الناقد المسرحي حيدر عبدالله الشطري يكتب عن العرض السوري “سكر مر” .. جدلية الحضور والغياب

مقالات نقدية لعروض مهرجان محترف ميسان الدولي للمونودراما أون لاين 2020

المسرح نيوز ـ العراق|مقالات ودراسات

ـ

بقلم حيدر عبدالله الشطري/ رئيس اللجنة النقدية

يتأسس الخطاب المسرحي الواعي المعبر تعبيرا حياً عن آمال وتطلعات الانسان على اعتباره انه يتشكل وفق تطور العملية المسرحية ومنظوماتها التعبيرية والجمالية والفكرية , وكذلك عندما ترتبط هذه العملية الابداعية بأواصر علائقية وثيقة مع كل المتغيرات في المنظومة السسيولوجية المتحركة باتجاهات جديدة وفي احايين كثيرة.
وإن عملية التوازن بينهما هي من يحدد ملامح هذا الخطاب الذي سيتأسس ملائما لاستيعاب واحتضان طروحات لا تذهب بعيدا عن الواقع…
ومعنى الحضور والغياب باعتبارهما ثنائية جدلية يتوقف عليها مصيرالوجود الانساني في الكثير من المناسبات بكل الامه واوجاعه ومعاناته , يعد موقفاً فكريا تَناوله الادب كثيرا والمسرح خصوصا كونه ارض ثرية وخصبة لاجتراح نص ابداعي درامي يشتغل في منظومة هذا الوجود والذي يبحث فيها كثيرا الخطاب المسرحي الفاعل الذي يناقش مشاكل الانسان في كل زمان ومكان .
وتتباين نظرة الكتاب في هذه الجدلية وفقاً لمعانيها ودلالاتها ورسوخها في متبنياتهم الفكرية وطريقة تعبيرهم عنها بما تمليه عليهم نظرتهم الخاصة لها .
ويتجلى ذلك في عرض ( سكر مر ) الذي يبحث في معنى الغياب الذي دائما ما تعاني منه شخصية المرأة في نصوص الكثير من كتاب المسرح العالمي والعربي والمحلي , ويتكرس ذلك في نصوص الكاتب الاسباني فردريكا غارثيا لوركا وخاصة مسرحية ( الانسة روزاليتا العانس ) والذي اعتقد ان نص عرض ( سكر مر ) قد اعد عن هذا النص .
النص :ـــ
يرتكز نص عرض ( سكر مر ) على معاناة امرأة عانس وصلت الى عمر الخمس واربعون سنة وهي بانتظار حبيبها الذي تركها منذ خمس وعشرون سنة حتى تصل اخر رسالة من تخبرها بانه قد تزوج .
ويقول أحد النقاد ( إن شخصية روزيتا العانس في المسرحية التي تحمل اسمها تشبه إحدى قريبات لوركا ) بمعنى انه كان قريبا على هذه التجربة الانسانية المريرة الذي استطاع ان يجسدها بكل تفاصيلها وقد عرف عنه انه قد تناول الكثير من مشكلات المرأة في نصوصه التي كتبها .
لقد اراد لوركا في هذا النص ان يكرس صورة العزلة في حياة ( روزاليتا ) وهي بالتالي صورة لنساء كثيرات او ( روزاليتات ) تتوزع على كل المجتمعات وتعاني منها الكثير من النساء في اماكن كثيرة من العالم وفي كل العصور.
وقد احسنت المعدّة ( وفاء غزال ) في استثمار هذه العزلة والتهميش في تشكيل فضاء مسرحي منغلق لحياة امرأة في عرض مونودرامي يشترط ان يكون للعزلة فيه دورها في حياة البطل ومن ثم يأتي البوح ليلعب دورا اخراً يعبر عن نفسية منكسرة وغير متوازنة نتيجة الفعل المأساوي الذي وقع عليها.
استطاعت المعدّة ان تجترح من النص الاصلي منولوجاً طويلا واعادة انتاجه وفق رؤية خاصة ترتكز على بناء درامي افقي يسير باتجاه تأكيد معاناة الشخصية ويستمر لتعزيز فكرة النص وبتوأمة فنية مع طبيعة العرض الخاصة وبتحقق هذا الانسجام نكون امام نص مونودرامي لا يذهب بعيداً في طروحاته اكثر مما يتطلبه نص الممثل الواحد او الصوت الواحد مع حاجة النص لاستحضارات واستدعاءات اكثر للشخصية التي تدعم فكرة الحضور المنعدم بوضوح والغياب الحاضر بقوة .
العرض :ـــ
كانت مقدمة العرض وممثلته الوحيدة على وعي كامل بالمعطيات المحدودة لها في تسيير عرضها نحو مثاباته التي تسعى الى وصولها وكانت امام تحدي كبير في محاولة تجاوز ذلك وقد لجات الى معالجات فنية استطاعت ان تتخلص فيها من الارتباكات التي من الممكن ان يقع فيها العرض فكان لجوؤها الى تحويل غرفتها الى خشبة للعرض واحدة من هذه الاساليب التي انتشلت العرض الى الضفة ستكون اكثر امناً وموائمة لتمرير افكارها وطروحاتها فكانت الغرفة خير مكان لامرأة تعاني من الغياب بفراش خالٍ ودواليب فارغة الا من اشارات الذكريات الاليمة وبدلة العرس التي لم تتوسم بلبسها الى الان , وقد كانت موجودات الغرفة تحوي الكثير من ادوات الغياب وتشي بعلاماته ودلالاته التي تتمظهر على سلوك الشخصية من بداية العرض الى نهايته , ولقد كان تأسيس هذا المكان وفقاً لافكار النص المعد تنم عن نضج فني يتلمس التجربة باعتبارها تحدياً يفضي الى طروحات جمالية يجب ان يتسم به العرض المسرحي الدال .
التمثيل : ــ
استطاعت ممثلة العرض ( وفاء غزال ) ان تجسد شخصية امرأة قد فاتها قطار العمر رغم صغر سنها بتمكن واضح وانسيابية في الاداء الحركي الذي تتطلبه الشخصية , وكانت على دراية كاملة بالانتقال السلوكي للشخصية والذي يتطلب منها تحولا ادائيا مستمراً في كل حالة من هذه الحالات التي تعيشها , وبذلك قدمت تنوعاً تمثيلياً كان يصور ( روزاليتا ) بكل بؤسها وانعزالها وتعبيراتها السيكولوجية المتعددة فتارة تضحك واخرى تبكي ومن ثم تغني بهارموني ادائي متماسك ومنسجم ومعبر .
فكنا امام ممثلة مُجيدة تمتلك ادواتها التعبيرية وتشتغل فيها حسب متطلبات الدور وتستطيع ان تكون قائدة لعرض طويل يعمل باشتراطات المسرح المتكاملة لأنها تعرف اسباب النجاح وتعمل عليها بوعي كامل.
واخيرا لابد من الاشارة الى ان اختيار هذا العرض لتقديمه في هذا المهرجان وفقاً لظروف الحجر الخاصة التي تحدثنا عنها في مناسبة سابقة هو اختيار دقيق يعبر عن خصوصية المرحلة التي تؤسس للعزلة ومحاولة الانتصار عليها وتجاوزها وبذلك جاء العرض منسجماً مع متطلبات هذه المرحلة ومؤرشفاً لها وسنتذكرها يوما ما ونقول اننا تبنينا موقفاً انسانيا يمليه علينا واجبنا الاخلاقي باعتبار اننا مسرحيون لا يمكن ان نستسلم لضغوطات خارجية دون ان نقف بمواجهتها لا سيما وان الاخرين ينتظرون ان يرونا هكذا…واقف بكل حب الى جمهور العرض الذي اقتصر على عائلة الممثلة ( الام , الاب , الاخت , الاخ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock