المسرح نيوز ينشر حصريا.. مونودراما “ما يكتمه الليل” عن أبي الطيب المتنبي.. للكاتب محمد حامد السلاموني

المسرح نيوز ـ القاهرة ـ نصوص|   تأليف :محمد حامد السلامونى*

ـ

كاتب مصري

 

منودرامــــــــا

ما يكتمــــــه الليــــــل ..)))

عن (أبى الطيب المتنبى)

 

تأليف  / محمد حامد السلامونى

 

(وكنت إذا يمّمت أرضا بعيدة

سريت فكنت السّرّ والليل كاتمه)

 

المتنبـــِّى

 

الشخصيات :

ـــــــــــــــــ

المتنبى  : فى حوالى السابعة والأربعين من عمره ..

يرتدى جلبابا عربيا رثا – ويبدو حاســـــر

الرأس وقد لوَّحته الشمس ..

الجُثـــَّة  : لعبد أسود ..

 

 

المكان : صحراء قاحلة ..

الزمان : الليل – عام (350 هجريا) ..

المشهد الأول :

ـــــــــ

[ يرفع الستار على (المتنبى) واقفا – وفى يده سيف لامع – أمام (جثة عبد أسود) مسجاة على الأرض … ويبدو أنه أتى عليه لتوه ، يلهث ، بينما ينظر إليه بغضب .. ثم – فجأة – ينقض عليه ممسكا بتلابيبه بقوة … ]

 

المتنبى :

 

أترتاع الآن فى موتك لمرأى غضبى يرقص عاصفا على أنقاضك ؟!. أيها الأحمق !…

( يضع السيف قبالة وجه العبد ..)

أنظر ، أنظر جيدا ، لترى كيف تتيه فى غياهب سيفى وتدفن فى بريقه إلى الأبد !.. أنظر ، لترى عواقب ما انسقت إليه من إثم فى حق الريح !..

أتسرقنى ؟!.. أتسرق الريح ؟!!… هاهى تفتح دمك عن آخره وتفرغ به كل ما لديها من عواصف !..

أيها المأفون !…

(يدفعه بقوة ، ويقف – بينما يلهث – والسيف فى يده …)

لقد غامرت حين تقاسمت الحياة مع رجل فى ذروة الإحمرار … لقد غامرت حين اجترأت ومددت يدك فى جحيمى !..

ويالبهجتى بقتلك !.. بهجتى بقتلك أكبر كثيرا من بهجتى بالهرب من (كافور) !.. ويالها من بهجة !…

(بألم) تمتد فى قلبى كهوة سحيقة ممتلئة بموتك !!…

(لحظة صمت ، ثم متحولا فجأة … )

أتجحدنى ؟ ، أتجحد سيدك ؟!! …

هناك قبائل لاحصر لها ، تصحّرت من كثرة النسيان .. قبائل تشرّبتها الصحراء …. لكنها أنبتت شجـرة واحدة ؛ هى (أنا) !…

وها أنت تجحدنى !… تجحد الشجرة الوحيدة التى أظلتك من القيظ الذى استعر فى وجودك !… كيف خطر لك أن تقطع تلك الشجرة طمعا فى الظل المخبوء بداخلها ؟!! …

أم تراك تحسدنى ؟!! …. كأنك لم تكن شاهدا على ما اضطررت إلى دفعه من ثمن باهظ ، نظير مايُرى من حريتى ؟!…

(يتأمل الجثة قليلا … ثم بألم ..)

كأنما بعض دمى أو بعض روحى يومض متلأ لئا إذ يخرج من جسدك إلى الأبد !…

هى بهجة أخرى ، أوهكذا تبدو … أستشعرها ، وأكاد أمسك بها ، لكنها تفر من يدى كسحابة !…

بينما شئ ما ينثال وئيدا فى قلبى ، ولا سبيل إلى كبحه !…

(يغرس السيف فى الأرض)

أهو الليل ؟!… كأنما قطعة من الليل تحرق قلبى !.. أيتفحَّم القلب من كثرة الحزن ؟! …

لقد فاجأنى ، الحزن فاجأنى- دون أن أتأهب له !…

ياإلهى !..

أهكذا سريعا ؟!!… يالهشاشتى !… أبدو كأنما أسقط من ثقب فى الزمن إلى عراء مهجور أتكاثر فيه وحدى !…

ما أتعسنى !… (للعبد) وما أتعسك !…

قـتلتـك كى أرى فرحتى فإذا بى لا أرى غير موتك !..

كنت أظن أننى سأكتمل بقتلك فإذا بى مثقل بهذا القـتل !.. لقد أفسدت علىّ الفرح الذى وعدت به قلبى !..

نعم ، قلبى مثـقل بقتلك ولا مهرب لى !…

هل مت حقا ؟!…

أما من شئ يحول بينى وبين الريح التى تنهض من جثـتك ، وتقـتادنى إلى حيث الفجيعة ؟!…

يالروعة موتك !…

ويالفجيعتى فيك !…

أحقا صرت لحما باردا مسافرا فى الموت بلا تاريخ ، بلا ألق ؟!!…

(صائحا- فجأة ..) أيها الليل …. لا تنسكب فى روحى هكذا !… كفى ، كفى ..!…

(للعبد) أيها العبد ، لا تعلن موتك على الملأ  بهذا الصخب ، كفى !…

(لحظة صمت ، ثم متحولا ..)

حتى فى موتك تستعر فى وجودى وتحرقه !.. كأننى الوهم وكأنك الحقيقة !…

أمحتَّم علىّ أن أرى وجهى فى مرآة وجهك ؟!…

(وقد هدئ قليلا … )

أعرف أن كلا منا كان يعد للآخر ميتة رائعة .. وأعرف أن ثمة مرثية أخيرة تحتَّم على أحدنا أن يلقيها فى الآخر … لكننى لم أكن أعرف أن الموت مريع إلى هذا الحد !…

لو تعرف كم أبدو وحيدا فى الألم !…

(ثم صائحا فجأة ، بغضب … )

لماذا أنا مفجوع بموتك هكذا ؟!… من أنت أيها العبد البائس ؟!! .. من أنت ؟!!! .. ألم تعش فى ظلى سنوات وسنوات ؟ .. ألم تتسلل إلى وجودى فى غفلة منى وتتخذ من هذا الوجود مسكنا لك ؟.. وظـللت تنخر فيه تنخر فيه حتى أهدرتنى !…

لماذا أنا مفجوع بموتك إذن ؟!…

هى فرحة ميتة ، ميتة …. تتمدد فى قلبى ، وليس لى أن أنكرها !..

نعم … لا تضع رأسك على صدر الموت هكذا ، فلن يسعك غير قلبى- الذى ظل يضخ دم السخط عليك حتى صرت جزءً منه !!…

فى قلبى غُصّة من قلبى !..

آه … ما أروع أن يلمس المرء ما بداخله على هذا النحو ، وما أقساه أيضا !…

( ينفجر – فجأة- كأنما يدفع عن نفسه تهمة ما …)

كنت تغير علىّ ولم تكف عن الإغارة علىّ ، وكنت أتوارى خجلا وراء روعة قصائدى بينما توزّع ماء وجهى على الممدوحين ، نظير عطاياهم !.. كان يجب أن تكف ، وكان يجب أن أكف عن هذا الوجود الغث !…

(متحولا)

فلترتجف فى أنقاضك كيفما شئت ولا تنظر إلىّ هكذا ، فلن أنزلق تحت موتك ، وسأمضى إلى ماهو أبعد من جثـتك ، مزهوا بنفسى- لأننى شاعر … أفتح اللغة وقتما أشاء ، أفتحها عن آخرها وأدخل جسدى ليصير لغة ؛ جسد من لغة ، يتمدد خارج زمنه ، كحلم ساطع ، يلمسه القراء فى أزمنتهم ، فيتوهَّجون ضوءً … أما جسدك ، فسيظل راقدا فى الموت تغمره النهاية !…

لعلك تقدِّر الآن جسامة ما أقدمت عليه ، وحين جعلت منى آخر متسول عظيم ، لم تفهم أن كل من مدحتهم لن يبقى منهم غير قصائدى …

(يتقدم إلى الجثة ويجذبها بقوة إلى منتصف المسرح ..)

ألآن علىّ أن أخفيك تحت سحابة عابرة !! …

(يضحك ويغنى ساخرا…)

( بأبى من وددته فافترقنـا

وقضى الله بعد ذاك اجتماعا

فافترقنا حولا فلما التقينا

كان تسليمه علىّ وداعـــا )

هذان البيتان هما أول مانظمت من الشعر ، وأنا بعد صبى ، وبرغم ما بهما من تكلف وركاكة ، إلا أننى بهما أدركت مآلى كله ، ولعله مآلك أنت أيضا وحقيقة مسعاك !…

(يضحك …) أبدو مرحا فى قسوتى ، أليس كذلك ؟!…

(متحولا) ولو تعلم … لكنك لا تعلم ، واستكثرت علىّ امتناعى عن الذل !… واستكثرت علىّ استعظامى لنفسى أمام الممدوحين !.. ولو تعلم ، لكنك لا تعلم ، أنا أفضل من سعت به قدم ، أنا درّة هذه اللغة …

(أنا من نظر الأعمى إلى أدبى

وأسمعت كلماتى من به صمم)

لذا حملتنى الأمانى الكبار بين جوانحها ولم تزل …..

(وإن أكن معجبا فعجب عجيب

لم يجد فوق نفسه من مزيد)

ومع ذلك لم أنل من الحياة ما أنا أهل له ، بل لم أنل غير يأس صار له مقاما وطيدا فى قلبى المحزون !…

ولو تعلم .. من العسيرعلى مثلى أن يقضى نحبه دون أن يفقأ عين قاتله !.. لذا وزّعت المديح فى القصائد بينى بين الأمراء ، وفخرت بنفسى وأثنيت عليها ، بينما أفخر بهم وأثنى عليهم ! .. نعم ، كان علىّ أن أجهر بما فى نفسى وأقتسم المديح معهم .. لو تفهم ، كنت المادح والممدوح معا ! …

لكنك لم تكن راضيا ، وظللت تدفع بى من الخلف ، تدفع بى من الخلف ، كى أنزلق خارج نفسى ، على بلاط الأمراء وألعق العطايا !.. مدعيا أنه :

( لا مجد فى الدنيا لمن قل ماله

ولا مال فى الدنيا لمن قل مجده)

ولم أزل أذكر قولك لى بأن (الثروة الكبيرة هى الإنسان الكبير) ، لم أزل أذكر … لكنك لم تقل لى (كيف يصير إنسان ما كبيرا بينما يتصاغر أمام ممدوحيه ؟!..) – لم تقل شيئا ، وادعيت الصمم !!…

(يمسك بمقبض السيف- وهو مغروس فى الأرض- ويثنيه بقوة ، ثم يتركه … السيف يروح ويجئ بسرعة ، لحظة صمت ، ثم … )

قضيت العمر ، بين أمير يغرينى بمدحه وعبد يغرينى بقتله … لكننى كنت أعرف أن الحرية إما أن تسرق وإما أن تشترى .. ولأننى لست بسارق ، كان علىّ أن أدفع الثمن صاغرا …

لكنك كنت تطفو فى روحى كفقاعة من نار وتهيم فى نفسى كشبح … سنوات وسنوات وأنت تطفو وتهيم ، دافعا إيّاى تارة إلى التصاغر أمامهم ، وتارة أخرى تلوّح بتاج آخر ، وتهمس لى –

: ( لقد ولد ت فى فساد عظيم ، وفى دم لا آخر له .. وها أنت تتنفس غبار مُلك هائل يتداعى ، فى زمن تتماهى فيه الحدود بين النقائض !…

ألا تريد من زمنك ذا أن يبلغك

ما ليس يبلغه من نفسه الزمن ؟

ألا تتطلّع إلى مكانة رفيعة ترجوها ؟!… لم لا تكون الأمير الذى يُتَغَنَّى بمدحه ؟!.. ألم تقل يوما –

إذا غامرت فى شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

وقلت أيضا –

إلى كم ذا التخلف والتوانى

وكم هذا التمادى فى التمادى

وشغل النفس عن طلب المعالى

ببيـع الشعر فى سوق الكساد !!…

… ربما كنت تدرك هذا ، إلا أنك لا تفعل شيئا كأنك تستمرئ أن تصنع من قلبك كيسا وتحشوه بالحصى وعندما تتوجّع منه تفرغه مما به ، لتعود وتحشوه وتتوجّع وتفرغه ثم تحشوه وتتوجّع وتفرغه !! …. إلى متى ستظل تحترق ثم تولد من رمادك لتحترق من جديد ؟!… ألا تعلم أن (المجد للسيف لا للقلم) ؟ ..

(القبة الخضراء) فى قصر المنصور – ( تاج بغداد وعلم البلد ) .. سقطت منذ سنوات ، وكان هذا السقوط – كما خمنت- إرهاصا بإفول نجم بنى العباس .. وهاهم صاروا ألعوبة فى يد أجناد الفرس والترك والديلم … وغيرهم من شذاذ الأرض وأفاقيها ، ممن لا هم لهم إلا جمع المال وتكديـس الثروات !…

ألست أولى بما فى أيديهم ؟ .. لماذا تتركهم يستعلون بك على أقرانهم وأشباههم من الأراذل والأوغاد ؟!… ألا تشعر بالحط من قدرك ؟!…

أيها الأحمق !.. من هم دونك بلغوا دست الوزارة وكرسى الإمارة وأنت كما أنت ، لا تزيد عن مادح يثاب على مدحه !!… ما قيمة كل تلك القصائد التى جادت بها قريحتك إن لم تعثر من ورائها على ولاية تتولاها ؟! .. أكل تلك القصائد لا تفى بثمن مقعد ما فى ولاية ما ؟!! …

ليس التعلُّل بالأمانى من إربك

ولا القناعة بالإقلال من شِيَمِك

أليس كذلك ؟!…

(لحظة صمت ، ثم …)

كنت تخوض بى فى وحل أحلام تحلَّلت على طول الطريق إلى العواصم !… وحرمتنى لذة أن أحيا على ظهر سحابة من لغة ، كنت قد أعددتها لنفسى ، كى أرى التيجان- كل التيجان- مطفأة ، لا يلمع من بينها غير تاج شعرى !..

نعم ، لقد أسقطتنى عن صهوة اللغة إلى حضيض أمراء لايطاق … وحولتنى إلى كومة من الغثاثات ، وكان علىّ أن أفعل شيئا ، وها أنا قد فعلت !…

( يجلس على صخرة مجاورة ، ويظل يلهث حتى يهدأ … لحظة صمت طويلة نسبيا –  ينظر خلالها إلى الصحراء … )

إنه وجهى ، مع الرمال !…

بينما روحى تحترق ،

أو أمّحى !…

كأنما كنت بحاجة إلى كل تلك الصحارى كى أمّحى !…

سأغلق الباب ،

كى لا أزعج (سيف الدولة) ..

وكى لا أزعج الليل !..

سأغلق الباب – سأغلق باب قلبى علىّ …

فهل تسمعنى ؟ ..

هل تسمعنى يا أمير ؟!…

كان بإمكانك أن تكون هنا ، دائما كان بإمكانك أن تكون هنا ،

فى هذا القلب ،

لترى ما أرى !…

( لحظة صمت قصيرة يبدو خلالها متأسيا … )

ألا تقدر على شئ حيالى ؟!…

لا العواصم ولا البشر .. الصحارى فقط هى التى تعلم – لماذا فررنا بها إلى مجد لم نبلغه أبدا ؟!…

(يلتفت إلى العبد … )

كم تبدو كاملا فى الموت بعدما تخلّصت من الزمن !…

لعلك الآن مكتف بذاتـك .. لعلك قابع فى هدوء وراء تلك الحدود التى وضعتها لنفسك !…

فلتواصل موتك إذن … مثلما أواصل حياتى ، (ينهض) ممتلئا حتى الحافة بصحراء عذبتنى كثيرا ..

( ثم متحولا …)

هل أبدو كصوت بلا فم يصّاعد من فجوة تمتد عميقا فى هذا الليل ؟…

خذلان هائل يجتاحنى الآن ، كأنما موتك يخدش حياتى !…

(ثم فجأة) أما من أحد يهش عنى هذا الحزن الذى تطلقه علىّ ؟!… أكنت تعلم بهشاشة قلبى ؟.. أكنت تقرأ ما كتب على جدران وحدتى وصمتى ؟!…

ألآن .. ألآن … أقذف بنفسى بعيدا ، أمام حياتى كلها ، فلا أرى غير غيمة ، مجرد غيمة تعبر الصحراء إلى حتفها !…

(أصوات صاخبة : عويل وصياح مكتوم- أشبه بزمجرة عواصف .. يبدو مرتعبا ، يبادر إلى السيف ويمسك به ويجرى فى كل الإتجاهات – كأنما يتوقع هجوما ما ، ثم يصيح فى جثة العبد …)

ألم تحلف لى الأيمان الغلاظ  ألا تغدر بى ؟!… لكنك لم تف بما وعدت به !.. ولأنك كنت ساخطا على ما قدّر لك من حدود لا تنهض بعبء ما تريد الوصول إليه , مددت يدك إلى مالى لتسرق حريتى ، لتجردنى من جميل صوغى وباهر روعتى !…

أنت !.. أنت الذى سقتنى لارتكاب ما لم يكن لى مفر من ارتكابه .. أنت الذى ربطت نفسك إلى ثور هائج فاقـتادك إلى سيفى !.. أنت !…

(لحظة صمت ، ثم متحولا ..)

غير أنك تشبهنى فيما ذهبت إليه مع (كافور) !…

(يغرس السيف فى الأرض بقوة – الأصوات الصاخبة تعلو بشدة كعاصفة هوجاء … لحظة صمت يتقدم خلالها إلى الجثة ويجردها من ملابسها ، فنرى أنها جثة لعبد شديد السواد ، يمسك بقطعة حجر صغيرة ويبدأ فى حك جلدها ، بينما الأصوات تتلاشى بالتدريج … )

لطالما تملقـتنى ، وأذللت نفسك لى – تماما كما أذللت نفسى لذلك العبد الذى ألقت به أسواق النخاسين إلى عرش مصر !…

بريق تاجه فى عينيك كان يغشى عينىّ – ولم يكن باستطاعتى أن أدرك الأمر تماما فى حينه !.. نعم ، كـنت تبدو مخطوفا بالحلم ، مأخوذا بالقفز فوق القمم !.. حتى أشعلت الجمر المختبئ فى نفسى ، وظللت تنفخ فيه تنفخ فيه ، وكنت أمتثل فى بهجة لكل ما يعدنى به ذلك الشرر المتطاير كالنجوم من أحلام تحلم بسماء أكثر وتنتظر أفقا أغزر ، خارج هذا الأفق الهزيل ، الذى يتيه فيه غيرى !..

(بسخرية مُرَّة ..)

فما أنا منهم بالعيش فيهم

ولكن معدن الذهب الرغام

وكم من جبال جبت تشهد أننى ال

جبال وبحر شاهد أننى البحر

وإنى لنجم تهتدى بى صحبتى … بل أنا مالك الأرض !!…

وتحقر عندى همتى كل مطلب

ويقصر فى عينى المدى المتطاول

كأنى دحوت الأرض من خبرتى بها

كأنى بنى الإسكندر السد من عزمى

وظللت أصعد أصعد أصعد … حتى كبا البرق ؛ البرق كبا … بينما يحاول اللحاق بى !! …

(يضحك بمرارة … ثم ..)

ولم أنتبه إلى عين (كافور) !… تلك التى ظللت أقاوم اختراقها لى كى لا ترى أننى رجل من لغة ، أتناثر كالغبار فيما أقول ! ، أو أننى أعيش فى فمى !…

نعم ، لم أنتبه إلى أن عين (كافور) مجرد عين لعبد ، لن ترى سواك (مشيرا إلى جثة العبد) مكدَّسا بداخلى !..

وأن أذنه لن تسمع سواك تلهج من فمى بمديح مثقل بكبريائى الجريح !…

وحين بالغت فى مدحه وأعطيته من الفضل والسؤدد ماليس له- طمعا فى ولاية أحد الأقاليم ، كما وعدنى … أكان ذلك الأسود يرى أننى مجرد شحاذ يستجدى بلدا ليحكمه ؟!… يقينا , ولعله كان يضحك بينما يغسل سواد وجهه بماء وجهى !…

أقُدِّر علىّ أن أحيا دائما أبدا فى ظل سيد عظيم ؟! … دائما أبدا أنا فى ظلالهم وأنت فى ظلى !.. إلى متى سنظل ظلالا تحيا فى ظلال أخرى ؟!!…

ما أحلك الظل وما أثقله حين ينطبع على ظل آخر !…

لكن (كافور) هو الآخر كان يحيا فى ظل سيده الإخشيد ، وظل يحكم باسم ولديه ، حتى سرق منهما العرش … (للعبد) تماما مثلما أردت أن تسرق مالى ، ومثلما أردت أن أسرق من (كافور) إحدى الولايات !..

أكان يضحك ؟!… ذلك الظل ، أكان يضحك ؟!! … هل صار ناصعا فى قصائدى كبدر الدجى ؟!! .. يالسواده المقيت !…

( متحولا… )

تلك القصائد يجب أن تشهد أننى لم أكن غير لغة صنعتها القبائل لترى فيها العواصم وجوه ملوكها الشائهة !..

(يطوح بالجثة بعيدا) .. نعم ، الكوفى الهارب بحلمه الى البوادى كان يصنع من التاريخ سطحا لتطفو عليه جثث من مدحهم !…

(نعيق الغربان يجتاح المسرح ، ثم يتلاشى بالتدريج …)

لكن رجلا واحدا فى حلب ، يدعى (سيف الدولة) ، حين التقيت به ، أدركت أننى عثرت أخيرا على نفسى فى أمير ، وأى أمير !… بل ملك ! …

ملك زهت بمكانه أيامه

حتى افتخرن به على الأيام !…

مليكى … يامليك العرب … سأفتح بابا على داخلى ، فهل أراك – كما كنت أراك دائما- تصعد التاريخ مزهوا بالصليل وبالصهيل … كى ترانى أدشِّن الأناشيد باسمك وأطلقها فى اللغة ؟!…

مليكى … ألم يزل يردِّد التاريخ وقع خطاك ؟!… ألم تزل تردد اللغة وقع قصائدى ؟!…

لماذا انهزمنا إذن ؟!!…

أكنا نقطع الصحراء إلى التاريخ أم كنا نقطع التاريخ إلى الصحراء ؟! ..

أكانت الصحراء هى المعنى الذى استصفيناه لأنفسنا ؟!! …

أكنا نقاتل مع الصحراء دفاعا عن فراغها ، كى لا تسرقه (الروم) من أحلامنا ؟!!…

هاهى تتناسل فى قلبى وتهدر فى عروقى بعراء يتسع بى !…

وها أنا أمد يدى فى التاريخ كى أروِّضه فى صحراء تركض فى أعقابى !…

أو لعلنى أغطى عراءها بجثة- قد تكون لى !…

ثم ماذا ؟! ،  مليكى ، ثم ماذا ؟!!…

ألا مخرج لنا من هذا الغبار الطويل ؟!…

لعلك تلعق الآن مرارة التاريخ- فى انهمار (الروم) كالرمال عليك !…

بينما القبائل التى خانتك تحكِم صحاراها حول عنقك !…

أما أنا ، فحاولت أن أقبض بيديا على الأيام كى أحد من جموحها .. حاولت أن أمسك بالضوء ، قبل أن تخبو النار التى أوقدناها لأجل العرب !… حاولت … نعم ، حاولت .. وما ذهابى إلى الأسود المختال- الذى لذت به فى عمائى الأخير ، سوى محاولة للبدء من نقطة أخرى … لكننى خدعت ! ، خدعت !.. وعدنى الأسود بالولاية وتغافل عنى وتركنى أتلهّب غيظا !.. نعم ، رآنى أحمق ، أجهل قدر نفسى ، فجارانى فى حمقى ، ليصرفنى عنك ، وليحملنى على أن أكذِّب كل ما قلته فيــك ، وبعد أن كان محطا لهجائى راح يقطف

من رياضى مِسك المدائح !…

أيا شر الدهور !… لك من كل قبح برقع !… أهكذا؟!… أتجعل الأسود المخصى ، ذا المشفرين المشقوقين – الذى غض منى وسامنى هوانا- حاكما بأمره فى إقليم كمصر ؟!!…

يالحزنى علينا !…

بكل أرض وطئتها أمم

ترعى بعبد كأنها غنم

يستخشن الخزّ حين يلمسه

وكان يبرى بظفره القلم !!…

(أصوات حوافر خيول وصهيل وجنود- تأتى فجأة- يبادر بالإختباء وراء إحدى الصخور ، الأصوات تقترب أكثر ، ونرى ظلال الجنود والخيول ملقاة على أحد جوانب صخرة أخرى عملا قة … )

صوت 1 : (بغضب) كيف يمكن للمرء أن يختبئ فى عراء كهذا ؟!…

صوت 2 : نعم ، يبدو أنه صُنِع من مادة أخرى غير تلك التى صُنِعت منها أجسادنا !..

صوت 3 : (يضحك بمرارة) أتعنى أنه كائن من لغة ؟!…

صوت 2 : لم لا ؟ .. هو أشعر الشعراء وأكثرهم سحرا .. وربما يكون قد حول الصحراء إلى كلمة ؛ مجرد كلمة ، واختبأ فيها ، وتركنا نفتش عنه فى الرمال !..

( ينفجرون بالضحك … )

صوت 1 : ياله من داهية !.. تعثر على أثره دون أن تمسك به أبدا !..

صوت 2 : لقد تجاوزنا حدود مصر بكثير ، هيا لنعود من حيث أتينا ..

صوت 3 : وما الذى سنقوله لـ (كافور) ؟!..

صوت 2 : (الأستاذ) يعرف أنه أرسلنا وراء شبح …

( الظلال تنسحب من فوق الصخرة العملاقة والأصوات تبتعد بالتدريج … )

 

إظــــــــــلام

 

المشـهد الثانى :

ــــــــــــ

[ يضاء المسرح على مكان آخر فى الصحراء : رمال ، صخور ، نعيق غربان … يدخل (المتنبى) حاملا (جثة العبد)- ويبدو منهكا تماما … يضع الجثة على الأرض ويغرس السيف ويجلس إلى جوارها ، يلتقط أنفاسه ، ثم .. ]

 

المتنبى :

 

رهان قلبى على الشِّعر دائما ، والشِّعر أبدا …

وليس بعد الشِّعر سوى مكان خرب أتيه فيه ..

وها أنا أبدو كنهار أخير يحترق فى صحراء لا تأبه به !

– أو أتعفَّن فى جثة خزّنت فيها نفسى !!..

( متحولا – للعبد )

أيكون موتك هذا فكرة سوداء تتمدَّد على راحتها فى نفسى المنكوبة ؟!.. وقد تكون كابوسا داهمنى فسقطت عن نفسى فى وهدة الليل !..

(لحظة صمت يبدو خلالها وقد هدئ قليلا …)

ربما كان علىّ أن أصيح عليك قبل أن أذبحك !..

إطمئن ، هاهى الصحراء تثأر لك ، وتندلع فى وجودى- كما أرادوا لى !..

قبحا لهم … وويل لمن ابتلى بصحبتهم …

( ثم فجأة …)

ألم أكن أحق منهم بتلك العروش التى يلوثونها بمؤخراتهم؟!! … (للعبد) لكنه أنت ! ، أنت الذى أغويتنى بالمجد لتلهو بى فى نزق حتى النهاية !.. ولم تكف ، لم تكن تكف – كأنك طائر جارح يركض خلف نَفَسِى الأخير ويحلق فى السماوات التى يسرقها منى !…

وكنت أصرخ : (أيها العبد .. إلى أين تأخذنى فى هذا السقوط ؟!.. وأين المجد ؟ ، أين المجد الذى وعدتنى به ؟!..) ..

لكن أحدا لم يكن يصغى لما أهمس به فى صراخى !… سنوات وسنوات وانا أحترق بصراخى- لأننى أعرف أن أوزارك التى ستبقى للتاريخ لن يحملها أحد غيرى !…

ولوّنت وجهك بدمى ورمادى الساطعين !…

(لحظة صمت يبدو خلالها مغمورا بالأسى … ثم … )

لعل الملائكة يأكلونك الآن !! …..

أمحتَّم علىّ أن أنام نومتى الأخيرة فى جثة لا تخصُّنى ؟!!…

هاهو وجهى ينزلق من وجهى ويغيب فى الليل !… كأنما أسقط فى اللانهاية التى يقبض عليها موتك !..

(متحولا …)

لعلنى أذعنت بما يكفى لعزلة كتومة ، فى صحراء صارت كهفا ، أمتص فيه نفسى بنفسى – بينما وجهى تعزفه الغربان !…

(فجأة- يبدو كأنما واتاه خاطرما ، يبادر إلى السيف وينزعه وينظر إليه كمرآة … لحظة صمت ، تعتريه الدهشة خلالها … ثم يلتفت إلى العبد … )

حتى السيف يلمع بوجهك !…

(يغرس السيف ، ثم منتبها- فجأة- متأملا … )

أما الشعر فيلمع بوجوه الممدوحين !…

(لحظة صمت يفكر خلالها ، ثم … )

أكان شعرى يلمع بوجهك ياأمير- بينما سيفك يلمع بوجهى ؟!…

نعم ، طوال الوقت كنت أحدِّق فى سيفك كى أرى وجهى … ولم أكن أعلم أن السيوف تلمع بوجوه القتلى ، فقط وجوه القتلى !…

وها أنا أبدو كشبح عاد فى ليل ثقيل ليفتش عن جثة يدخلها وينام !…

شبح ؟ .. هل قلت : شبح ؟!!…

أتعزفنى الغربان حقا ؟!.. أترتِّبُنى فى مرآة سوداء ؟!….

ربما .. ربما قـتلونى !…

(لحظة صمت يدور خلالها حول السيف المغروس … ثم .. )

ألأننى مددت يدى فى مجدك الفسيح لأملأها بالألق الذى استنزفناه من قلب (الروم) ؟!…

الألق الذى استحوزت عليه لنفسك ، مدعيا أنك صانعه- دونما اعتبار للدم الذى خاطرنا به حتى النهاية ، ولم يذكره أحد !..

واأسفاه !… ولم أُلمِح إليه فى قصائدى ، إرضاءً لما تبـيّنته فيك من ميل إلى المباهاة فاق كل حد !..

لكننى كنت أسطو سرا على ذلك الحيز من الزهو الذى تتمدَّد فيه ، بقصائد تسير بها الركبان- ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم … غافلين ذكرك ، أوربما كانوا يحسدونك على إيثارى لك وانقطاعى لمدحك من دونهم !…

أو لعلك لمست علو نفسى ، بينما أشاطرك المديح .. نعم , كان يعجبك بيت ما فى مدحك ، فتطرب له وتختال ضاحكا- فأبادر بإلجامك ببيت آخر ، أفخر فيه بنفسى … فتهيج غاضبا على هذا الذى ينازعك الخلود !!.. ثم تصب نقمتـك على ما تعده نقيصة ينبغى ملاحقتها وحصارها فى نفس الشاعر ، بغية تقويمى !! ، أوتلقـى  بى إلى خجل ينهشنى- كمن اقترف ذنبا يستوجب التوبة !! ..

ألأننى لم أؤثرك على نفسى ؟!!.. ألأنـك الأمير؟!.. أيكون هذا الإيثار بعضا من حقك علينا ، فقط لأنـك الأمير؟!… (ساخرا) يأمرنا الأمير أن نهب أنفسنا له ، ويأمرنا- أيضا- أن نجهد فى إخفائها بل وإلقائها إلى عتمة تسحقها ، وعلينا أن نمتثل ، مادامت هذه مشيئته !!…

لماذا ؟!… ألأننا لا نملك من أمر أنفسنا شيئا ؟!… ياللوهم !.. وهاهم الشعراء يتسابقون فى تعيين أنفسهم حراسا على ذلك الوهم !.. ويبدو أنهم قانعون تماما بالمكانة التى يحتلونها أمام أوجه الأمراء الساطعة- كمرايا صامتة !!..

وهذا ما كنت ترغب فيه منى ، لكننى جرحتك فى رغبتك تلك ، حين تخلَّيت عما يتمسَّك به المادحون الأخرون من بهرج أخلاق يستحثهم على عدم الوفاء لأنفسهم ، بتلك الفوضى التى أحدثتها فى القصيدة ؛ بجعلى إياهـا تتكلم عن المادح بنفس القدر الذى تتكلم به عن الممدوح …

وكنت أظن أنـك ستفطن إلى أن من لا يفى لنفسه لا يفى لغيره- هذا على الأقل …

وإن أردت أكثر، فليس بمقدور من لا يملك نفسه أن يمنحها لأحد .. لكنك لم تفطن إلى ذلك كله ، ولم تر غير رغبتك المتربِّصة بحريتى !… نعم ، حريتى … ولو تعلم كم أنا مشغوف بها مثلما أنت مشغوف بالمجد !…

أو لعلك لا تعلم … وإلا فيما كل تلك الحدود المعتمة التى أقمتها من حولى ؟!!…

(متحولا …)

ويا لقلبك !… قلبك الذى ظللت أتسوَّله سنوات وسنوات- دون أن أظفر منه سوى بالنقود !… ماظنك بى ؟!.. أنت الذى دعوتنى إلى بلاطك ولم أتكالب عليك بمدحى كالآخرين … ولو تعلم ، أقطعتنى الضياع وأعطيتنى المال ، لكننى أقطعتك تسع سنوات كاملة من عمرى ومن شعر العرب .. لا لضِياعِك أو لمالِك ، وإنما لأن ما تمنَّيت أن أكونه لم أبلغه إلا فيك … نعم ، حين عثرت عليك عثرت على بعض الإمتلاء فى مواجهة ما أكابده- الخواء الذى أكابده ؛ أو هكذا كنت أظن !…

لكنك لم ولن تجد من يلائم مجدك غيرى …

ولعلك تذكر أن لى فيك أكثر من ثمانين قصيدة ، وهو مقدار لم يجتمع لشاعر آخر فى خليفة أو ملك أو أمير !…

وظللت أنحت وجهك فى اللغة ، أنحت وجهك فى اللغة … كى أرى وجهى الذى أريد … لكننى لم أر غير كبرياء تفَحَّم !… نعم ، كانت لدي رغبة فى العبور إليك ، ولأنك كنت ترغب فيما أرغب فيه ، كنت تغير علىّ كأنما تفتح بلدا وتسلب ما به !…

إختزلتنى ، طاوعك قلبك واختزلتنى إلى مجرد مادح يثاب على مدحه- تماما كالآخرين ، الذين أسهبوا فى مدحك دون أن يأخذوا من ضوئك غير عتمتهم !…

واستكثرت علىّ ؛ أنا (أبو الطيب) ، الذى يُستغنَى به عن غيره ويُكتفى بشِعره عن كل شِعر ، استكثرت علـىّ أن أتطلَّع إلى مكانة رفيعة أرجوها ، وأن أدرء عن الشــــــــــعراء

كونهم ظلالا للأمراء … حاولت ، حاولت أن أحوذ لنفسى على لقب (أميراللفظ) مثلما أنت (أميرالمجد) … لكنك سعيت بدأب تحسد عليه ، إلى تحطيم الضوء الذى صنعته لنفسى- كى أحيا وأظل أحيا فى ضوئك أنت ، فرحا كالآخرين ، ثم أحترق به فرحا كالآخرين أيضا !!…

وأركض فى اللغة كصرخة بليغة !!…

(لحظة صمت يحاول خلالها إلتقاط أنفاسه .. ثم …)

دائما دائما … وجوه من مدحتهم تتصيَّد مرآة شِعرى !…

أمقدّر علىّ أن أظل إطارا خاويا تنعكس عليه وجوه الممدوحين ، دون أن يمتلئ بوجهه أبدا ؟!.. لماذا ؟!.. لماذا يا أمير ؟!!…

ألإلحاح الخانق على الحرية ، الذى كنت أبديه- لم يكن يليق بمادح يعَلِّق حياته على كرم الممدوحين ، أليس كذلك ؟… إعالتك لى كانت تحتِّم علىّ أن أرضخ لأهوائك ، وأن أتخذ منك سيدا لنفسى !… نعم ، كان علىّ أن أضع حدا لولعى باصطياد الأحلام التى لا تلائمنى !- كى يتراءى لى وجهى ، كما كان يتراءى دائما ، كغياب أخير آسر فى صخرة ميِّتة !…

(بأسى عميق …)

قد يصدق هذا على الشعراء جميعا ، أما أنا … لوتعلم ، لكنك لا تعلم ، لا تعلم بأن كل ماجدت به علىّ وتعُدَّه نفيسا ، أراه زهيدا !… نعم ، منحتنى عرَضا زائلا ، ومنحتك شعرا خالدا … وما يجب أن تعلمه أيضا هو أنك ستقيم فى التاريخ فى ظلال قصائدى !…

لكنك لا تعلم ، ولا ترى غير أنه يتوجَّب علىّ أن أحرق كل ما فى نفسى من آمال عظيمة ، وأصرخ فى وجه الضوء إذا ما سعى إليّ ، كى يدعنى أختفى فى صمت- لأستأثر من دون الآخرين بالحظوة وأرتفع عنهم فيما تمنح من عطايا !!…

يا له من رضوخ هائل ذلك الذى تدعونى إليه !…

(لحظة صمت ، ينظر خلالها إلى جثة العبد- ثم ، وقد اجتاحه الأسى …)

حتى الشعر ، الشعر .. يحيا بى … أما أنا ، فأموت به !… وأقف لم أزل بين موتى الذى تحمله معك .. وحياتك التى أحملها معى !!…

بينما الليل يسيل من الصخور !…

(لحظة صمت ، ثم …)

قل لى يا أمير … ألا يقوم نبوغى مقام نُبل المولِد ؟…

سألتـك أن تمنحنى الولاية على أحد الثغور- فأبيت !.. أكان ذلك لوضاعة نشأتى ومن ثم ضآلة شأنى ؟!…

لعلك كنت ترى أننى أتوارى فى وضاعتى مثلما تتوارى الصحراء فى عرائها !!…

(متحولا …)

حقا كان أبى من غِمار الناس ، ولم أنتسب إلى بيت أو عظيم- فأبى (الحسين) ، كان يحمل الماء على جمل إلى بيوت الناس بالكوفة .. لكن ذلك لم يسوءنى فى شئ ولم أشعر

خزيا ، بل لعله أفادنى كثيرا وجعلنى أتيه عجبا بنفسى وأنأى بجانبى ، حتى أننى لم ألاقى أحدا إلا مترفِّعا ، رافلا فى بردية … نعم ، أنا القريع الذى لا يقارع والتريع الذى لا ينازع .. أفتخر بأدبى لا بنسبى ، وأتطاول على أهل زمانى بفصاحة لسانى وبضرابى وطعانى … أنا فخر أمة لا بيت أوقبيلة .. وإن كان لرجل مثلى أن يوصف بضآلة الشأن ، فبما نصف غيرى من الرجال إذن ؟!… أم تراك أبيت لأنك كنت تخشى اليوم الذى أتحفَّز فيه للوثوب عليك – مثلك فى هذا مثل (كافور) ؟!…

أصدقك القول ، ألتمس لـ (كافور) العذر فيما فعل بى ، غير أننى لا أجد لك عذرا ، ولا أعفيك من تبعة الغدر بى !..

(متحولا …)

أهدرتنى .. أهدرتنى يا أمير !..

أنا الذى جعلت من نفسى بوقا لك وأذعت مجدك على العالم …

لكنك أنكرتنى حين استجبت للوشاة والكائدين ، وتركتهم يدسُّون لى عندك ، حتى نزلوا بى إلى حد التبَذُّل والإمتهان … ثم رضيت عن قتلى ! .. رضيت ! ، رضيت يا أمير !!…

رضيت … فصار لدي ما يكفى للرحيل !…

ليس بحثا عن أمير جديد أتيه فى مدحه وهمَا بإمارة الشعر ، ثم أنحنى لألتقط عطاياه !… وإنما بحثا عن (أبى الطيب)- المختبئ فى طوايا نفسى ؛ المحتجب فى سريرتى ! ، (أبو الطيب) الآخر … الذى طالما سعيت إليه سِرَّا ، دون أن أدركه !!…

ذلك أنه لم يكن ممكنا أن أطيل البقاء بعيدا عن أحلامى …

وظننت أننى سأجد عند (كافور) من رفعة الشأن ما أغيظك به !… نعم ، قبل أن يدركنى الوقت ، صارعلىّ أن أتكسَّب بشعرى وأتخذه مطية لمآربى … لم لا وأنا لم أظفر منه سوى بكل بخس زهيد ؟!..

سأجمع فى نفسى بين إمارة الشعر وإمارة الحُكم- فى زمن فقد فيه شعر المديح أسباب وجوده ، بل الشعر كله ، ربما ، لم يعد يعنى شيئا !- بعد أن هَرِمَت دولة العباسيين وتوزَّع إرثها بين غرباء لا صلة لهم بلغة العرب !..

(يحمل الجثة ويمضى … ثم .. )

وها أنا ذا أتطلَّع إلى مصر … حيث كانت آمالى تحط هناك ، عند (كافور)- عسى أن أجد فيه ممدوحا آخر ، أكثر تعاطفا ، يهبنى نجمة ؛ نجمة واحدة … يدرك بها أمير حلب أن الذى غادره إنما غادره إلى الأعالى !…

نعم … الآن ، الآن ، أوقن أن ذاك النمط من الوجود – الذى كنت أحياه فى كنف الأمير- لم يعد يلائمنى !… أما (كافور) ، فياله من رجل !.. كم يشبهك يا (أبا الطيب) !… حطَّمه سواده بمعاول بيض !- إلا أنك سوف تشبهه .. ستشبه ذلك الرجل الذى لملم أشلاءه بيديه ، وابتعث نفسه من جديد !…

لكونه مثلك قد تحبه ، وقد تصبح هو نفسه !… لقد أتيح له من النبوغ والظفر بما لم يظفر به أذكياء الناس – ممن اكتملت لهم العُدَّة وتمت لهم أسباب الفوز ، دون أن يرث ذلك عن أب أو أم !…

(يضع الجثة على الأرض …)

حين جال ذلك بخاطرى- بينما كنت لم أزل  فى الطريق إلى مصر .. كنت قد بدَّلت قولى فى (كافور)- الذى هجوته كثيرا من قبل !…

وما ذلك التبدُّل إلا لأننى فيما مضى ، كنت أقاتل مغمض العينين ، وحين فتحتهما أبصرت دمى مراقا بـ (سيف- الوهم) !!.. أنا ، أنا الذى أبديت على الدوام تكتُّما ملحوظا فيما يتعلق بسريرتى … نعم ، فأحد لم يكن يعرف أن (أبا الطيب) يَكِن إعجابا خفيَّا بذلك العبد !.. ولم لا ؟!- ألم يجعلنا نراه كما أرد لنا أن نراه؟ .. ألم يبدو كزهرة سوداء قُذِف بها داخل الزمن ، لتتهشم رائحته البيضاء ، الصلبة ، على رؤس ساكنيه ؟!..

أليس فيه من القوة ما من شأنه أن يحمل إلى الزمن شيئا جديدا ، شبيها بما حمله (أبوالطيب) إلى الشِّعر ؟!..

لعل قلب الزمن كان ينبض فى اللحظة التى أطلق فيها (كافور) عاصفة العبيد على المعنى الذى ترسَّخ فى أذهاننا عن لونهم !…

كم يشبهنى !… وحرى بى أن ألتمس نفسى فى رجل يشبهنى …

( يغنى …)

(أتركه أيها القمر ..

أتركه يرقص ..

واحرسه أيها القمر

عندما يأتون ببياضهم الخانق ..

احرسه ، فى الليل …

كى لا يجروء أحد على إسكات لونه …)

هكذا غنَّيت- دون أن يسمعنى أحد !…

(متحولا …)

أبمقدور (كافور) ، أباستطاعته حقا أن يوفِّر لى الولاية التى لم يجرؤ (سيف الدولة) على المجازفة بها ؟!..

لم لا ؟! .. السواد الآن يتنفس فى جلود حُرَّة !…

(متحولا …)

وما أن وطأت قدماى أرض مصر ، حتى رأيت الصخب وحده فى انتظارى !…

لم تكن حياة الناس تجرى على مألوف عهدها .. فالعبيد كان لديهم مايكفى من القوة للتفاخر بوجود سيد من نسل حام ، قابع على رأس اللحظة !.. وهاهم يلوحون بلونهم ! ، وبالمجد الذى أحرزوه ! …

أما السادة القدامى ، فقد ألقى بهم فى مستنقع أبيض !…

هكذا … ومع ذلك ، بدا الأمر كأنما الليل وحده هو الذى يتكلم !.. أو كأنما مصر كلها تغرق فى الليل … والعبيد يصعدون ، وحدهم ، ويتجولون ، وحدهم ، فى سماء قذرة !…

هذا ما أحسست به … نعم ، فالغبار الذى أثاروه كان يكفى لإطفاء كل شئ- بما فى ذلك الأمل الذى تلمع به جلودهم !…

كانت أياما غير محتملة ، ورائعة- مع ذلك !…

لعل كلا منهم كان ينهل من الصخب والحلم بقدر استطاعته !…

كنا نصغى إليهم ، فى الليل ، بينما يرفعون عقائرهم فى الطرقات ؛ بلغات أخرى ، تبدو كصرخات وحشية ، لموتى بعثوا أخيرا ، بعد طول رقاد !… كانوا يغنون … ولم نكن نسمع غير النعيق الذى عرفنا أنه لن يبقى منهم سواه !…

ما أتعسهم !…

بفضل (كافور) أتيح لصخبهم أن يظل حيا لبعض الوقت … لكنهم ظلوا مبعدين ، ولم يدعُهم (كافور) لصوغ وجودهم بأنفسهم !…

ما أتعسهم !…

كان يمكن لى أن أكون إبنا لأحدهم- لولا خشية (الخرسانى) من زواجهم بالحرائر فى الكوفة .. فأعمل السيف فى رقاب أربعة آلاف منهم- بعد أن حاربوا معه ونصروه على بنى أميَّة !!…

ما أتعسهم !…

تحررهم جعل كلا منهم يبدو وحيدا فى حلم يلمع كالذهب الذى ضاع منهم وضاعوا به- فى التاريخ !….

أكانوا نارا سوداء سرت فى هشيم أبيض ، دون أن تحرقه ؟!…

ثاروا على السادة البيض ، وظلوا عبيدا !… هؤلاء المخصيون ، أى مستقبل ينتظرهم إذن ؟!…

ما أتعسهم !… وما أتعسك يا (أبا الطيب ) !…

أكان عليك أن تصير عبدا بين عبيد آخرين ؟!!… أكان عليك أن تأخذ نصيبك من هذا السواد الثقيل ؟!!…

حتى (كافور)- العبد ، الذى ظننت أنه سيتفهَّم حزنك ومأزقك فى الوجود ، خان قومه بالسيد الأبيض الذى بداخله ، ودسَّ لك السِّم فى كعكة المجد التى دعاك لتتناولها معه- بالعبد الرابض وراء لونه !…

عبد ؟!… وأى عبد!…ألا يكثر من التهجُّد وتمريغ الوجه ساجدا ، بينما يردِّد : (اللهم لا تسلِّط علىّ مخلوقا) ؟!… فيما كل هذا الخوف من الآخرين إذن- إن لم يكن يرتفع عنهم بمقدار سقوطهم ، ويقيم وجوده على تلك المساحة من الحرية التى انتزعها منهم عنوة ؟!!…

واأسفاه على عبد يسرق عرشا ليتدثَّر به ، ويظل عبدا- مع ذلك !… يخترق جدار لونه السميك ويجوس فى الضوء ، ثم يلوِّثه بسواده ويخنقنا به !… لله سر فى علاك .. لله سر فى علاك !…

وكان علىّ أن أجد الصمت الذى يمكن لى أن أتنفس فيه- منقطعا بذلك عن (كافور) .. حتى صارت بيننا فجوة – وقبل أن يأخذنى على غفلة ويقـتلنى غيلة ، فررت هاربا !…

إيه يا (أبا الطيب) !…

هل جئت لتلحق بالإيقاع المتسارع للفوضى السائدة فى عصر تـتـتـابع فيه الخيانات ؟!!…

 

 

إظــــــــــــــلام

 

*

المشهد الثالث :

ــــــــــــ

[ يضاء المسرح على مكان آخر فى الصحراء : عراء ، صخور ، ليل حالك … ثم الجثة والسيف المغروس فى الأرض … بينما (المتنبى) يروح ويجئ متوترا ، قلقا …]

 

المتنبى :

 

كم أبدو كضوء نجمة يطاردونه كأنما هم فيالق ليل لا تبقى ولا تذر !…

الليل .. نعم ، الليل- تلك العباءة السوداء التى تتوارى تحتها حياتى الآن ، الليل .. هو ماتبقى لى بعد الأمل الذى كنت مفعما به إلى حد السُّخف !…

(من خارج المسرح- تأتى أصوات ضحكات صاخبة ، ساخرة ، مختلطة بصليل سيوف وصهيل خيول … يتلفت حواليه بحثا عن مصدر الصوت- ثم بأسى عميق …)

كأنما أسمع سيفا أعرفه جيدا ، يتيه الآن فى الدم والخيبة ، ويجاهر بصليل صدئ- ولا يتميز عن غيره من السيوف سوى بالمعنى الذى أضفيته عليه بمدحى له !!…

(صوت الضحك يعلو … )

كأنما الصحارى تنهمر من فقاعة متخمة بالهراء!… أو لعله الغبار الذى تثيره خيولك الميِّتة – بينما تصهل فى قصائدى !…

(صوت الضحك يأتى أكثر صخبا …)

لو تعلم ، جشَّمت نفسى أسفارا أبعد من آمالى- ركضا وراء المُلك الذى وعدت بإغاظـتك به ، دون جدوى !..

(صوت الضحك …)

لكنك لا تعلم كم فقدت رغبتى فى المُلك- حين رأيت تيجان العواصم تلمع بانطفائنا !…

(صوت الضحك يبدو أكثر سخرية … المتنبى- بأسى بالغ ..)

أكان علىّ أن أقطع أشد الطرق قسوة كى أسقط – أخيرا- فى السقوط الذى كان وسيظل ممكنا ؟! ..

أكان عليّ أن أحصل على ما يكفى من السقوط ، لأفقد قدرتى على الحلم ، وألوذ بميتة مهملة ؟!!…

(يصغى إلى الضحك بألم … ثم يدور فى مكانه بحثا عن مصدر الصوت- ثم فجأة … )

أيتها الصحراء … أتسمحين لى بهذه الرقصة !…

(بينما يرقص متألما …)

أعليّ أن أقبل بذلك الألم الذى يجتاحنى الآن ، بوصفه جزءً من الطبيعة ؟!..

أعليّ أن أقبل بالحد الأدنى من الوجود الذى يتيحونه لى ، كى لا أتحول إلى غبار؟!!…

ها أنا أقف وحيدا أمام الليل .. وأعلم أن سخطى وغضبى ونقمتى ، جميعا ، لا يعنون الوجود فى شئ !…

نعم ، الوجود يمضى ، كما يمضى دائما ، غير عابئ بتيار دمنا الذى يجرى فى التاريخ !!…

(يكف عن الرقص …)

يالها من رهانات خاسرة !…

(ثم منفجرا فجأة …)

يجب أن تعلم أننى لست بالأعمى الذى ضل فى العاصفة .. ورغم أن كل ماحدث يبدو كإملاءات حلم لا سلطة لى عليه ، إلا أننى أرتبط بالتاريخ … نعم ، التاريخ يتضامن معى ، كما أننى أحسُّه بعقلى !..

(صوت الضحك يزداد صخبا وسخرية …)

تهكم يا أمير ، تهكَّم على المصير الذى انتهـيت إليه ، وعلى ما تظن أنه انكسارى ، تهكَّم كما شئت … لكنك لا تعلم أن الجحيم الذى أكابده الآن ، عليّ أن أبقى فيه لأحيا !…

(الضحك الساخر يستمر – ثم للعبد … )

هل تسمعه ؟ ، هل تسمعه أيها الميِّت ؟!… هذا الأمير الذى يسخر مِنِّى الآن- أرسل إليّ يستحثنى على العودة إلى بلاطه .. أتعرف لماذا؟ .. لأننى حين فررت ، فر معى الشعر أيضا … نعم ، غيابى أحدث هاوية فى حضور الأمير !… والآن يريد أن يستردنى من جديد ليملأ بى تلك الهاوية !… أم تراه عثر- أخيرا- على جثة تليق بالشاعر الذى ناطحه طويلا بينما يمتدحه ؟!…

( الأصوات القادمة من الخارج : ضحكات ، صليل ، صهيل … تتصاعد بالتدريج- المتنبى ، يتراجع إلى الخلف فى ذعر ، ويظل يتراجع مع التصاعد العنيف للأصوات- حتى يصطدم بالجثة ، فيختبئ وراءها … الأصوات تتراجع بالتدريج حتى تختفى- لحظة صمت ، ثم …)

ياللرعب !…

(للجثة) وبينما أتضاءل ؛ أنا الحى … تصير أنت أكبر حجما !…

(متحولا) أكان عليّ أن أمَجِّد القـتلة بدمى الذى أراقوه دائما ، لأضع حدا لحياتى التى يصنعها الموت ؟!..

أكان عليّ أن أجد حريتى فيما هو متاح لى ، بدلا من الغياب الذى يغمرنى الآن ؟!…

(للجثة) أنت أيضا تلاقى نفس المصير- حتى أننى أبدو كأنما أتحدث من فمك !… نعم ، ربما كان عليّ أن أضمك إلى صدرى بدلا من أن أقـتلك !… أنظر … (يمد يده إلى الجثة) هاهو دمك يعوى فى يدى … أم أن يدى هى التى تعوى فى دمك ؟!… لو تعلم ، حين مددت يدى (مشيرا إلى قتل العبد) ، إنما كنت أمدُّها فى أحلامى كى أمسك بما ظننت أنه حريتى !…

(ينظر إلى يده) لكننى لا أعرف ما إذا كانت يدى حقا ، أم يد الوهم !…

(يجذب حبلا مدلَّى من أعلى- فتهبط شبكة ضخمة من السقف ، ممتلئة عن آخرها بأكياس النقود ، هذا وتبدو الأكياس سوداء كوجوه العبيد “رؤس مقطوعة” ، ثم للجثة ..)

ما أكثر الرؤس التى تهاوت منك .. ولك أن تحصيها بهذه الأكياس المعبَّأة بالنقود !…

كنت أرسلك إلى الممدوح بالقصيدة تلو الأخرى ، وأنتظر ريثما تعود … كنت أنتظر بيدى هذه (مشيرا إلى يده اليسرى) لآخذ ما تأتنى به من عطايا .. ثم بيدى تلك (مشيرا إلى يده اليمنى) كنت أقـتلك !..

كم تصاغرت فى سبيل الحلم ، وكم قـتلتك فى نفسى كى أبرأ من هذا التصاغر !..

نعم ، كنت أباغت التصاغر بكبريائى المسنون !…

لكنك حين مِتّ ، تركت وراءك جثثا هائلة لم تزل تصرخ بداخلى !…

ومع ذلك ، فبدون هذا التصاغر ما كان لى أن أصل أبدا إلى مايحسدوننى عليه الآن !!…

ولو تعلم … هذا هو مأزقى فى الوجود ! ، كأنما كان عليّ أن أضيّع نفسى لكى أجــــــدها !.. وأن أواصل عبوديتى ؛ أن أقطعها إلى آخرها- لأختصر المسافة إلى حريتى !…

(متحولا) كل ذلك السخط الذى أبديته ، أما كان له أن يخدم الحرية فى شئ ؟!.. فيما قـتلك إذن ؟!!…

(لحظة صمت ، يبدو خلالها مدهوشا … ثم متأسيا ، للجثة …)

كان يجب أن تذعن … كان يجب أن تذعن .. لكنك لم تفهم أن من يتَّصل بعظيم ما وكى يحوز جوائزه ، عليه

أن يعرف ما انطوت عليه نفسه وما يذهب إليه … ويكثر من مدحه ؛ بذكر محامده وإعلاء شأنه ، فالممدوح … (يتوقف عن الكلام- فجأة- منتبها) ماذا ؟!… الممدوح ؟!!… بل المخدوم ! ،  كنت أعنى المخدوم !…

(لحظة صمت يبدو خلالها أكثر دهشة- ثم كالمنهار ..) وما الفرق … ما الفرق ؟!!…

ألا تعترف يا (أبا الطيب) أنك أبحت لنفسك أن تفعل بممدوحيك ما أنكرته على هذا العبد المسكين ، حين حاول أن يلتئم بحلمه فى التحرر من مخدومه ؟!… وبينما تؤاخذ ممدوحيك على منعك حقا هو لك ، منعته حقا هو له !… وقـتلته !… قـتلته يا (أبا الطيب) !.. أنظر ، أنظر إلى كفِّه لترى كم هو صغير … أيمكن لكف كهذا أن يحوى من النقود ما يجعله مستحقا لكل ذلك الموت ؟!..

(يبدو متألما- لحظة صمت ، ثم …) تبا لك ، تبا !… فى غمرة بحثك عن نفسك مزقتها بقتله !…

(نعيق الغربان يجتاح المسرح بالتدريج …)

نعم ، قتلته كثيرا … حتى تعبت من قتله- ولم تعثر على حياتى !…

ولعلنى أخشى حين أدفنه ، أن أدفن معه الأفق العنيف الذى أيقظه فى نفسى- ذلك الأفق الذى أدركت به أننى أقف بين زمنين ؛ أحدهما يجنح للإعتام ، رغم إشراقه .. والآخر أوشك أن يشرق ، رغم إعتامه !.. لعلنى أخشى أن أقف وحيدا أمام قبر أيامى الخوالى ، ألعق غبارها المُر .. وفى يدى باقة شِعر ذابلة !… بينما الزمن الوليد يدهمنى بالدهشة !….

وأى دهشة !… الدولة انفرط عقدها ، وبينما كل حبَّة فى انفراطها ، تفرح مأتلقة ، أو تترح محترقة ، فإنما تشير إلى أن الزمن قد تضرَّج بعجمة داكنة ، يتيه فيها الشِعر !…

ما أقسى الزمن ، وما أتعسك يا (أبا الطيب) !…

الأعاجم بُكم … نعم ، العُجمة عماء … والشعر نجمة من لغة … أى ضوء يمكن أن يُحَسّ إذن ؟!…

(يدنو من الجثة وينظر إليها بأسى … لحظة صمت ، ثم …)

فى زمن كهذا ، كم يبدو الشاعر مستحقا للأسى ، كعبيد (كافور) !…

ولو تعلم … لازالوا معى … كأنما يصرخون بصوتى هنا ، مثلما كنت أصرخ بأصواتهم هناك !…

لعلنى خذلتهم حين هجوتهم فى (كافور) … وحين هجوت (كافورا) فيهم … لكن ما حيلتى ؟!… ها أنا أصرخ فى صراخهم- فهل تغير التاريخ ؟!…

أم أن رائحتنا نحن الموتى تغلق دونها الأبواب !…

(نعيق الغربان يجتاح المسرح …)

ما كان لنا أن نتطلَّع إلى أمر غير ممكن … ما كان لنا أن نتطلَّع إلى ماهو أكبر مما نتوقَّع وأعظم من أن ينفد … نعم ، ما كان لنا أن نتطلَّع إلى السماء أكثر مما يجب !..

لو أن للمدى قلبا ، لبكى علينا … نحن الملدوغون بالوهم- كان يجب أن نرضى بسماء واطئة ، نتثاءب فيها إلى آخرنا !…

(لحظة صمت ، يعطى خلالها ظهره للجمهور- بينما يدنو من الجثة …)

أحدنا حى تقريبا ، والآخر ميت تقريبا … كأنما نحتدم بداخل شخص ما !…

(ينحنى على الجثة وينظر إلى وجه العبد كأنما ينظر فى مرآة …)

أحدنا جثة تتمرآى فيها روح الآخر !… من منا يتلاشى الآن فى المرآة ؟!…

على أحدنا أن ينزع نفسه من هذه الجثة ، ليغرسها فى أزمنة أخرى …

ويا لها من لحظة نادرة … هناك ما ينذر بالقدوم .. هناك ما ينذر بالأفول !…

(يبدأ فى إلتهام الجثة- هنا يتم إظلام المسرح بالتدريج ، وبينما نعيق الغربان يصّاعد- من الظلام يتدفق صوت المتنبى …)

الآن وجهى فقط هو ما يمكن أن يؤنسنى … لو أراه ، لو أراه قليلا !… أى غبطة يمكن أن تغمرنى لقهر الليل ! ؛ كل هذا الليل !- الذى أسعى فوق جلده ، كشبح هارب فى الخرافة التى تخبزها الصحراء الآن ، بحثا عن قمر آكله أو يأكلنى !…

(نعيق الغربان يجتاح المسرح بصخب … ثم يضاء المسرح على “المتنبى” ينهض من فوق بقايا الجثة ، ويلتفت إلى الجمهور- فيبدو وجهه وقد تحول إلى وجه العبد الأسود … ينظر إلى الجمهور قليلا ، ثم يتجه إلى الشبكة- بما فيها من أكياس النقود ؛ التى هى وجوه العبيد- يتحسَّسها بشغف ، بينما يدور حولها … وما أن يتوارى خلفها حتى يصبح وجهه الأسود مجرد وجه مضاف إلى وجوه العبيد …)..

 

ســــــــــــــتار

 

*

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock