الناقد العراقي د. ماهر عبد الجبار الكتيباني يكتب: مسرح الطفل وسيلة بناء للإنسان الحضاري المعاصر

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. ماهر عبد الجبار الكتيباني | العراق

 

يعد المسرح وسيلة للتنوير، وكلما ابتعد المجتمع عنه كلما توغل في التخلف وانحسار معارفه. يقينا يتطلب بناء الشخصية  حصولها على الثقافة، فضلا عن نمو المهارات الاجتماعية وفي مقدمتها التفاعل، بمعنى الخاصية التشاركية التي تساعد على نمو الوعي التواصلي. إذ يلاحظ الجميع في واقعنا الحالي الانحسار التدريجي  لتلك الخاصية وهذا الأمر ليس غريبا مع انتشار التطبيقات والألعاب الالكترونية التي تدفع الى ان  ينصرف الطفل عن أي اسهامات اجتماعية والولوج الى عوالمها والتفاعل مع تطبيقاتها.

ربما يعي الجميع تلك المخاطر ولكن لا توجد لديه وسيلة لردع خطورتها الصحية والاجتماعية بخاصة عند الاطفال وهم اللبنات الرئيسة للبناء فاذا ما كانت غير مناسبة يصاب البنيان كله بالرخاوة وعدم الاتزان . على وفق ذلك نتساءل ما لوسيلة التي تساعد على ان يكون هناك نشئ واع منسجم اجتماعيا، مفرغ من النزعات القبلية والطائفية، متسلح بالوعي والمعرفة والحس الابداعي، ويمتلك جرأة التعبير عن افكاره وطروحاته بطلاقة من غير حرج او انعزال.

من الطبيعي القول ان العلاج الذي يقي الجسد الاجتماعي ضرر تلك الاورام الخبيثة التي أفرزها الاستهلاك السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي هو المسرح ، تأتي هذه الفكرة من حيث الخبرة التي نمتلكها عن الدور الريادي للمسرح في تربية الذوق وتحفيز المهارات وجذب المتلقي سواء كان صغيرا ام كبيرا ومنحه الفرصة في التفكير وانتاج الصور الذهنية التي تفعل خاصية بناء الذات بخاصة المسرح ذي الصبغة التي تتيح للمتلقي الرؤية، والتصور، والروح الفعالة لتبيان وجهات نظره، وتنمي ذائقته واحساسه النقدي، أي بمعنى اخر ملكة النقد لمحاكمة الأمور والوقوع على حقيقتها وتحليلها لا استهلاكها، تلك كلها التي تتيح مساحة وافاق لامحدودة لطرح وجهات نظرة ، ذلك كله يتحقق بشكل اكثر وضوحا عبر الخطاب المسرحي الذي يتعلق بالطفل.

تجدر الاشارة الى اهمية المسرح بشكل عام ومسرح الطفل بشكل خاص، فالمختصون يدركون تماما التقسيمات العمرية التي يندرج فيها المضمون ووسائل التعبير ، فالمعلوم ان الطفل في مراحل الادراك الأولى من السادسة الى الثانية عشر يستقبل ويتعشق ويتمثل المحيط الموضوعي، وهنا لابد من التطرق الى التباين في الادراك والحاجات للطفل في الوقت الحاضر والطفل في العقود الماضية، إذ تتطلب  المعطيات التكنلوجية بما فيها من مدخلات ، وسرعة في التطور والتواصل  رؤية اخرى  مغايرة، تناسب الوعي الراهن لكن ما هو ثابت الرغبة المكتسبة والتلقائية للعب المسرحي،  بصورة اكثر دقة التمسرح من حيث ان الجميع يمثلون ويمارسون التقليد والمحاكاة ، والطفل هو خير من يجسد ذلك ، فالمحاكاة والتقليد صفة ملازمة له في مراحل نموه الاولى واللعب خاصية رئيسة في سلوك الطفل، والمطلوب من ذوي العلاقة التركيز على هذه النقطة من اجل احياء خاصية اللعب التمثيلي في سلوك الطفل سواء بمفرده ام مع اقرانه، اذ يلاحظ الجميع ان تلك الخاصية انحسرت بشكل كبير جدا، وانعكس ذلك حتى على الفعالية الاجتماعية التي تكاد ان تصبح من الماضي.

عند سؤالنا العديد من الاباء والامهات ، عن معاناتهم  مع اطفالهم  تكون الاجابة ان الالواح الذكية بما فيها من العاب وتواصل افتراضي الكتروني تستحوذ على اهتمامهم وبالكاد يكون اللقاء المباشر عابرا  فيما المعاناة  تتفاقم وقت الدراسة وميول الطفل وتفكيره في لعبه الاحادي يستولي على اهتمامه ، ننظر هنا وعبر وجهة نظر مختصة التأثير السلبي على حياته وبناء شخصيته ومستقبله ، فالنسبة الاكبر ربما تصاب بداء التوحد الالكتروني وتغيب تلك التشاركية في اللعب، والسؤال الباحث عن الإجابة : ما الذي يعيد نصاب الامور الى شكله الطبيعي وحالته المثالية؟. من وجهة النظر العلمية يلعب المسرح ذلك الدور القوي ، لسبب واضح وملموس ، تكمن تجلياته في سلوك الاجيال الماضية التي شكل المسرح احد اهم الممارسات الاجتماعية والطقوس العائلية بخاصة تنشيط المسرح داخل المدرسة، وتلك من الملامح التي يتسم بها جيل الستينيات والسبعينيات، والثمانينيات والى حد ما جيل التسعينيات فالسمة البارزة والشاخصة التي نحتت مسلة ذلك الزمن في العراق على سبيل المثال هو التنافس بين المدارس في نشاطاتها الفنية والمسرحية تلك الانشطة لها الاهمية في تكوين وبناء ثقافة الطفل ونمو معارفه وتفاعله،  يكتسبها من واقع ميله الغريزي الى اللعب التمثيلي، فما بالك حين ترافقه الايقاعات الموسيقية والاناشيد ، ربما يقول قائل ان مثل تلك النشاطات مازالت موجودة، والاجابة نعم لكنها تنحسر تماما لتكون قرينة مناسبة معينة او مهرجان بل وحتى تلك المهرجانات تفتقر الى جمهورها من الاطفال فضلا عن العشوائية في نوعية ما يمكن ان يقدم للطفل، فهناك مراحل عمرية تنظر الى الاشياء كلها بوصفها ذات صفات انسانية كالمواد الجامدة والحيوانات تتفاعل معها بوصفها حقائق وصولا الى الفئة العمرية الناضجة نسبيا التي تبحث عن روح الاكتشاف وبلورة المفاهيم ، والمطلوب من المعنين جعل واقع مسرح الطفل يحوز الاهتمام الكامل من قبل المؤسسات ذات العلاقة وبخاصة التعليمية فهو مسرح تعليمي بامتياز، بدلالة ان بعض معلمي الابتدائية يلجؤون الى مسرحة مناهجهم ايمانا منهم بقدرة تلك المسرحة على تعشيق المعلومات في ذاكرة المتلقي الطفل.

نعي تماما ان هناك مسرح للطفل يختلف سواء الذي يقدم من قبل الكبار للصغار او يقدم عبر الصغار انفسهم، وهناك المسرح المدرسي وقد يضع المختص قواعد ومرتكزات لكل منها ، لكن الرؤية العامة من حيث التفاعل هو واحد ، لنسوق هنا مثالا وان ابتعد قليلا عن المسرح لكن الخاصية واحدة العرض والمتلقي ، برنامج افتح يا سمسم التلفزيوني الذي انتج في سبعينيات القرن الماضي  ونتساءل ماذا حقق هذا البرنامج ؟.

الاجابة المنطقية تحليقاتها في ذاكرة ذلك الجيل والاجيال الأخرى، حقق اهدافا فعلية وحقيقية وكان رديفا للمدرسة بل انسن شخصيات اضحت ايقونات مهمة للطفل بكل مستوياته العمرية، وحتى بين الكبار نسبة التفاعل كبيرة ، تلك الشخصيات التي علقت في الذاكرة،  يمكن ان تستثمر في المسرح، والمغزى من سوق المثال: ان المسرحية التي تجذب الكبار والصغار على حد سواء  قادرة على التأثير وتحقق اهدافها التربوية، والجميع بحاجة الى مثلها في مسرح يمهد لإعادة الهيبة للكتاب والقراءة والى اللعب الايجابي وروح الاكتشاف وتنمية المهارات الاجتماعية والتعرف على ثقافة الشعوب وغيرها.

فيما المتلقي الطفل الذي يشارك الفعل المؤدى على خشبة المسرح قادر على نقل هذا الفعل الادائي الى اقرانه ويجسد معهم ما توصل اليه عبر مشاهدته، اذ ان تلك الخاصية في اللعب لا يمكن ان تنحسر او تغيب ، لكنها تحتاج الى محفزات تعيد الحياة لها، وقطعا لابد من اهتمام توليه المؤسسات المعنية لهذا الموضوع الحيوي، القادر على اعادة بناء الشخصية وتخليصها من الامراض التي تسببت بها وسائل التواصل الإلكترونية غير المسيطر عليها.

إن الفكرة الرئيسة في هذا الموضوع هي ان يعاد الاعتبار الى اللعب، والتنافس الحريص على الارتقاء بالمدى المعرفي، وتمجيد التواصل الاجتماعي وتعزيز المهارات  وتعميمها بين الاطفال. والسؤال كيف يمكن تحقيق هذا الامر في زمن اصبح كل شيء فيه رقميا الكترونيا؟.

 

ربما اصبحت الوسائل التعليمية متخلفة قياسا لما وصل له العالم من تطور علمي وتقني، لكن لابأس ان نسير على وفق متطلبات العصر مع الابقاء على الطباع الاصيلة الخاصة بالحفاظ على الموروثات وعدم اهمالها وتحسين صورة التاريخ واعادة تأهيل ما ينفع بوصفة عامل مشترك لبناء الذات ومواجهة المدخلات السريعة ومحاصرة ما يدس عبر تلك الالعاب والمواقع من محفزات تتسبب في انهيار الذوق والمثيرات الغرائزية، لاريب أن المسرح قادر على محاصرتها وتحيدها، لكن الحاجة الى تصورات ورؤى استراتيجية تعزز الرغبة في إحياء روح المسرح، ولابد من مرتكزات رئيسة لتجسيد ذلك واهمها بناء المسارح ـ في كثير من بلدان العالم ومنها العربية توجد بناية مسرح مجهزة بالتقنيات الحديثة في مناطق البلاد كافة، لذا يستوجب تأهيل بنايات المسرح في المدارس العراقية بمستوياتها كافة.

ثم ضرورة تفعيل مادة دراسية تختص بالمسرح ، ووضع منهاج خاص بالعلوم المسرحية ولقاءات وورش والاهتمام بكتاب النصوص المسرحية الخاصة بالطفل، مع التركيز على اهمية الابتعاد عن الموضوعات الساذجة قياسا على حيوية الوعي الراهن، ولابد من التماهي مع معطيات العصر واستثمارها في لعب الاطفال المسرحي ومنها الشخصيات التي يتعايش معها في لعبه.

المسألة ليست سهلة وتتطلب دراسات مكثفة وسريعة للارتقاء بالوعي المسرحي الذي يستلهم من تكنلوجيا العصر وتفاعل الاطفال معها مادته الرئيسة، ثم هناك نقاط بحاجة الى الترسيخ، وهي الاعتماد في بناء العرض الخاص بالطفل على تنوع التوليد الدلالي المستخدم في العرض من غير انقطاع وتحولات لانهائية تماشيا مع ما تنتجه الالعاب من اقتراحات لانهائية، تلك تساعد قطعا على منح الطفل افاقا غير محدودة في التفكير، كاستخدام الأدوات المطبخية وتحويلها الى شخصيات، او مستلزمات الحديقة المنزلية، او غيرها وكلها تساعد على تنمية اهتمام الطفل وتدفع مخيلته على الابتكار، والتفاعل الحيوي.

تجدر الاشارة هنا الى ان مسرح الطفل سواء ذلك الذي يتم انتاجه عبر الكبار او الذي يشارك في صناعته الطفل، يسهم بشكل رئيس في تحريك الطفل القابع في ذواتنا، والقصد هنا ذلك الطفل او روحية الطفولة في ذات كل منا، بوصف تلك المرحلة الاكثر تأثيرا التي تشكل منطقة حنين دائم والقاعدة التي يرتكز عليها الانسان حتى النهاية ، فمن يعمل للطفل يغور في ذلك العالم يغوص فيه ويستنشق منه ما يساعد في تعضيد الدورة الحياتية للأجيال ، ولأجل  ذلك فان الركائز المهيمنة على مسرح الطفل تفرض اتخاذ وسائل تسهم بشكل اساس في تنمية المهارات وتعزيز الذوق العام وترسيخ المعايير الاخلاقية والقيمية واستلهام الروح الحضارية والابداعية من اجل انسان حضاري متجدد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock