الناقدة البحرينية زهراء المنصور تكتب عن “قبر الولي” للكاتب المسرحي الإماراتي.. جمال مطر

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

زهراء المنصور: ناقدة من البحرين
ـ
برزخهم
حكاية قديمة تتجدد بصور مختلفة في كل زمان: “قبر الولي الصالح”، هذا المكان الذي يمتلئ بأصحاب الحاجة، المؤمنين بالوصل للشعور بالطمأنينة، شفاء الأرواح المنهكة الذي لا يهتم معظم القادمين إليه بالسؤال عن أصل الحكاية؛ قدسية/ خصوصية/ إرث اجتماعي/ مفهوم ديني، فكرة تعمقت عبر الوقت، سمِّها ما شئت، فكل التبريرات مقبولة لأنها تقع ضمن نطاق المعتقدات غير القابلة للمناقشة -خصوصاً الدينية-، جدل عقيم لا يفضي إلا للمشاحنات والتوتر، ولن يستفيد أحد من تغيير قناعات إيمانية لشخص آخر على الإطلاق، ما عدا نزعة الانتصار الداخلية التي يشعر بها بعض المتشددين! فالممارسات الدينية خاصة بالفرد وحده فقط، ولا أحد غيره.
ولا يعد موضوع قبور الأولياء في البلاد العربية أمراً مستنكراً أو غير مألوف، مهما بدا هذا الأمر غير منطقي للعقلانيين. فهو ملاذ للقادمين متوسلي الرحمة، دافعهم الضعف الإنساني الذي يجعل من الإيمان بالخوارق والمعجزات باباً كبيراً للأمل والنجاة، مثلما يلجأ بعض الراشدين –بدون مقارنة-في غفلة من الوقت إلى مشعوذ/قارئ كف أو فنجان يرشدهم أو يعلمهم عن الماضي والمستقبل. شعرة تفصل بين الإثنين مثل ما قال عبقري السينما المصرية أحد زكي في فيلمه الشهير البيضة والحجر: “الضعف ما بيفرقش بين جاهل ومتعلم!”. هي طبيعة النفس البشرية التي تمر بانكسارات، أو تعيش انهزامية، دون البحث عن الأسباب الحقيقية. وبعيداً عن التشدد الذي يصل للتحريم عند البعض، لا يتوقف الناس في مختلف بقع الأرض عن إنشاء وتمجيد هذه الأماكن -غير المعروفة والواضحة تاريخياً تحديداً- ومن ثم توافد العامة للتبرك. وللتذكير؛ فإنها عادة لن تنقطع مادامت الحياة ومادامت هذه “العقيدة الحياتية”.
في “قبر الولي” للكاتب المسرحي الإماراتي جمال مطر، استخدم هذه الفكرة؛ حيث تناول النص الثيمة العامة لقصة المثل الشعبي “دافنينه سوا”: صديقان يمتلكان حماراً يستعينان به لقضاء الحوائج، ومات “أبو الصبر”، كما كانا يسميانه من ثقل الحمل عليه، فحزناً عليه حزناً شديداً، حتى أنهما قاما بدفنه بشكل لائق، لفت نظر العابرين الذين سألوا عن الميت، وتأتيهم الإجابة بأنه أبو الصبر، ليظن الآخرون أنه ولي صالح! فتنهال عليه التبرعات التي تتضرع أن تلبى أمنياتها وحاجاتها. وهكذا ظل الصديقان في عيش رغيد من جراء هذا الكسب غير المتوقع، حتى اختلفا يوماً ما على اقتسام الهبات والتبرعات، فأشار أحدهما أن مقام سيدي أبو الصبر سيأتيه بحقه! ليجيبه الآخر: احنا دافنينه سوا! وهذا المثل يستخدم في السر بين اثنين، لا يعرفه غيرهما.
لذا يبدو أن ما قام به مطر ليست فكرة جديدة، لكنه عمّق لمفاهيم ومعانٍ مرتبطة بالبيئة، والمكان، ووزن الأشخاص في مجتمعاتهم. فهذان غريبان قررا المجيء إلى القرية القاحلة لبيع الماء بسعر مضاعف للسعر الحقيقي، ممنياً “يوعان” نفسه، ومرافقه وابن أخته “عبيدان”، بالأموال التي سيجنيانها من تجارتهما الرابحة. لكن لما مات الحمار من ثقل الماء على جسده، ونزل المطر، قاما بتغيير الخطة حسب الأجواء التي تهيأت أمامها! وكما سيناريو قصة المثل الشعبي هو ذاته، ذلك أن عموم الناس مستعدون لتقديس العادي إذا تلاشى أملهم في الواقع، وهذا ما حصل حينما شاءت الصدف أن يتساقط المطر بعد موت “أبو الصبر”، نفس الأفراد الذين هيئوا المكانة والقدسية الوهمية لــ”يوعان” و”عبيدان”، هم من لجأوا لاحقاً لتقديم النذور والتبرعات حتى تقضى حوائجهم! الفرق بين القبور الصامتة وبين ما هو مختلق هنا بالنص –ولازال قائماً في أماكن كثيرة- هي أنها طرحت بركتها وتركت للزمن استمراريتها عبر القائمين عليها، وهو مصطلح مقلق، لأن المقدار غير محسوب، وأموال الناس والتبرعات والهبات تذهب على “هوى” القائمين!
ونستفهم من سياق النص سيكولوجية الطرفين: المحتاجون، وهم كل الأهالي الذين ظهروا في النص، في رضوخهم غير المبرر لأشخاص لا يبدو أنهم يملكون أية مؤهلات “روحانية”، ولا قدرات خارقة لعلاج العقم، أو رد الغائب، أو فك السحر، ومنطقياً لا يبدو أن هذا يمكن حصوله، ومع ذلك يتآمر الأهالي على تعزيز مكانة “يوعان” ويتبرعون بابتكار شهادات حية، عن قدرة الشيخ على “التفل” في عين أعمى فــ”قام يشوف زين”!(1)، أو حين يمسح بيده “المباركة” على قدم مكسورة، ليقوم الولد بالمشي فوراً، وكلها حكايات تظهر الرغبات الداخلية في أن يكون هذا الكلام صحيحاً ويتحقق مرادهم مهما كان!
أما نفسية الطرف الآخر، التي كشفها مطر، فتكمن في شخصية “التاجر” الحسابية، الذي يحسب كل فرصه في الربح. نموذج “يوعان” لا يخسر، لأنه متحول، ومستفيد من أي وضع حوله! وحتى الحلول التي من المفروض أن يقوم بها لزواره، يأتي دائماً من القدر الذي يتعامد مع رغبة الشخص الشديدة، واستعداد كل طاقات الجسم والعقل نحو الهدف المنشود. فإن تحققت فعلاً، فالخير ينسب لــ”يوعان”، ولو حصل العكس، فإن لذلك مبررات وتفسيرات “إيمانية” أخرى متعلقة بالرضا بالقضاء والقدر.
وتتقاطع هذه الصورة مع مشاهد عرضت في السينما بشكل واضح أكثر من المسرح، ولا ينسى المتابع الضجة التي حصلت بعد عرض فيلم “صاحب المقام” المنتج في 2020م للكاتب إبراهيم عيسى، بين مؤيد ومعارض، إذ يصر البطل على بناء منتجع سياحي بعد هدم “مقام”، لتتوالى النكسات المتلاحقة في حياته، حتى تظهر له “روح” مرشده لتدله على تلبية الطلبات في مقام آخر، اعتاد رواده الكتابة على شكل رسائل. ولم تكن هذه المرة الأولى في تاريخ السينما المصرية التي يعرف أهلها بحبهم لآل البيت، وزيارة المقامات للتبرك والدعاء، باعتبارهم أصحاب مكانة عند الله، بل إن أكثر من فيلم تعرض ولو بشكل جزئي لهذه المعتقدات، مثل الطبيب إسماعيل في “قنديل أم هاشم” للروائي يحيى حقي، الذي حارب الجهل في قطرة زيت قنديل المسجد، فحاربه مرضاه، لأنه ببساطة ضد معتقداتهم غير القابلة للنقاش. ولا ينسى المتابع “حادثة” زيارة الست أمينة لمقام الحسين في فيلم بين القصرين لنجيب محفوظ، وغيرها من الدراما التي تظهر القناعة والتسليم الشديدين من قبل فئات البشر بأهمية بركات صاحب المقام، حتى لو كان مختلقاً، كما في نص “قبر الولي”.
ومن هذا المنطلق، يجيد “يوعان” تجيير الأمر لصالحه، فيقول إن لله عباداً، متى أرادوا أراد! ويسوق من الآيات الكريمة ما يعتقد أنها مؤثرة في النفس، مثلما استشهد بسورة يونس:” أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”. وهو بذلك ترسيخ لمكانته بينهم، حسب النص القرآني الذي يعني به نفسه! أما التأكيد لكل ما سبق، فهو في تذكيره لمريديه “أن لا ننسى وتشغلنا الدنيا أن للولي حقوقاً وواجبات، لذا وجب أرضاؤه، وهو لا يطمع إلا في القليل من أموالكم، القليل من زرعكم، والقليل من أغنامكم”. وأخيراً، لإحكام الخطة بالتأثير والترهيب الخفي لمرضاة الله عن طريقه، يوصيهم بالكتمان، حتى لا تفضح مقدار العطايا التي تصله منهم تحت مبرر” “كل يفعل الخير بطريقته وخفية عن الناس”!(2)
واستخدم قبر الولي الأنثى للتضحية بها من أجل استجداء نزول المطر، وهي عادة وجدت في الحضارات القديمة، خصوصاً فيما يتعلق بخصوبة الأرض المرتبطة بنزول المطر، وإعطاء حياة جديدة مستمرة تعيد إحياء الزرع والبشر. ولم يجد أهل المكان ضحية أفضل من “المستضعفة”، المرأة البلماء/الخرساء التي تعاون الجميع على توجيه الاتهام لها، وأنها سبب كل القحط وشبه انقطاع الحياة عن المكان، ومن الواضح أنه تم اختيارها تحديداً لأنها وحيدة، لا تجد من يدافع عنها، وفاقدة للنطق، أي لن تستطيع الدفاع عن نفسها، والسبب الأكبر أنها جميلة إلى حد أن لا ذكر في الحي قاوم جاذبيتها ولم يغازلها. ويفهم القارئ من هذه المقدمة الكاشفة أن سبب إصرار الرجال على ربطها في جذع الشجرة وتركها لمصيرها هو مستوى متأخر بالنسبة لشعور الزوجات/ النساء بوجه عام من الغيرة التي نخرت قلوبهن، حتى دفعوا الرجال/ المجتمع إلى نبذها بهذه الطريقة، وتحميلها أعباء اضطراب الطبيعة، الذي يعبر عن اضطراب هذا المجتمع بالكامل.
واشتغل جمال مطر على مفارقات فاضحة تعكس الخيوط الداخلية للنص، مثل المرأة الخرساء التي لم يحدد لها أي ملمح في توصيف الشخصيات، ماعدا صفة الجمال التي تكشفها الحوارات لاحقاً، صفة مصدر ضعف وقوة التضحية تتهم بها، لكنها تقضي على “يوعان” بنظرة عين! “من شفتها وأنا حالتي جيه جنها ضربتني بعين.. أنا ميهود ومريض، وأحس إني ما بقوم من الفراش بعد هاليوم”(3)، ومن دون الإشارة أن المقصودة هي المرأة الخرساء، حتى يكشف النص هذا في نهايته. أيضاً بائع الماء “عبيدان”، لما قرر أهل القرية تكريمهم كضيوف وذبح الذبائح لهم، كان طلبه الأول أن يشرب ماء!
ولن يبدو غريباً وصية “يوعان” أن يرجع “عبيدان” ابن أخته إلى دياره الأصلية، حتى لا يكتشف الأمر حتى بعد وفاته، أو حتى لا يكون المستفيد الوحيد من الخال ذي القدرات “الوهمية”، والوصية الأخرى هي أن يتحكم الحمار بتحديد مكان قبره. واسترجاع سريع لمكانة الحمار في الثقافة العربية سيكون لها مبرر مضاعف، كون البطل مقروناً بحماره، وأيضاً لاختيار الأخير مكان المقام المختلق، أي أن جثة يوعان ستكون جنباً إلى جنب مع الحمار الهالك، حامل الماء! قبر حمار اختاره حمار آخر ليدفن فيه من “استحمر” الناس، مع شديد الاحترام لهذا الحيوان الصبور المقرون بصفات بشعة عن بعض البشر.
نص من القطع الصغير، لا تتجاوز صفحاته 46 صفحة، لكنه يفضح كثيراً من الصفات البشرية التي تحتاج للإفشاء، لعلنا ننتبه لبعض عيوبنا الآدمية، ونصلحها –لو أدركنا مدى بشاعتها- أو نتكأ على أمثال الرجل الذي فتح الباب للوهم وجر المجتمع إلى مجموعة رذائل، قاصداً أو غير قاصد، وأول اسم “يوعان” في إشارة لعدم الشبع، إلى يوعان “جائع” في طلب المعرفة والعلم، وهي الدرجة الأولى للوصول على أكتاف مدلسين وجهلة إلى مكانة لا نستحقها بالفعل.
الهوامش
ـــــــــــــــــــ
قبر الولي، جمال مطر، دائرة الثقافة والإعلام، سلسلة المسرح، المسرحيات العربية، الإمارات العربية، الطبعة الأولى 1998م، ص 19
نفس المصدر السابق، ص 29
نفس المصدر السابق ص 43

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock