وجوه مسرحية

الفرنسي “فرنسيس بيران” يرتدي ثوب معلمه في مسرحية تلخص مسيرة موليير


أبوبكر العيادي 

ـ

لا يخفي الفرنسي فرنسيس بيران إنبهاره بموليير (1622 /1673)، فقد التهم أعماله بشغف وشاهدها مرارا وتكرارا بعيون الممثل الكوميدي القادر على تجاوز عيب خلقي ليجعله سمة مميزة لديه، قبل أن يتقمص أبرز شخصياتها. وفاء لمن يعتبره معلم الكوميديا الفرنسية الأول، كتب وأخرج مسرحية بعنوان “موليير رغما عني”، وهي لا تزال تعرض في مسرح “غيتي” بباريس وتلقى النجاح حيثما عرضت.

فرنسيس بيران يحيي على الخشبة ذكرى موليير معلمه الأول

يفسر الممثل الفرنسي فرنسيس بيران اشتغاله على مسرحية موليير “رغما عني” بقوله “لا يعني ذلك أنني قررت استعادة حياة موليير أو جانب منها ضد إرادتي. بالعكس، أنا لم أستطع أن أفعل غير ذلك، فهو الذي دفعني في وجه من الوجوه”.

ذلك أن بيران الذي عاشر الخشبة طوال ثمان وأربعين سنة، وشارك في حوالي ثمانية آلاف عرض، وتقمص أبرز شخصيات موليير في إحدى عشر مسرحية مثل “سكابان” و”ألسيست” و”زغاناريل” و”مسكريْ” و”جورج دندان”، يحسّ أنه مدين في تجربته الطويلة لموليير.

 ويريد أن يحيي ذكراه بعمل يستعيد فيه طورا هاما من حياة معلمه الأول في عمل يجمع بين تجربة موليير الحياتية (واسمه الحقيقي جان باتيست بوكلان) وتجربته الفنية، منذ وصوله إلى قصر الملك لويس الرابع عشر حتى وفاته.

 طوال ساعة ونصف الساعة يظهر بيران في لباس القرن السابع عشر، وبيده برّوكة تميل إلى الرمادي، يتنقل وحيدا على خشبة ليس فيها غير أريكة ومشجب عليه إكسسوار يسمح له بالتحول من شخصية إلى أخرى، من أرغان مثلا إلى مسيو جوردان، ومن دندان إلى ألسيست، ومن سكابان إلى زغاناريل…

 لبروي سيرة فاتنه موليير بداية من 24 أكتوبر 1658، تاريخ قدومه إلى باريس، حتى وفاته عام 1673. أي حصيلة خمسة عشر عاما كانت حياة موليير خلالها مزيجا من الفرح والألم، ومن النجاح والخيبة.

 بعض مسرحيات موليير أثارت حفيظة الكنيسة حتى أن أحد الرهبان هدده بالمحرقة خاصة عند عرض مسرحية “مدعي الورع”

والمعروف أنه حضر مع فرقته ليقدم مسرحية “نيكوميد” لكورناي أمام لويس الرابع عشر، وكان يبحث عن اعتراف رسمي يقيه هجوم رجال الدين وحماة الأخلاق الحميدة، ولكن النتيجة يومئذ كانت مخيبة، إذ اكتفى الملك بتصفيق فاتر ينمّ عن احترام الجهد المبذول أكثر مما ينمّ عن إعجاب.

 وكاد موليير يصاب بالإحباط، لولا أن همست في أذنه عشيقته مادلين بيجار بالعدول عن التراجيديا والاستعاضة عنها بإحدى مسرحياته الهزلية التي طالما أضحكت الناس حيثما عُرضت.

 عمل موليير بنصيحتها وقدم مسرحية هزلية ساخرة أثارت ضحك الملك من بدايتها حتى نهايتها، فكانت منطلقا لمجده الباريسي وشهرته، وعاملا حاسما في تمتعه بحماية ملكية، كانت خير عون له أحيانا، فقد أثارت بعض مسرحياته مثل “دون جوان” و”عدو الإنسان” وخاصة “مدعي الورع″ حفيظة الكنيسة، حتى أن أحد الرهبان هدّده بالمحرقة، فيما منعت أعمال أخرى تجنبا لما لا تحمد عقباه.

 عن هذه الفترة، لا يستعرض بيران موليير وحده، وإنما أيضا فرقته بممثليها وممثلاتها، وأصدقاءه بوالو ولافونتان والرسام مينيار، وكذلك أعداءه وحسّاده مثل راسين وجان باتيست ليلّي، وحتى الملك لويس الرابع عشر نفسه.

 خمسة عشر عاما من حياة موزعة بين حبه لبعض ممثلات فرقته كمادلين وأرماند بيجار وكاترين دو بري، وتعلقه بالمسرح تعلقا جعله يتجاوز محنته في موت ولديه ليبدع أروع مسرحياته، بعضها لاقى النجاح في حينه، والبعض الآخر مما يعدّه عشاق المسرح في العالم الآن من روائع الفن الرابع كـ”البخيل” و”خدع زغاناريل” لم يستسغه الجمهور عند عرضه.

 موليير كان يغالب همومه وأحزانه ويقاوم مرضه ليلاقي جمهوره كل مرة بعمل جديد إلى أن وافاه الأجل المحتوم

ولم يكن ذلك ليثبط عزم موليير، فقد كان يغالب همومه وأحزانه ويقاوم مرضه ليلاقي جمهوره كل مرة بعمل جديد، حتى أصابته وعكة وهو يؤدي مسرحية “المريض الواهم”، نقل إثرها إلى بيته حيث وافاه الأجــل المحتوم.

 لم يكن موليير يكتب مثل الآخرين، كان يتكلم، ولذلك كان يوصي أعضاء فرقته “لا تلقوا الأبيات، قولوها بأكبر قدر ممكن من العفوية”، لأن الممثلين في تلك الفترة كانوا يستظهرونها في صراخ أشبه بالنباح، وهم يضربون الخشبة بأقدامهم، فيما يصرّ هو على أن يكون الممثل طبيعيا، يتحدث وكأنه في البيت أو في الشارع أو رفقة صديق أو صديقة.

 وقد عُدّ ذلك وقتها ثورة بالنسبة إلى المسرح وإلى الجمهور، ثورة ليس في طريقة الأداء والكتابة المسرحية فحسب، بل شملت أيضا ما جعل مسرح موليير حداثيا على مرّ الأزمان، ونعني به تصويره لطبائع وسلوكيات لا تزال موجودة حتى اليوم.

 فالنبلاء الصغار المثيرون للسخرية، وكذا البخلاء والمنافقون وأعداء الجنس البشري والنساء المتغنجات والعابثات والعالمات كلهم حاضرون على الدوام، الآن كما الأمس، لا يعدمهم مجتمع ولا تغيّبهم مرحلة. وموليير يبرع في تقديمهم بأسلوب يتوسل بالسخرية في الغالب لبلوغ مراميه.

 في حديثه عن موليير، يقول بيران “هو مدير مؤسسة قبل الأوان، أول فنان هزلي في فرنسا، مؤلف درامي عبقري، استطاع أن ينتصر على كل الخيانات، في الحب وفي الصداقة، وأن يواصل رسالته رغم الانتقادات اللاذعة والجراح والمرض لينقل إلينا منذ ثلاثة قرون شغفه بالمسرح، هذا الشغف الذي يسكننا من زمان، وما زلنا نشاطره إياه حتى اليوم”.

ــــــــــــــــ

العرب


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock