غير مصنفمقالات ودراسات

البحث أحمد محمود سعيد يكتب عن: البِنَاءُ الدِّرَامِيُّ فِي مَسْرَحِ يُسْرِي الجِنْدِي.. وعلاقته بالقضايا القومية


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

 

بقلم:
أحمد محمود أحمد سعيد.

باحث أكاديمي  من مصر

تُعدُّ تجربة الكاتب المسرحي يسري الجندي من التجارب المهمة في الأدب المسرحي، حيث إنه ارتكز على البُنى الدرامية وتحولاتها في عرض قضايا مجتمعه وأمته، كما أنه اعتمد على التراث بأشكاله كافة، ووظفها توظيفًا فنيًا، أثرى البنية الدرامية لنصوصه المسرحية.

 

 

ويسري الجِّندي من أبناء جيل السبعينيات أمثال: أبو العلا السلاموني ومحمد سلماوي ومحفوظ عبد الرحمن ونبيل بدران وغيرهم، هذا الجيل واجه اهتزاز القيم السياسية وعرف قضايا الانفتاح ونتائجها، وآثار كامب ديفيد ووهم التطبيع مع العدو الصهيوني إلى غير ذلك من القضايا التي أثرت بشكل كبير في كتاباتهم المسرحية.

 

 

وعند التعرض لعناصر البناء الدرامي في مسرح الجندي وجب البدء بالصراع لأنه لب الدراما فبدونه تفتقد -الدراما- دراميتها، وقد نوَّع الكاتب في أنماط الصراع ما بين الساكن والصاعد والواثب؛ بل ظهر نوعٌ آخر وهو الصراع الدائري.
يأتي الصراع الساكن مدخلاً ومقدمةً دراميةً لظهور أشكال الصراع الأخرى إلا أن هذا الملمح – الصراع الساكن- أخذ حيزًا ضئيلًا نسبيًا في مساحة مسرحيات يسري الجندي مقارنةً بدرجات الصراع الأخرى الصاعد والدائري، وهذا يرجع إلى عمق قضاياه المطروحة وكثافة الحدث واختياره الدقيق للشخصيات؛ لكن هناك بعضا من المسرحيات كتبها الجندي لأغراض أخرى؛ فمنها ما كتبت لأجل مناسبات احتفالية كمسرحية( حدث في وادي الجن) التي تمجد في شخصية أحمد شوقي ومسرحية( سلطان زمانه) التي توضح دور الأغاني الشعبية في ثورة 1919م فتلقي الضوء على فنان الشعب سيد درويش، وبعض المسرحيات الأخرى التي تناسب الدراما التليفزيونية كمسرحية زعتر؛ إذ كُتبت كلُّها تحت ضغط الظروف الثقافية والمجتمعية المصطنعة، جاء الصراع الساكن فيها ظاهرًا واضحًا، لأنه لم يأت بغرض الاستهلالية في النص؛ بل استحوذ على الأحداث معظمها.

 

والصراع الصاعد أخذ حيزًا كبيرًا في نصوص الجندي المسرحية، ففي مسرحية الهلالية يستخدم الكاتب الصراع الصاعد المتدرج، ويتضح ذلك من خلال عناوين مشاهده (ديوان القحط- ديوان الريادة- ديوان التغريبة والحرب- ديوان الفتح- ديوان القتل المتقابل) التي تتميز بالتسلسل المنطقي لأحداث السيرة، ويتبع ذلك تدرجًا في ملمح الصراع، وجاء على هذه الشاكلة لأنه نابع من الحدث التاريخي الذي يتسم بكثرة الحروب واستمرارها وتواليها بين القبائل.

 

كما أن هذا الملمح الصراعي الذي اختاره الجندي في مسرحية الهلالية وجد في مسرحية حكاوي زمان، إذ إن الكاتب يثبت من خلاله حقيقة لا تقبل الشك، بأن الصراع بين الخير والشر موجود منذ أن خلق الله الإنسان، من قابيل وهابيل اللذين يرمزان لطرفي الصراع الرئيس في النص، فهابيل هو رمز للفلاح المصري المحب لأرضه، وقابيل رمز للقوة والعصا والسلطة الباطشة.
لذلك جاءت شخصيتا( قابيل وهابيل) اللتان تمثلان الصراع الخارجي نقطة انطلاق الكاتب في ظهور الصراع الصاعد في المسرحية؛ لأنهما مرتبطان بالقضية الرئيسة في النص( رُغم وجود الخير، كيف ينتصر الشر؟) فينتقل الكاتب من خلالهما إلى صراعات داخلية، صراع اخناتون مع الكهنة، وصراع الفلاحين مع الخديوي توفيق والانجليز وصولًا إلى الثورة العرابية، فكلما وصل الصراع إلى نقطة متقدمة يلجأ يسري الجندي إلى استخدام حيلة درامية( الترويح الدرامي) تهدئ من الصراع للحظات، ولقد اختار يسري الجندي هذا النوع من الصراع ليتناسب مع القضية المطروحة.

 

ويتطور الصراع في هذا النص حتى يصل إلى صراع أحمد عرابي والشعب – لقد خلقنا الله أحرارًا .. ولم يخلقنا تراثا – ضد الخديوي توفيق، ليبيِّن دور الجماعة ودورهم في التحرر من قيود العبودية، لأن التغيير لا يأتي من خلال فرد بل يأتي من خلال الجماعة، ويعبر الكاتب عن ذلك من خلال الصراع الصاعد الذي جاء في صورتين هما: صراع الشعب بقيادة أحمد عرابي ضد الخديوي وهو صراع داخل الواطن وصراع الشعب المصري ضد العدو الصهيوني، وهو صراع خارج الوطن، ليبرهن بأن السر الوحيد للانتصار هو الاتحاد، فعرابي كانت قضيته هي خلاص المجتمع من الفساد الداخلي المتمثل في الخديوي وأتباعه والظلم الخارجي المتمثل من تدخل قنصلي إنجلترا وفرنسا في شؤون البلاد.

 

ولم تخْلُ مسرحيات الجندي من ملمح الصراع الدائري الذي أخذ حيزًا كبيرًا في الكتابة الدرامية؛ لأنه صراع حياتي منطقي يمثل حقيقة الوجود البشري، فيؤكد على أن الحياة مستمرة، ومازالت تطرح فيها الأسئلة نفسها، فهو يدور في حلقة دائرية، يشارك الكاتب من خلاله متلقيه عن طريق ترك الأسئلة مطروحة في عقله دون أن يختمها ليكملها هو، ويتمثل ذلك الملمح في المسرحيات التي تأثر يسري الجندي فيها ببريخت، ومنها مسرحيته (حكاية جحا .. والواد قلة) الذي تأثر بمسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) لبريخت (الأم التي ولدت) (الأم التي ربت) والطفل بينهما، كما ظهر الصراع الدائري في المسرحيات التي تطرح القضية الفلسطينية والتي تبرهن على قسوة الممارسات العدوانية التي تُرتَكَبُ في حق الشعب الفلسطيني مسرحية( ماذا حدث لليهودي التائه)، وكذلك المسرحيات التي تطرح ثوابت متناقضة كقضية الخير والشر مثل مسرحية( حكاوي زمان) وغيرها من المسرحيات.

 

ويُلحظ من تطور الصراع في نصوص الجندي الدرامية أنه قدَّم شخصيات مسرحية تعكس أبعادًا إنسانية ناتجة من تمردها على الواقع لتطلب الحرية وتبحث عنها، وهذا يضفي على الصراع مساحة واسعة تنأى عن الحدود الضيقة له.
عالج يسري الجندي هموم وطنه من خلال الصراع سواء أكان هذا الصراع داخليًا متمثلًا في الصراع ضد بطش السلطة وفسادها، أم صراعًا خارجيًا متمثلًا في مواجهة المستعمر، ولم يكتفِ بذلك فحسب؛ بل عرض لقضايا تمس الإنسان؛ لذلك أدى الصراع الدرامي في مسرحيات الكاتب وظيفته الدرامية.

 

كما أن الصراعات المسيطرة على مسرحيات يسري الجندي هي الصراعات الخارجية التي تكثر فيها المواجهات على عكس الصراعات الداخلية التي ارتكزت على العامل النفسي والأخلاقي للشخصية.

 

إنَّ يسري الجندي استطاع رسم شخصياته بمهارة لافتة، وأبدع في تتبع جذور بعض الشخصيات وخصوصًا التاريخية بأبعادها النفسية؛ ليبيِّن رؤيته بصورة طبيعية واقعية ومقنعة غير مفتعلة، واتضح ذلك في مسرحية( ماذا حدث لليهودي التائه).
ومن مسرحيات( يسري الجندي) التي اعتمد فيها على الشخصيات التاريخية ووظَّفها توظيفًا فنيًا: واقدساه، حكاوي زمان، عنترة، سلطان زمانه، اليهودي التائه والمسيح المنتظر.

 

ففي مسرحية اليهودي التائه والمسيح المنتظر جاءت الشخصيات في هذا النص محملة بالأحداث الواقعية المزدحمة الجوهرية التي تبرز الأسباب الحقيقية والمزيفة لصور الاضطهاد اليهودي، فسرد الكاتب عبر هذه الشخصيات صور الاضطهاد اليهودي منذ( بنختصر البابلي) بعد( سرحون الآشوري) مرورًا بالقائد الروماني( تيتوس) والحروب الصليبية وهتلر … وغيرها.
كشف الكاتب في هذا النص عن معظم الأسباب التي أدت إلى هذا الاضطهاد، التي تتمحور حول استغلال أغنياء اليهود، لليهود الكادحين، فجاء الاضطهاد وفق مصالح شخصية نابعة من أغنياء اليهود؛ وليس وفق اضطهاد عنصري، فقد استلهم الكاتب صور الاضطهاد اليهودي في نصه المسرحي كأدوات درامية توضح الادعاءات الكاذبة لقيام دولة إسرائيل في فلسطين.
كما اعتمد الكاتب على توظيف الموروث الشعبي في الكثير من مسرحياته- لا سيَّما المتضمنة لشخصيات شعبية – ومنها مسرحية “السيرة الهلالية”، فقد استطاع الكاتب من خلالها تجسيد عدد من شخصيات التراث الشعبي، واتخذ منها أقنعة فنية يكشف من خلالها عن مجريات وأحداث الحياة الواقعية، فهذه الشخصيات بمثابة انعكاس لشخصيات الواقع المعاصر بكلِّ تناقضاته.

 

وجاء الحدث في مسرحيات يسري الجندي بنوعيه: الرئيس والثانوي؛ ليوضح القضايا الرئيسة مثل قضية الصراع العربي الصهيوني وأزمة الحكم في العالم العربي التي أخذت مساحة كبيرة في الكتابة الدرامية؛ كما بيَّن من خلال الحدث الثانوي قضايا اجتماعية، منها الفقر، والقهر، والزيف، والفساد؛ لذلك أدَّى الحدث الدرامي في النصوص وظيفته الدرامية.

 

وقد يحدث للحدث الدِّرامي حضورية مهيمنة في النص المسرحي، فمن خلاله يسترجع الكاتب أحداث ماضية؛ ليوظفها في خدمة حاضره والتبشير بمستقبله؛ فكأنه يحدث الآن وهنا، وهذا ما يُرَ في مسرحية يسري الجندي (ماذا حدث لليهودي التائه مع المسيح المنتظر)، إذ إن الكاتب عَمَدَ إلى أحداث ماضية، ناقش من خلالها قضايا واقعية معاصرة، منها الفرقة والانقسام الذي يسود المنطقة العربية، والصراع على السلطة من قبل حُكَّام العرب، كما بيَّنت معاناة الشعب الفلسطيني وممارسات العدوان الصهيوني لاغتصاب الأرض.

 

إن القضية الأساسية التي يطرحها يسري الجندي في مسرحياته، تتجسد في البطولة الفردية، أي مواجهة الفرد الأعزل لبطش السلطة، وتنتهي هذه المواجهة بنهاية مأساوية في الأحداث معظمها، هذا النموذج الفردي يبحث دائمًا عن الحرية المفتقدة في مجتمع سلبي لا يعترف بقيمة الفرد ودوره في الإصلاح والتغيير.

 

ويتضح للقارئ من خلال تنوع الحدث في مسرحيات الجندي بين الرئيس والثانوي أنها عرضت لقضايا تبرهن نزعة الكاتب القومية، ومن أهمها: قضية الاحتلال الصهيوني للقدس واعتدائهم الآثم على المقدسات الدينية، وكذلك نزعته الإنسانية تجاه العالم فشغلته قضايا الفقر والظلم والقهر والقتل والدمار الذي تنأى الإنسانية عنها.

 

أما الحوار في مسرحيات الجندي جاء متناسبًا مع طبيعة الشخصيات والبيئات التي انتمت إليها سواء أكان الحوار خارجيًا أم داخليًا، وقد صاغه تارةً بطريقة مباشرة على لسان الشخصيات، وتارةً أخرى بطريقة غير مباشرة كشفت عن قدرة الكاتب الفنية في صياغة جمله الحوارية ذات الحضور القوي داخل النص المسرحي، ودوره البارز في تطوير الحدث الدِّرامي وتجلياته، كما كشف الحوار عن السمات النفسية للشخصية بصفة عامة، وما يميزها من مظاهر اجتماعية وثقافية، وتنوعت الحوارات بين التراجيدي والكوميدي والتراجيكوميديا. كما جاءت لغة الحوار بسيطة واضحة مناسبة لثقافة المتلقي ليس ذلك فحسب بل جاءت في بعض مواضعها باللغة الشعرية في إطارها النثري واعتمدت على إيقاعات موسيقية تثير عاطفة المتلقي، مثلما لوحظ في مسرحية (الإسكافي ملكًا).

 

وعليه فإن الكاتب قد نوع الحوار بين مناجاة فردية تكشف عن هموم الذات، وبين مونولوج درامي يدفع الصراع إلى الأمام. وقد مُثل الديالوج وسيلة درامية مهمة في مسرحيات الكاتب بوصفه عصب الدراما المسرحية، وعن طريقه استطاع الكاتب إظهار العالم الخارجي والتعبير عن موقفه وموقف الشخصيات الأخرى منه.

 

وهكذا تميَّز الحوار عند يسري الجندي بالتشويق والتسلسل في الإفصاح عن الفكرة وسمات الشخصية، كما أن الجمل الحوارية جاءت مكثفة سهلة بسيطة بعيدة عن التعقيد يتقبلها كل طوائف المجتمع الكادحين منهم والمثقفين.
إنَّ الفضاءات الدرامية تدلل على تمكُّن الجندي من توظيف هذه الأداة في نصوصه الدرامية، التي تسهم في إبراز ملامح الشخصية وتطوير الحدث وملاءمتها لخط سير الصراع في النص المسرحي وطرح رؤية الكاتب، ومن خلال ذلك يستطيع المتلقي معايشة التجربة الدرامية بكلِّ تفاصيلها، إذ اعتمد الكاتب على الفضاءات الدرامية المفتوحة في أغلب نصوصه المسرحية لسعة القضية المطروحة؛ لذلك قام الفضاء الدرامي( الخارجي والداخلي) بوظيفة تتقارب مع وظيفة الحوار، حيث إن للفضاء الدرامي دورَه المهم في الربط بين ما يدور في ذهن الشخصيات والخارج المحيط.
وأكاد أجزم أن النص المرافق (PARA TEXT) في مسرح الجندي دوره يكاد يفوق دور الجمل الحوارية في النص إذ إنه محور الفعل المسرحي.

 

وعلى كُلٍّ إن يسري الجندي يمتلك ثراءً في الإنتاج الإبداعي، حيث إنه يكتب عن وعي تام بتجارب مستمدة غالبًا من الواقع فقد عالج قضايا الوطن والأمة، كما استحوذت فكرتا البطل المخلص والبحث عن الحرية على حيز كبير في نصوصه المسرحية.

 

وبعد:
فإن يسري الجندى قيمة كبيرة في أدبنا المسرحي الحديث والمعاصر، فهو كاتب متعدد المواهب، دؤوب في الإبداع والفن، نادى بموقف ذاتي وجماعي تجاه القضايا القومية والذاتية، مطوعًا البُنى الدرامية للتعبير عن هذه القضايا.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock