتكازه على دلالات متعددة وأبعاد فكرية وفلسفية وجمالية متنوعة تتضمن الحوار الدِّرامي الذي يعمل على مشاركة المتلقي للنص ودخوله عوالمه.

ولعلَّ من أسباب توظيف الرَّمز بوصفه وسيلةً فنيةً جاء بغرض التَّخفي والتَّقنُّع ليعرضَ الكاتب من خلاله أفكارَه ورُؤاه الأيديولوجية والسياسيَّة من أجل تعرية الواقع ومعالجته مُعالجةً فنيَّة تُناسب واقعه المعيش؛ ليس ذلك فحسب؛ بل جاء من أجل وظيفة فنيَّة تُسهم في إبراز جماليات عناصر البنية النَّصيَّة وارتقاء ذهن المتلقي إلى أبعاد أفقية تنتج قراءات مغايرة تخدم النَّص نفسه.

وقد انماز مسرح يسري الجندي بالرَّمز وتعدُّد مصادره على مستوى العناوين والبنية بكل صوره وأشكاله، -على سبيل المثال-، قد اعتمد على الرَّمز التاريخيّ في مسرحيتي (ماذا حدث لليهودي التائه والمسيح المنتظر- واقدساه)، والرَّمز الدِّينيّ في مسرحية (رابعة العدوية)، والرَّمز الشَّعبيّ في مسرحية (علي الزيبق)، والرَّمز الأسطوريّ في مسرحية (الإسكافي ملكًا).

 

وقد لجأ يسري الجندي لهذا الرَّمز في أعماله المسرحيّة للتَّخفيف من تأزُّم موقف البطل أو للتأكيد على أن نهاية البطل واحدة، أو أن القضية مازالت مطروحة ومُمتدَة منذ القدم حتى الوقت الرَّاهن، أو استحضار البطولة الغائبة …إلخ؛ وقد استطاع يسري الجندي ببراعة فنيّة توظيف الرَّمز في نصوصه معظمها، وهذا ما نستشفه عند الوقوف على مسرحية (الإسكافي ملكًا).

في هذا النص استخدم الجندي الرَّمز الأسطوري وربطه بالحدث الواقعي حيث عجز البطل عن تحقيق رؤيته وفكرته في الواقع المعيش وتحقيقها في العالم الأسطوريّ، فهنا الكاتب يدمج بين زمنين، الزَّمن الماضي برمزيته والزَّمن الحاضر بواقعيته.

وأول ما يلفت النظر في هذه المسرحية عنوانها، فهو بمثابة مفتاح النص، يلحظ أنه اشتمل على عنصر المفارقة (الإسكافي) (ملكًا)، فالأولى ترمز إلى سوء الحالة الاجتماعية، والثانية ترمز إلى رخائها، ورُغم وضوح العنوان وسهولته إلا أنه يحمل بعض الرمزية الغامضة التي لا يمكن التعرُّف عليها إلا من خلال الأحداث.

بدأ الحدث في مسرحية (الإسكافي ملكًا) أسطوريًّا من خلال استدعاء شخصيتين أسطوريتين (شهريار/ شهرزاد)، فشهرزاد تحكي كلَّ ليلةٍ لشهريار عن حكايات تاريخية وأسطورية؛ ولكن شهريار يغضب من حكاياتها؛ لأنها حكايات وهمية- من وجهة نظر شهريار- ينتصر فيها الخير على الشر دومًا، فهي لا تناسب الحالة المزاجية له، ولا تناسب حكمه وسلطانه، فهو رُغم السلطة والسلطان يعجز عن مواجهة الشر وفساد مملكته؛ لذلك تقر شهرزاد أن تحكي له حكاية تناسب مشكلته وتجد له حلًا، وهي حكاية (الإسكافي ملكًا) الذي يكشف من خلالها عن قضية العجز السياسي من قِبَل حكام العرب، كما يبرز الانفصال الفكري والشعوري بين الحاكم ورعيته والمتعة المفرطة التي امتاز بها الحكام.

شهريار:                        أشعر بالعجز أمام فساد الدنيا وطبيعة هذا المخلوق

الأحمق خلل مهلك لا أملك تقويمه ..

شهرزاد:                        كيف بأنك يا مولاي تشعر بالعجز أمام فساد الدنيا رُغم

السلطة والسلطان

 

ثم يبدأ الحدث الواقعي في الظهور من خلال سرد شهرزاد لأحداث واقعية في السوق تنتج مفارقات ثنائية بين أحلام الفقراء البسطاء وجشع التجار وفسادهم في السوق وتواطؤ الشرطة معهم، وهنا الكاتب يلقي الضوء على طبقات المجتمع المختلفة في الواقع المصري، فمنها الفقيرة المطحونة المهمشة المغلوبة على أمرها (معروف الإسكافي/دمدمة/ ومن على شاكلتهم)، ومنها الطبقة الانتهازية صاحبة النفوذ المستغلة للطبقة المهمشة (قنزوح رئيس التجار/ رئيس الشرطة) اللذان يعرضان على معروف بعضًا من الدنانير لبيع الدكان، لما يسبب لهم من ضيق نفسي من خلال كسر فقره وفقر من حوله بالغنوة والضحكة والسعادة، فهو لا يملك شيئًا من المال؛ لكن يستطيع أن يفعل ما لا يفعله (قنزوح) ورئيس الشرطة المالكان للأموال والسلطة.

معروف:                        (يصيح) وبقولها لك .. وبقولها لهم .. لا .. الدكانةح

أسيبها ولا الدنانير دي ح أجيبها ولا حد هيرسم لي

حياتي.. راح أكون معروف اللي أنا حاسه.. اللي أنا

عايزه..

يرفض معروف بيع الدكان، فيقع في مكيدة التاجر (قنزوح) ورئيس الشرطة من خلال اتهامه بسرقة الذهب الموجود في دكانه، وهنا الكاتب يكشف عن فساد التجار ورجال الشرطة ولفت النظر إلى سِمات القهر الداخلي والخارجي للفقراء نتيجة تفشي النظام الاستبدادي.

فحينما وقع معروف في أزمة وورطة لجأ الكاتب إلى توظيف واستدعاء الحدث الأسطوري ليخرج البطل من هذه الأزمة، فهو لا يريد أن تنتهي بطولة الإسكافي هنا؛ ولكنه يريد أن تستمر في عالم آخر؛ ليعري الواقع ويسد عجزه في العالم الأسطوري، ويكشف عن غياب الديمقراطية وتفشي الدكتاتورية؛ ليثبت فكرة الاغتراب والبحث عن الخلاص.

القطة:                          (القطة الجنية تظهر لتتحول من قطة إلى جنية)

أجري بسرعة يا معروف.

رئيس الشرطة:          امسكوا معروف اللص هاتوه ..

القطة:                          امسك توبي يا معروف ح نطير.

ينتقل الكاتب من الحدث الواقعي إلى حدث أسطوري عبر الفضاء المكاني المتخيل (مملكة البحر).

ينزل (معروف) ممكلة البحر مع الجنية (رفيف) وتدخل به إلى أبيها (حوف) ملك الجان، وعبر تحاورات درامية بين الملك (حوف) وابنته (رفيف) ووزيره (هدير) و(العجائز الحكماء) حول أفضلية الجن على الإنس، تتجلى رمزية الإنس (معروف الإسكافي) بأنه الشعب المطحون من قبل السلطة الباطشة (الجن)، كما تظهر صورة (العجائز الحكماء) برجال الدين المزيفين الذين يساندون السلطة في بطشهم وظلمهم للشعب، فهم يُحَذِّرون ملك الجان من (معروف)؛ لأنه يمثل خطرًا على قوانين المملكة؛ لكن الملك (حوف) يتحدى العجائز ويسمح لمعروف البقاء في الممكلة دون تعرض أي جني له كما يأمر (رفيف) بعدم مساندتها له، ليثبت لنفسه بأن (معروف) لا يستطيع تغيير قوانين مملكته.

وهنا نلمح إسقاطًا فنيًا ألمح إليه الكاتب يدور حول قضية الاستخفاف بالشعوب المغلوبة على أمرها حين تُختزل في مجرد كونها وسيلة للتسلية واللعب، ومن خلال هذه الأحداث يتولد الصراع بين معروف وملك الجن الذي يُثبت من خلاله (معروف) أنه قادر على التغيير من خلال مبادئه التي يؤمن بها وتدمير قوانين الجن التي تسيطر على جزيرة النعاس، المتمثلة في:

قوت:                   … ممنوع الغنى ممنوع تضحك .. ولو تسأل تبقى اجننت

ممنوع كل شيء .. ممنوع الحياة … آه ..

يستلهم الكاتب شخصية (مخلوف) وهو صديق معروف القديم في عالم الواقع؛ الذي تاه في البحر ونزل إلى هذه الجزيرة.

أسهمت هذه الشخصية في تطور الحدث الأسطوري في النص، فهو يقع في مشكلة الفلس والدَيْن من قبل التجار في الجزيرة، وطلب من معروف أن يساعده ويسانده في فكّ الدَيْن، فنجح معروف من خلال ذكائه ودهائه أن يقنع التجار بأنه شهبندر من أرض النعام من خلال إغداقه المفرط بالأموال للفقراء؛ فاستطاع معروف جمع أكياس الذهب لـ (مخلوف) لتبدأ تجارته من جديد ويسد دينه، ثم ينتقل الكاتب إلى حدث أسطوري آخر وهو مرض الأميرة (قوت بنت جعبوب) ملك جزيرة النعاس، وتمَّ شفاؤها على يد (معروف)، ومن هنا جاء التحول أي تحول شخصية (جعبوب ملك الجن) والجزيرة.

المنادى:               يا ناس يا أهل جزيرة النعاس. م اليوم يصير اسم الجزيرة

..  جزيرة الأمل الوناس بدل جزيرة النعاس ..

ولكن تآمر الجان لعرقلة معروف عن تحقيق حلمه، من خلال استدعاء شخصيات الواقع (دمدمة وقنزوح) إلى مملكة الجن؛ ليعقد الكاتب محاورة درامية بين الشخصيات جميعها، فيمزج الرمز الأسطوري (الماضي) والحدث الواقعي (الحاضر) وتظهر قضيته في أوضح صورة للمتلقي، وهي مواجهة الفرد الأعزل للسلطة الغاشمة.

برجاس:                انتهى وقت الجنان .. رجع النظام والحكمة يا أوباش ..

كما شارك الكاتب (شهريار) أحداث المسرحية في نهايتها وأصبح جزءًا من صراعات المسرحية، فشهريار يريد أن ينقذ الإسكافي من إعدامه من قِبَل ملك الجن، كما يدعو إلى استنهاض الشعب؛ لإنقاذ معروف، فالكاتب جعل الصراع مفتوحًا ولم ينهِه، ولهذا مبرره الدرامي، وهو أن القضية مازالت حتى الآن مطروحة ولم تنتهِ والصراع قائم.

برجاس:                 (برجاس يقتحم المكان بالجند) أمسكوا المحتال الغشاش.

قوت:                   لا .. يا والدي ح يقتلوه .. بلاش يهدوا حلمنا الجميل..

نعود لليل الطويل..

شهريار:                فين شهرزاد تنهي الحكاية وتنقذه ؟

ص شهرزاد:            من إيدي خرجت الحكاية يا ملك ..

شهريار:                هاتوا حرس ينقذوه .. …….

شهريار:                الإسكافي منع والكل كانوا وراه .. الإسكافي سجل هزيمتك

مهما كان قولك وتأويلك .. وإنت خدعت بنتك ما كانش هدف

معروف عرش الجزيرة ولا الأميرة لكن فك أسر الناس من سحرك

المصنوع.

تتضح رؤية الكاتب في نهاية المسرحية عندما يصل الحدث إلى ذروته، فجاء الجن كرمزية للسلطة الغاشمة، وجاء الإنس كرمزية للشعب المطحون، كما أن الكاتب يريد أن يبرز دور الشعب في مواجهة السلطة، فجعل الكاتب الصراع مفتوحًا والقضية مطروحة في يد المتلقي، كما قدَّم نقدًا لاذعًا للشعب؛ لتراخيه عن مساندة البطل وهي سمة غالبة في مسرحيات الجندي.

إن يسري الجندي لم يُحي التراث بغرض التسلية؛ بل ليستفيد من رمزيته فنيًّا وما يتضمنه من قيم جوهرية، فقد جعلنا نستمتع بعالمه الخاص حتى لو كان بسيطًا.

 

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock