حوارات

المسرحي المغربي د. عبد الرحمن بن زيدان يحاور المسرحي العراقي د. محمد سيف.. (1ـ3) البدايات والتكوين


المسرح نيوز ـ المغرب| حاوره: د. عبد الرحمن بن زيدان

ـ

هو مخرج، ممثل، دراماتورج ، وناقد وباحث مسرحي عراقي، مقيم في باريس منذ عام 1984،د: محمد سيف: حاصل على دكتوراه في المسرح والعلوم الاجتماعية من جامعة السوربون 7، ماجستير العلوم المعمقة، والبكالوريوس من جامعة السوربون1، دبلوم مدرسة جاك لوكوك العالمية للتمثيل، دبلوم معهد الفنون الجميلة في بغداد، حاليا المدير الفني لفرقة مسرح (الكلام العابر) في باريس. اخرج ومثل العديد من المسرحيات سواء في العراق، او تونس وفرنسا حيث يقيم. رئيس تحرير مجلة الفرجة الاكاديمية المحكة، الصادرة عن المركز الدولي لدراسات الفرجة. وله العديد من المؤلفات المسرحية والبحثية، والعديد من الترجمات في مجال المسرح وعلومه الجمالية. هذا بالإضافة الى تغطيته النقدية للعديد من العروض العراقية والعربية والغربية، في العديد من الصحف والمجلات الدورية.

وإلى الجزء الأول من نص الحوار الذي تم نشره في كتاب بعنوان: المسرح في العراق: رؤية تراجيدية، في وطن متغير.

:

* لقد عشت أزمنة تألق المسرح العراقي في بغداد، وتفاعلت مع مسرحيين فاعلين في هذا التألق.. كيف كانت أشكال التفاعل مع المحيط الثقافي العراقي، مع المؤلفين .. المخرجين، الممثلين، وما أشكال التكوين واكتساب المعرفة ؟

 

للإجابة على هذا السؤال لا بد من الرجوع إلى الوراء، حيث مدينة الناصرية ومناخها الفني الساخن بصراع فئاتها السياسية المتنازعة فيما بينها فنيا أكثر مما سياسيا. وكنا نحن صغار هذه المدينة جزء من هذا الصراع دون أن ننتمي لهذا أو لذاك، وكان كل ما يهمنا هو أن نمثل، أن نمارس اللعبة المسرحية في الأنشطة الثقافية والمدرسية بالاشتراك مع هذه الفرقة أو تلك بعيدا عن كونها بعثية أو شيوعية.

بالإضافة إلى ذلك، وخاصة في الصيف، أثناء العطلة الصيفية، كنا نشاهد أفلاما كثيرة، وذلك بتسلقنا الأشجار العالية جدا للحديقة المجاورة لسينما البطحاء الصيفية، من فوق أعالي هذه الأشجار الباسقة، حيث أعشاش الحمام والطيور ووطاويط الليل، كنا نشاهد أكثر أفلام هذه السينما التي لم يكن بمستطاعنا دخولها والجلوس على مقاعدها. كانت أغصان هذه الأشجار العالية مقاعدنا المفضلة، وكنا فرحين بذلك جدا حدّ إننا كنا ننسى حجم المغامرة ومخاطر السقوط في نشوة المشاهدة.

ثم نعود إلى بيوتنا ونحن نقلد هذا الممثل أو ذاك وننام فوق سطوح بيوتنا ونحن ننظر نحو النجوم البعيدة ونحلم في أن نكون ذات يوم ممثلين. كنت أدرس وامثل وعيني على بغداد تلك المدينة العجيبة التي فيها كل العجب، حتى أزفت لحظة الرحيل وتقدمت إلى معهد الفنون الجميلة، قسم الفنون المسرحية، كنا آنذاك ستة آلاف طالبا متقدمين، من كل نواحي العراق والمطلوب 20 فقط، وجاء يوم الاختبار العصيب ودخلت لكي أجد نفسي ولأول مرة أمام الأستاذ قاسم محمد، وهو يتصدر لجنة الاختبار الذين لم أر منهم أحد سواه. بادر إلى سؤالي مباشرة: ما هو آخر كتاب قرأته ؟، (قلت له دون أن أفكر لحظة، بالمسئول الحزبي الذي كان موجودا في صالة الاختبار): رواية الأم لمكسيم غوركي، واستمر السؤال والجواب حول هذه الرواية التي كانت تؤرخ بتفاصيلها وإحداثها الثورة الشيوعية في روسيا، بعد ذلك، قال لي: ماذا ستمثل لنا؟ قلت له: شخصية عاقي الشحاذ، من مسرحية هبط الملاك في بابل، لفريدريك ديرنمارت، فقال لي: هيئ نفسك وعندما تكون جاهزا ابدأ.

 

بعد تقديمي للمشهد، شكرني وأشار لي بالخروج. ثم خرجت وقلبي يدق طبول الفرحة والانتصار في آن واحد. تلقفني الطلبة الذين كانوا ينتظرون عندّ باب صالة الاختبار وأمطروني بوابل من الأسئلة، فأجبتهم بكل التفاصيل وإذا بأحدهم يفاجئني بقوله: ألم تخف من المسؤول الحزبي، لماذا تتحدث عن الشيوعية، فقلت له: ولكنني كنت أتحدث عن رواية الأم لمكسيم غوركي وليس عن الشيوعية، فقال لي: إقرأ على قبولك السلام وعد إلى الناصرية ولا تنتظر، لأنك مرفوض مقدما. كلام كابوسي حطم كل آمالي الجميلة وقتل فرحي وأجج مواجع حزني وقلقي.

 

أسبوع من الانتظار قبل ظهور نتائج الاختبار كاد أن يقضي عليّ، أتذكر جيدا هذه الأيام السبعة، وعندما جاء يوم إعلان النتائج، توجهت إلى معهد الفنون الجميلة بخطى ثقيلة، فوجدت الستة آلاف طالب مجتمعين حول قوائم معلقة فوق إحدى جدران المبنى مثل الذباب، اخترقت الحشود ببطء غير معهود، وشيئا فشيئا وجد نفسي أمام قائمة قسم المسرح، ابحث عن اسمي فلم أجده، فعدت أدراجي وإذا بأحدهم يقول لي: مبروك، لم أكن اعتقد انك ستقبل، فقلت له: ولكنني لم أجد إسمي، قال لي: انه الاسم الثاني من القائمة، هل أنت أعمى. رجعت إلى القائمة كالسهم، ورأيت إسمي، فصرخت: نعم هذا هو إسمي إنه الثاني، أحسست لحظتها بأنني مضحك ومثير للشفقة حقا، ولكن لا يهم طالما أنني قُبلت.

الدرس الأول: إن الدرس الأول الذي حضرته في معهد الفنون الجميلة في بغداد، كنت متأخرا عليه، وذلك ليس لأن النوم قد أخذني في غيبوبته وإنما الطريق ما بين مدينة الناصرية وبغداد العاصمة كان طويلا، ومن أجل الوصول، لا بد أن أمضي الليل كله في القطار الذي لا يصل إلا وجه الصبح، مثلما يقول أهل الجنوب.

 

إذن كان اليوم الأول بالنسبة لي تأخيرا لا بد منه، لهذا عندما دخلت قاعة الدرس كنت سريعا، ملهوفا، وغير مكترث لآداب اللياقة التي علمني إياها الجنوب العراقي .. طرقت الباب ودخلت، لا أنكر إن طريقة فتحي للباب كانت خشنة بعض الشيء بحيث أن الباب أطلق صرخات احتجاج أفزعت جميع الطلبة .. وإذا برجل صغير القامة أشيب الرأس يستقبلني محتجا بكل هدوء ورقة: لماذا ؟، ماذا فعل لك الباب كي تبكيه وتخرجه عن صمته، رفقا به يا رجل، إنه يبكي.. أرجوك الاعتذار منه، فأجبته وأنا متفاجئ من هذا المنطق الغريب: أعتذر منه؟ فأجابني من دون تردد: نعم .. تعتذر منه وليس مني، لأنك مثلما سمعت ورأيت بنفسك، إن الباب راح يبكي ويشتكي بصوت عال على طريقتك اللامبالية في دفعه. قلت لنفسي لحظتها، لا بد أن يكون هذا الرجل مجنونا وإلا كيف يمكن أن يطلب مني الاعتذار من باب مصنوع من خشب. وما بين تساؤلاتي الصامتة واندهاشي وتعجبي، اقتنعت أخيرا بتقديم الاعتذار إلى هذا الباب الذي دفعته.

 

ولكن عندما سمح لي بالدخول والتقدم نحو المقعد الدراسي، انزعج المقعد من طريقة جلوسي، تضامنا مع أخيه الباب الذي يبدو أن اعتذاراتي الخجولة، وقهقهات بعض الزملاء على أول مشهد يتعلمونه في فن اللامعقول، لم يشف له غليلا. فأطلق هو الآخر بعض الأصوات التي جعلت أستاذي المجنون، يقول: هل هي عادة لديك أن تؤذي كل من يحاول أن يقدم لك خدمة أو مساعدة ؟ فقلت مدافعا عن نفسي التي صارت موضع ضحك وسخرية الجميع: أبدا، فقال، إذن عليك بتقديم الاعتذار ثانية، والتعهد أمام الجميع بأنك سوف لن ولم تكررها ثالثة. وبعد مراسيم الاعتذار والتعهد على النفس بعدم تكرار الجريمة، راح بهنام ميخائيل يشرح لنا كيف يمكن أن تعبر الأشياء التي نعتبرها جامدة، وبلا إحساس عن ألامها حتى وصل به الحال لأن يقول: إن الطماطم حينما تقضمونها متلذذين بطعمها، تبكي من الألم، وتظل تذرف دمعا على وجنتيها وأحيانا على اليد التي تمسكها، ومع ذلك تستمرون بتلذذكم بذبحها والقضاء عليها كليا، ألا ترون في فعلتكم هذه جريمة لا تغتفر؟

لهذا أرجوكم يا صغاري الأعزاء، أن تتعاملوا برفق مع الأشياء، لأنها صدقوا تشعر وتحس بكل شيء، لهذا أوصيكم باحترامها، وإن لم تفعلوا، كيف تريدون منها أن تحترمكم وتكون مطواعة معكم. إننا لا نحتاج حتى نمشي على الأرض أن نرمي بكل ثقلنا عليها، وأن نركلها بإقدامنا كما لو أنها لوح خشب ونحن المسامير التي يجب أن تقوم بثقبها وتمزيق وحدتها وتماسكها. يجب أن تعرفوا أين وكيف تضعون أقدامكم على الأرض التي تمشون عليها، كي لا تؤلموها أو تجرحوا مشاعرها .. لا تتصوروا أيها الأعزاء، إن هذه الأشياء الجامدة بلا مشاعر أو أحاسيس، إنها أحيانا أكثر شعورا وتعبيرا من الإنسان نفسه، فرفقا بها، والآن دعوني أرى كيف يمشي كل واحد منكم على الخشبة، وكيف يتصرف لكي يملأ الفضاء بحضوره. وهكذا صار يصعد كل واحد منا خشبة مسرح الصف الصغيرة لكي يستعرض طريقته في المشي واكتشاف الفضاء، قاطعا الخشبة جيئة وذهابا من اليمين لليسار أو من العمق إلى المقدمة وبالعكس،

ثم رن جرس نهاية الدرس، وخرجنا مبهورين مندهشين لا نعرف كيف نتحرك بشكل طبيعي، وكيف نضع أقدمنا على الأرض التي بدت لنا مثل كائن يجب التعامل معه بكل احترام وحساسية، أو كيف ننزل درجات السلم، وكيف نحتسي كؤوس الشاي والحليب في كافتيريا المعهد، وكيف نمسك بها، وكيف يجب أن لا نزعجها أو نجرح مشاعرها الرقيقة ..

 

وهنا بدأنا نكتشف جمال حركاتنا وتكويناتها مع الأشياء والفضاء الذي يحيط بنا. بهنام ميخائيل، ذلك المعلم الجليل الذي غادرته الحياة ولم يغادرها، غادر الفضاء الخالي ومع ذلك ظل يملؤه، ورغم الرحيل وتواري التراب على الجسد ورغم الموت وغيبوبته الأبدية، ظل شاخصا، ماثلا، أمامي بالصوت والصورة. لهذا تجدني أتحدث عنه هنا بقليل من الإسهاب، لأنه وبكل بساطة، روح تطوف أروقة ودهاليز الجسد مثل شبح شكسبيري، مثله مثل قاسم محمد، لا يريدان أن يتواريا عن الأنظار، طالما هناك خفايا لا تزال غامضة على النفس، إن بهنام ميخائيل، للأسف قليل الحضور في أحاديثنا عن المسرح، رغم حضوره في كل بداياتنا وفي جميع المفازات التي قطعناها مع أنفسنا، سواء كنا هنا أم هناك حيث التقينا به وتعرفنا عليه..

 

إن الحديث عن بهنام ميخائيل، يختصر، حسبما اعتقد، كل أزمنة تألق المسرح العراقي،على الأقل بالنسبة لي، فهو البداية الحقيقية للتفاعل مع هذا الوسط الثقافي المليء بالأسماء والتجارب. فهو بالإضافة إلى كونه واحد من مؤسسي المسرح العراقي، شأنه شان حقي الشبلي ، جاسم العبودي، إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد، وقاسم محمد. هناك ما يميز بهنام ميخائيل عن غيره من الفنانين الذين لا يقلون عنه قيمة وجودة. إن ما يميزه هو تعليميته للمسرح، فهو لم يكن يعلمنا كيف نمثل، ونمشي على المسرح، وأن نقول هذا الحوار أو ذاك فحسب، وإنما علمنا الأخلاق المسرحية، وكيف نحترم الموجودات التي نمر من خلالها ونتعامل معها كل يوم ولحظة بلا مبالاة، أو شعور بماديتها الروحية، كي يتسنى لنا بالتالي احترام وجودنا على المسرح، ومن ثم الجمهور الذي تنتهي عنده المعادلة المسرحية.

 

كانت بغداد صورة مكبرة لمدينة الناصرية وفورانها الفني والسياسي، صورة فيها العديد من الإشارات والعلامات والأسماء اللامعة، ورجالات المسرح الذين كانوا ينتجون أعمالا بلا توقف، في فرق مسرحية كل واحدة منها لها لونها وشكلها واتجاهها السياسي والفني: فرقة مسرح الحديث، الفرقة القومية، فرقة المسرح الشعبي، المسرح العمالي، فرقة الستين كرسي، وإلى أخره .. وكان عليّ مثل باقي الطلبة الذين يتوجب عليهم في فترة من الفترات أن يختاروا ما بين أن يكونوا غاية أم وسيلة، وهنا يكمن مفهوم الحرية، في مسؤولية الاختيار. وقد اخترت المسرح، والقراءة، ومواكبة الحركة التشكيلية العراقية التي كانت متقدمة جدا، والحركة الشعرية وصراع الأجيال الستينيين والسبعينيين وجيل الشباب الثمانين الذي انتمي إليه، أما السياسة فكانت عنصرا من عدة عناصر، لا مفر منه.

إن الفترة التي جاءت بعد اعنف الابتكارات، التي حدثت بسبب الحركات الاجتماعية والتغيرات في الهياكل السياسية والاقتصادية، لم تضع أو تصنع خطابا خاصا للمشاكل التي كانت يطمح إليها المسرح، وإن الحماس الذي نشأ من جراء هذه التغيرات، سريعا ما تبدد وقلة أهميته بسبب إعلان الجبهة الوطنية وانهيارها المفاجئ والسريع، مما أثر على الحركة المسرحية والأدبية ورجالاتها الذين كانوا يتوزعون بين جميع الأحزاب، وبسبب عدم وحدتهم أصبح اغلبهم وكلاء للسلطة السياسية، وبدلا ما أن ينشغلوا بنتاجهم الفني والأدبي، انشغلوا بمناصبهم الإدارية. ومع ذلك، لقد عشنا وشهدنا، على الرغم من كل شيء، ما هو ضد هذه الوظيفية الخدماتية الجديدة التي تأسست، ما بعد عام 1968، هذه الفترة التي أسست وولدت فيها مختلف المحاولات التي سعت في شكلها ومضمونها إلى تحدي هذه البنى التقليدية، بولادة مسرح شعري نشط متعدد الطروحات الجمالية والفكرية، ليس فقط على صعيد الخطاب الجديد، وإنما من خلال الإنتاج/الإبداع المستقل عن السياسة، والسعي للوصول إلى شريحة كبيرة من الجمهور الذي كان مهملا.

 

*ما مفهوم الممثل في رأيك ؟ والأدوات التي كونت شخصيتك في بلورة الشخصية المسرحية ؟ وما هي الأدوار التي أدّيتها ؟

 

  • لأجل القيام بهذه المهمة الشاقة، سألجأ إلى ما كتبه باتريس بافيس، في قاموسه المسرحي: (إن الممثل، عندما يلعب دورا، أو يجسد شخصية، يموضع نفسه في قلب الحدث المسرحي. إنه الرابطة الحية بين نص المؤلف، والتوجيهات التمثيلية للمخرج، وأنظار وآذان المتفرجين). لاسيما أن الممثل حتى أوائل القرن التاسع عشر، كان يشير إلى الشخصية المسرحية، ثم أصبح فيما بعد ذلك الذي يلعب الدور، وحرفي المسرح، وإن الممثل في تقاليد المسرح الغربي، هو الذي يجسد شخصية، وهكذا أصبح في المقام الأول حضورا ماديا على الخشبة، وهو الذي يحافظ بشكل حقيقي على العلاقة الجدلية مع الجمهور، ويجعله يشعر بالجانب الجسدي والحسي على الفور، أي إن مفهوم الممثل أرتبط شيئا فشيئا بجسد الممثل، الذي يصبح في ظل ظروف التمثيل، جسد دوره
  • ولكن هذا الأخير يخضع دائما وابدأ إلى وظيفة الشخصية، وهذا يعني انه مرتبط بتجسيده لشخص آخر غير شخصيته، ولا يمكن أن يكون هو نفسه على الخشبة. إن جميع هذه الأجساد التي لعبت وستلعب في مختلف الأماكن والعصور، هي على الإطلاق، شيئا واحدا: الممثل، هذا الذي يأخذ كلامه من الآخرين، ليقوله أمام أناس آخرين. لقد تغير كل شيء من حوله (في المسرح وخارجه) ومع ذلك، ظل هو نفسه، ذلك الإ
  • إنه لم يتغير منذ سوفوكلس، وظل هو نفسه الذي شاهده أسلافنا، ونشاهده اليوم، وسيشاهده أحفادنا وأجيال أجيال أحفادنا. ولكن ما هي المهمة التي أوكلت للممثل منذ بدأ (الحداثة)، ومنذ ظهور المخرج (وهل هي مصادفة، أن يظهر المخرج الآن ؟)، هذا المتفرج المُمَيز، هذا المتفرج المدهش الذي صارّ يتدخل لوضع أو إزالة معنى الحلم على الخشبة.
  • إن المخرج هو الذي يضع الممثل على المسرح ثم يختفي وراء الكواليس، إنه يترك لمواجهة الجمهور بمفرده، ولكن بمحبة، بعد أن يرعاه ليحمله، في نهاية المطاف، مسؤولية كتابته الركحية. بلا شك، إن عمل ودور وقوة المخرج هو أعظم اختراع في هذا القرن ، إنه ظاهرة جديدة وكارثية في آن واحد، لم يسبق لها مثيل، لأنها أعطت للمسرح لونا جديدا، لم يكن موجودا من قبل. إن المخرج غيرّ رؤيتنا للأشياء مثلما فعل الرسام فان كوخ عندما رسم الشمس وحقول عباد الشمس، والرسام سيزان، عندما صور الجبال بحيث لم نعد نراها مثلما كنا نراها من قبل، علما، إنها لم يطرأ عليها أي تغير وهي نفسها منذ الأزل، ولكن رؤيتنا هي التي تغيرت بفضل اللمسات الفنية التي وضعها هذين الرسامين فوق سطوح لوحاتهما. نفس الشيء ينطبق على الممثل، فمنذ إن ظهر المخرج، ونحن لم نعد نراه مثلما كنا نراه سابقا، ومع ذلك وعلى الرغم من كل شيء، يبقى دائما وابدأ جسدا للكلمات والأنفاس التي تكشف لنا الرؤي.
  • إنه جسد العالم، هذا العالم الذي يزعجه ويخترعه، في آن، إنه قلب المسرح السحري الذي لا يمكن المساس به. هذا ما تعلمته وعمقته خلال خمسة سنوات في معهد الفنون الجميلة، مثلت فيها أكثر من 25 مسرحية عالمية وعربية وعراقية: شكسبير، تشيخوف، بيراندلو، إدوارد ألبي، تنسي وليامز، قاسم محمد، عبد الرزاق عبد الواحد، سعد الله ونوس، والخ وأخرجت مسرحيتين: الجمجمة، للشاعر التركي ناظم حكمت، ومسرحية الصبي المشاكس الذي أعدها عقيل إبراهيم عن قصة قصيرة لتشيخوف. مثلت بطولة العديد من المسلسلات التلفزيونية العراقية والعربية وفلمين روائيين، ومع ذلك كانت عيناي تنظران نحو باريس، وعندما أزفت لحظة السفر، قال لي المخرج السينمائي العراقي صاحب حداد: إنك نجم مسرحي وتلفزيوني وسينمائي دون أن تسافر وتعود بشهادة عليا، فلماذا السفر إلى الغرب ؟ قلت له: أريد أن أتعلم المسرح هناك حيثما ولد وأن أقرأ الشعر والرواية من دون ترجمة ثم أعود بمعرفة ورؤى جديدة. وسافرت إلى باريس، وفي اليوم الأول لصولي إلى باريس، وبعد أن وضعت حقائب السفر في الفندق، قلت لزوجتي، هيا لنذهب إلى المسرح، وذهبنا وشاهدنا مسرحية (هرناني) للمخرج الفرنسي الكبير(انتوان فيتيز)، وهكذا بدأت عجلة المغامرة الباريسية.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock