حصريا في “المسرح نيوز”.. د. جمال ياقوت يكتب “صفحات من دفتر المحرقة” .. (4) الصفحة الثالثة – 1 (حاتم حسن) !

المسرح نيوز ـ القاهرة |د. جمال ياقوت

ـ

 

الصفحة الثالثة – 1

الصفحة الثالثة

حاتم حسن

المثالية … هي أمر يستحيل وجوده بين البشر، لكنك إن شاهدت شخصاً يحاول أن يتمسك بأهداب المثالية؛ فلا أقل من أن تلفت نظر العامة إلى أن هناك شخص ما يحاول أن يكون مثالياً، هذا الشخص هو حاتم حسن الذي يعد واحدأ من الناس القلائل الذين إذا عرفتهم، فمن المستحيل أن تنساهم.

تخرج حاتم في قسم الدراسات المسرحية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، عرفته منذ التحق بالقسم في بداية الألفية الثالثة، ، ضاقت به دروب الوطن الذي لم يستوعب طموحاته، فركب الطائرة وقرر أن يبحث عن وطن بديل، هو شخص شديد الانتماء لتراب هذا الوطن، لكنه أيضاً يريد أن يعيش الحياة كما رسمتها مخيلته منذ الصغر، أن تكون وطنياً تعشق تراب الأرض التي ولدت وترعرعت فيها، هذا شيء، أما أن يكون مقابل هذا الحب هو التخلي عن أحلامك ومنهجك وشخصيتك التي رسمتها بوعي، فهذا شيء آخر، وهذا الشيء الآخر هو الذي يجعل من التناقض عماد القصة، ويحولها إلى معضلة كبرى، بلغ التناقض مداه فهاجر حاتم إلى ألمانيا دون أن يحقق في مصر ما كان يتمنى أن يحققه، هو الآن يعيش مع زوجته وطفلته في برلين.

 

لحظة أن وقعت الحادثة، كان حاتم في طريقه لأسيوط مع أسرته، وبتحديد أدق، كان على الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية … هنا،  تلقى اتصالاً هاتفياً من إبراهيم عرفة، ابن اختي :

  • إنت مع خالي
  • لأ
  • طيب … هو كويس؟
  • خير
  • إحنا سامعين أخبار إن فيه حريقة في مسرح بني سويف وهو هناك
  • لأ … معرفش حاجة … طيب … هاكلمك تاني

على الفور اتصل حاتم بإبراهيم الفرن … لم يرد في المرة الأولى … عاود الاتصال للمرة الثانية، فجاء صوت إبراهيم على الجانب الآخر وهو يبكي ويصرخ بهيستيريا:

  • الناس راحت مني … الناس راحت مني
  • إيه اللي حصل
  • المسرح ولع … والناس راحت مني … ياسر راح … وسامية راحت … والناس راحت مني

وأغلق إبراهيم سماعة الهاتف فجأة … وأخذت رأس حاتم تدور بين رحى الاحتمالات … حالة من الترقب المشوب بالخوف بدأت تسيطر على مشاعر حاتم … ودارات رحى النقاشات بينه وبين نفسه:

  • بس إبراهيم الفرن مقلش اسم جمال في اللي راحوا
  • يمكن مش عاوز يصدمك
  • ويمكن جمال كان بره المسرح
  • ويمكن اتصاب
  • طب ماتكلم جمال
  • مش هايرد … أو تليفونه هايكون مغلق
  • طب ليه
  • هو ده اللي بيحصل في الأحوال اللي زي دي .. عشان المسألة تزداد غموضاً وتعقيداً

حاول حاتم الاتصال بي … كان بالفعل التليفون مغلق … لم ينتظر حاتم مكالمة إبراهيم عرفة، بادره بالاتصال

  • بالفعل فيه حريقة في بني سويف … محدش عارف إيه حجم المشكلة ولا مين جرى له إيه … أنا في الطريق لهناك … ولما أوصل هاطمنكم

وقرر حاتم أن يغير وجهة السيارة بمن فيها إلى بني سويف بدلاً من أسيوط بعد أن وافقه جميع أفراد الأسرة، ساد جو من الوجوم على الجميع، حالة من الصمت المتأهب للانفجار، وبدأت الأسئلة تدور في رؤوس الجميع

  • أكيد الموضوع بسيط … ماهو المسرح ده لازم يكون فيه طفايات ومنافذ خروج وستارة حريق
  • ستارة الحريق دي مصنوعة من الصاج عشان تنزل مع أي حريقة تعزل الجمهور عن منطقة التمثيل
  • بس المسارح بتاعتنا هلكانة
  • مش بعيد تكون الطفايات منتهية الصلاحية
  • هل مسؤول الأمن هايعرف يشغل الطفاية؟
  • هما بيدوهم دورات في الحماية المدنية
  • الدورات دي بياخدوا فيها إيه؟
  • بياخدوا أجازة … ومكافآت …
  • مفيش معلومات؟
  • تشغيل طفاية الحريق مش محتاج كل الأفلام دي
  • لكن محتاج دورات
  • يا ترى كام واحد مات؟
  • ولا واحد
  • ازاي؟
  • ده إحنا عندنا 2 ماتوا بالفعل
  • الله يرحمك يا سامية … الله يرحمك يا ياسر … الله يرحم كل اللي راحوا
  • ألا هو كام واحد ممكن يموت في ليلة زي دي
  • اتنين … تلاتة بالكتير
  • وممكن خمسة
  • يا نهار مش فايت … خمسة؟ … دي تبقى مصيبة

انطلقت السيارة تكاد تفتك بالأسفلت الذى أن من فرط السرعة … كان الجو حالك الظلام، لم ينتبه حاتم لأي شيء في الطريق … كان يمضي كالمنوم مغناطيسياً … كان يرى النار المستعرة وهي تأكل أجساد المسرحيين في مسرح بني سوبف … كان يرى النار … فقط النار.

عندما وصل حاتم أمام قصر الثقافة،  شاهد سيارتي يقودها أحد الأفراد، وبجواره، كان يجلس شخص آخر …  كانت سيارتي تستخدم لنقل المصابين إلى المستشفى، أوقف حاتم الشخص الذي يقود السيارة، وأخذ المفاتيح، وتولى والد حاتم قيادة سيارته، في حين قاد حاتم سيارتي واتجهوا جميعاً إلى مستشفى بني سويف العام.

أعداد غفيرة من البشر تقف أمام المستشفى، وجميعهم ممنوعون من الدخول …  كان هناك عدد من الضباط والعساكر … يقفون … يمنعون الراغبون من الدخول … لكأنه يوم الحشر … ما هذا؟ … صراخ، وعويل، ودموع، وبكاء

  • طب بس أعرف هو ميت ولا حي
  • ممنوع
  • هو مات … وعاوزين نستلم الجثة
  • ممنوع
  • يا عالم … يا هووو .. هي الرحمة اتشالت من قلوبكم
  • ممنوع

كل وسائل التعبير عن الألم كانت مطروحة بقوة في هذه اللحظة الفارقة… وبلا إنتهاء،… دون جدوى، حاول حاتم الدخول، لكنه مُنع، توجه والده لأحد الضباط، أسر بكلمات في أذنه، أشار الضابط لحاتم بالدخول، فتحت البوابة، فجأة وجد حاتم نفسه داخل المستشفى، سأل، أجابوا، صعد درجات السلم إلى قسم الحروق بالطابق الثالث على قدميه لأن المصعد معطل، لفت إنتباه حاتم أن هناك حالة من الحراك الشديد، ممرضين، وممرضات، عاملين، وعاملات يجرون في كل إتجاه، لم ينتبه إليه أحد، ولم يٌسأل عن هويته، أو ماذا يفعل هنا في هذه الظروف حالكة السواد. كان الجميع منهمكون في الجري والتعبير عن الخوف والقلق بكل الأشكال الممكنة … وغير الممكنة …. لكن حركتهم الدائبة، وأصواتهم المرتفعة التي تتعانق مع صرخات المحترقين من شأنها أن تصيب أي إنسان بالتوتر العصبي ..

  • راسي هاتنفجر … كفاية الناس اللي اتحرقوا … إنتوا ليه بتتكلموا بصوت عالي؟. … ليه بتصرخوا انتوا كمان … كفاية بقه …. يا رب … يا رب … الصبر من عندك.

الأمر يتعلق بالبحث عن مراهم وأدوية أو أي من الأشياء التي يحتاجها الصارخون من فرط الالم … هذه هي الحالة المعتادة في مثل هذه الأوقات … محترقون يصرخون … وفي قسم الحروق … لا وقت للإنتظار … لا وقت للتفاهات والتراهات … لا وقت إلا للعمل الجاد السريع لأن الثانية تحدث فارقاً مع شخص محترق، الدخان المحمل بالغازات السامة … الحروق … الميكروبات … كل هذه الاحتمالات الشائكة من شأنها أن تنقل شخص – أو أشخاص – من خانة الأحياء إلى خانة الموتى … لما تتعجب؟ … الخوف الذي يعتريك الآن هو الذي يجعلك تشعر بالغربة في هذا الجو الخانق

  • يلا يا جماعة بسرعة … المشرف عمال يصرخ فوق
  • وإحنا يعني هانسابق الزمن
  • أعداد المصابين كتيرة
  • الأرض مليانة جلد سايح
  • المستشفى اتبهدلت
  • قال يعني هي ناقصة
  • ماكنا قاعدين مرتاحين
  • الحادثة دي قلبت لنا المستشفى
  • مسرح إيه وهباب إيه اللي بيعملوه
  • ما يروحوا يذاكروا ولا يشتغلوا أحسن
  • هما يمثلوا وإحنا نتكدر
  • يلا يا جماعة خلصونا … بدل ما هانتنش جزا كلنا
  • بعد الغلب ده … ناخد جزا؟ … أنا مش قادرة أصلب طولي من كتر المسح
  • والتسييق
  • والترويق
  • والمساحيق خلصت
  • فين الفينيك
  • الديتول
  • الجردل بتاعي كان هنا
  • يا جماعة يلا الزيارة على الباب

زيارة؟ … أدرك حاتم المأساة، هذا النشاط الدائب … كان لتنظيف المكان … ووضع (قصاري) الزرع … ورش المعطرات … فالسيد وزير الصحة قادم لمتابعة الحادث.

  • طب والناس؟
  • المحروقين؟
  • المهم المكان يكون نظيف
  • إنت ضد النضافة؟
  • أبداً … لكن ….. المحروقين
  • ربنا يتولاهم برحمته … الوزير لو وصل ولقى المكان مش نضيف هانتشتير جزاءات … ومش بعيد ينقل المدير للأرياف … المكان لازم يكون نضيف … صحي … وبيبرق
  • طب ما هو … الناس اللي الوزير جاي عشانهم ممكن يموتوا
  • مش مسؤوليتنا … دول محروقين … وموتهم متوقع
  • وليه نسيبهم يموتوا لو ممكن نساعد إنهم يعيشوا
  • هو فيه حد بيموت ناقص عمر؟
  • طب نعمل اللي علينا
  • ماهي قدامك أهي … الطرقات بتضوي من النضافة
  • والمحروقين؟
  • ليهم رب اسمه الكريم … هانشوفهم مع الزيارة

الطرقات فعلاً نضيفة … وريحة الفينيك والديتول معطرة المكان …

  • صرخات الألم عامية العيون وسادة الدوان
  • على فكرة إنت شخص غريب عجيب مريب … فيه زيارة
  • صح … الزيارة أهم

وجد حاتم نفسه في عنبر الحريق … نساء ، تدارك الأمر، تحرك على عجل، وأخيراً وجد نفسه في عنبر يسكنه عشرون شخصاً تسيح جلودهم على أرضية الغرفة التي اكتظت بأكثر من ضعفي طاقتها الاستيعابية، كانت لحظة فارقة، بل قل، كان دهر فارق، نظر حاتم إلى الوجوه المحترقة كي يبحث عني، لم يكن من السهل أن يتعرف على أي شخص بسهولة، فعندما تهاجم النار الإنسان، يقوم الجسد بتفعيل الحماية الطبيعية الربانية، فتبرز طبقة من الجلد، تنتفخ كالبالون كي تحمي باقي الجلد، فإذا ما اشتد لهيب النار واحترقت هذه الطبقة، فإن الخطر هنا يكون قد وصل للإعماق … أخذ حاتم يتحسس طريقه بين الأسرة التي اكتظت بالصارخين المحروقين بحثاً عني … أخذ حاتم يدقق في الملامح محاولاً التعرف على الراقدين على الأسرة باستنباط أي ملمح من ملامحها القديمة التي اختزنتها ذاكرته، كانت الوجوه قد أصبحت في حال مغاير، كان محمد العمروسي هو أول الأشخاص الذين تعرف عليهم حاتم، لأن اصاباته كانت بسيطة مقارنة بالآخرين، تحدث إليه، وطمئنه العمروسي على حالته. وفي خضم بحثه للتعرف على آخرين سمع من يناديه من السرير المقابل، لم يستطع التعرف عليه إلا عندما عرفه بنفسه، إنه مؤمن عبده، كانت ملامحه قد تاهت في خضم الحروق التي غيرت ملامح وجهه كلية،  لم يتعرف حاتم على أنا أيضاً، كان وجهي منتفخ، ورأسي … ويداي كذلك، رأيته، شعرت بالكثير من الأمان والاطمئنان، أشرت إليه بالاقتراب، عرفني بصعوبة، لاحظت الحزن الذي غرس أنيابه على وجهه فتبدلت ملامحه، أشرت إليه أن يأخذ النقود التي بجيبي وتليفوني المحمول، كنت أشعر بأن الأجل بات أقرب … أتصور أنه أيضاً كان يحاول أن يكذب الشعور ذاته،  حاول حاتم أن يخفي هذه المشاعر التي كانت تتعارك بداخله، كنت أشعر بما يعانيه، كان بوده أن يرسم طمأنينة زائفة يبث من خلالها الراحة إلى وجداني الذي تهالك وبات قاب قوسين أو أدنى من التسليم بأمر الموت، لكن مشاعر الحزن وخيبة الأمل كانت أقوى من أن يداريها. توجه إلى النافذة الموجودة في أقصى ركن بالغرفة، وتحدث في التليفون إلى والده المنتظر مع أسرته خارج المستشفى:

  • مش هاينفع أمشي

كان منهاراً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أجهش بالبكاء، خرجت الكلمات متلعثمة ضائعة حروفها:

  • لازم تتماسك … مش هاينفع تنهار كده؟ لازم تكون قوي … ولو تقدر تعمل حاجة اعملها …
  • طيب انتوا اتحركوا لأسيوط … وأنا هاتابع معاكم الأخبار
  • طيب ابقى طمنا أول بأول

كانت الألآم تهاجمني بقسوة وشغف لا مثيل لهما، كانت يداي مرفوعتين لأعلى، لا أستطيع أن أضعهما جانباً، فقطع من الجلد كانت ما تزال تقاوم السقوط محاولة البقاء ملتصقة بيدي، فأخذت تنهار واقعة على طرف السرير، وأرضية الغرفة، صرخت طلباً لأي مسكنات، ذهب حاتم يبحث عن طبيب، الجميع يصرخون، من وقت لآخر يدخل شخص بعدد محدود من أنابيب المراهم يدهن بها بعضاً من الأجساد المحترقة ويمضي بحثاً عن أنابيب أخرى، لم يكن بالمستشفى الكمية التي تكفي كل هؤلاء المحترقين، بعد قليل، منحوا أغلبيتنا المورفين الذي خدر الجميع وصمتت آهاتي لبرهة، آخرون صمتت أصواتهم للأبد.

بعد ساعات، دخلت مجموعة من الأطباء والممرضين، ومعهم تروللي لنقل المرضى، جاءوا لينقلوا بعضنا إلى مستشفيات بالقاهرة، لم يحددوا على وجه الدقة الاشخاص المستهدفين، ولكن في النهاية وقع الاختيار على، وقرروا نقلي إلى أحد مستشفيات القاهرة، كان حاتم يقف بجانبي يتابع الموقف، طلبوا مني أن أغادر السرير إلى تروللي الإسعاف، لم يكلفوا أنفسهم مشقة حمل هذا الجسد الواهن الذي أنهكته المسكنات، وخرمته أسنة الحقن، كانت قواي خائرة تماماً، لكني أبيت إلا أن أقف كما يقف الرجال، ووقفت فهويت على الأرض دفعة واحدة كبناية ضربتها أصابع الديناميت، وأنا في طريقي للسقوط، اصطدمت رأسي بحديد التروللي فسقط جزء ليس بالصغير من فروة رأسي ومعه سالت الدماء، لم يلحظوا الأمر، أوبالأحرى، لم يعيروا الأمر أي انتباه، إذ أني لم أصرخ، فأنا لم أشعر بأي ألم، ذلك لأن المسكنات كان قد أفقدتني القدرة على الحركة، كما أنها أفقدتني القدرة على أن أشعر أو أحس، كنت أحاول أن استجمع ما تبقى من شتات وعيي، أحاول بهذا الشتات أن أحافظ على كرامتى التي تبعثرت بسقوطي غير المتوقع على أرضية الغرفة التي غطى غالبيتها الجلد المحترق، صرخ فيهم حاتم، وجرى نحوي ورفعني من على الأرض بمساعدة منهم على وجل.

كانوا يتحدثون عن اختيارات بين مستشفى حدائق القبة أو الهرم، اتخذ حاتم القرار، بمستشفى الهرم لوجود خبرة إيجابية له في هذه المستشفى،  كانت عجلات التروللي تمضي تنهب الأرض نهباً، وكانت الأشياء الساكنة حولي تمضي في عكس إتجاهي فأصابتني بدوار جعل هذه الأشياء تبدو على غير هيئتها، كنت أشاهد أحذية الممرضات، وجرادل “التسييق”، والمكانس، وهي تجري للخلف … وأنا ثابت … روحت في نوبة متناوبة بين الإغماء والإفاقة.

في ساحة المستشفى، وجد حاتم صبحي السيد في الانتظار، اتفقا على أن يركب صبحي معي بالسيارة، ويقود حاتم سيارتي خلف سيارة الإسعاف، غبت عن الوعي، وفجأة وجدتني في عربة الإسعاف وبجواري صبحي السيد. تحدث حاتم إلى إبراهيم ابن اختى، طمأنه، وصلنا لمستشفى الهرم، دخلت غرفة الطوارئ ومنها لغرفة فردية، وضعوا كريمات على مناطق الحروق، بعدها، سمحوا لحاتم بالدخول للغرفة. وسألته:

  • هو وشي اتشوه؟
  • اتشوه إيه بس؟
  • طب عاوز أشوف وشي
  • ممنوع المرايات هنا … وبعدين إنت مش مصدقني ولا إيه؟
  • لأ مصدقك … بس حاسس إن وشي مولع نار … فيه حاجات غريبة مش فاهمها … حاسس إن فيه كتل ملزوقة في وشي … وده مخليني حاسس إن وشي وارم شوية .. هو إيه اللي على وشي ده؟
  • حاجات بسيطة متقلقش … إن شاء الله هاترجع زي الأول وأحسن

كنت أشعر وقتها أن هناك لهيباً ينبعث من وجهي، ولكني غير قادر على أن أحرك يداي المكبلتان بالمراهم والتي محي جلدها تماما … كانت هناك أجزاء من عظام يدي يمكن أن أراها بوضوح، دارت في رأسي الكثير من الأفكار الموضوعية … إن كان هذا هو حال يدي، فمن المؤكد أن وجهي قد أتت عليه النار وشوهته، وإرتعاشة صوت حاتم تشي بأن وجهي في حال ليس أفضل من يدي، حتى وإن كانت كلماته تحمل كل درجات الاطمئنان، لقد تعلمنا في المسرح أن الكلام لا يهم، ولكن الأداء هو الأهم، نعم حاول حاتم أن يبسط الأمر، أرسل كلمات مطمئنة، لكن أحباله الصوتية – التي لم تعتد على الكذب – تقول وبكل وضوح إن هناك مصيبة في وجهي، وفي خلفية رأسي، ثم أنني أشعر أن أذنيي قد تآكلتا … على الأقل أجزاء منهما غير موجودة … ما كل هذه الاحتمالات التي ستفجر رأسي؟ … وصرخت

  • أنا عاوز مراية
  • إنت ليه مش مصدقني
  • عشان مش عارف أصدقك
  • طب اهدى من فضلك
  • يا صديقي قولي … أنا مليش اختيار … أنا راضي بفضاء الله … بس أفهم …

أعلم أن الأمر كان صعباً للغاية … فحاتم الذي يكن لي مشاعر صداقة حقيقية يعتصر فؤاده حزن غير محدود، وهو مثلي مكبل … لا يستطيع أن يفعل شيئاً … هي إرادة الله … وقرر حاتم أن يغير الموضوع

  • طب مش هانكلم مراتك وولادك عشان يسمعوا صوتك ويطمنوا عليك؟
  • آه صحيح … هما عرفوا؟
  • كل الناس عرفت … التليفزيون والجرايد نشروا أخبار الحادثة …
  • ناس كتير ماتوا؟
  • احمد ربك إنك بخير
  • الحمد لله طبعاً … الحمد لله … ولا يحمد على مكروه سواه … أمي دايماً كانت بتقول كده
  • يلا نكلمهم؟
  • يلا

كنت أحمل تليفوناً ماركة نوكيا … communicator … يفتح مثل اللاب توب … هاتفنا زوجتي … حدثها حاتم أولاً … كان قد استعاد بعضاً من ثباته الإنفعالي… جاءت كلماته راسخة مطمئنة إلى حد كبير

  • الحمد لله … أنا مع جمال … هو بخير وعاوز يطمنك بنفسه

ثم فتح السماعة الخارجية

  • آلو …

جاء صوتها على الجانب الآخر موتوراً متأهباً حزيناً … لم أستطع أن أسيطر على انفعالاتي .. إنسابت الدموع جدولاً حزيناً تتزاحم بين جزيئاتها كل ذكريات الماضي القريب … القريب جداً … من يومين فقط … كنا نمضي في شوارع الإسكندرية مع طفلينا … كنا نمرح ونتحدث ونفعل أشياء كثيرة … كنت أحمل عبد الرحمن الذي لم يفطم بعد، وأرفعه عالياً في الهوء مع شهقة خوف منها، كنت ألعب مع باسنت … كنت أمرح … كنت أفرح … كنت أفعل الأشياء التي لم أعد قادراً على فعلها لأنني ممد على سرير عاجز حتى عن الإمساك بالتليفون … ما أقساها لحظات العجز … ما أتعسنا ونحن نشعر بضآلة قوتنا … وتفاهة أجسادنا التي تتهدل في لحظة … لماذا نعتقد أنا سنعيش للأبد … لماذا نعتقد أننا أقوياء؟ … نحن أضعف مما نتخيل … في لحظة تسقط كل أقنعة الفخار والقوة … في لحظة نتمدد بلا حراك … ونلجأ ساعتها إلى الله … الله … لا إله إلا الله.

  • أنا بخير اطمني

خرجت الكلمات محاولة أن تتمثل بقوة الرجال، لكن هيهات أن تسمح الظروف بإظهار هذه القوة التي أكلتها النيران. أخذ حاتم طرف الحديث، أبلغها أنني مرهق ويجب أن أنام، كان من السهل أن أتوقع حالتها، كان الأمر معقداً للغاية، ابتعد حاتم بعيداً وحادثها محاولاً أن يبث الطمأنينة إليها… وفجأة سمعنا هرج شديد وأصوات عالية، ووقع أقدام تجري في الطرقات … ثم دخل شخص ما للغرفة … وهو يصرخ في وجه حاتم

  • إنت إيه اللي مقعدك هنا؟
  • أمال أقعد فين؟
  • اقعد بره .. فيه زيارة جاية حالاً

كان موضوع الزيارات هو الشغل الشاغل لإدارة غالبية المستشفيات التي مررت عليها، ففي وقت زيارة المسؤول تتوقف الحياة تقريباً ويتحول اهتمام الجميع إلى النظافة والتنميق، وبالتأكيد يتوقف التفكير في أي عمليات علاجية، أو أي أمور لها علاقة بالمرضى والمرض، لم تدهشني الفكرة لأني أعرفها جيداً، ولكن أدهشني التطبيق لأنني أراه بشكل عملي للمرة الأولى في حياتي يمارس داخل مستشفى.

في هذا الوقت كان حاتم يشارك في ورشة طويلة الأجل في منطقة “أبو تلات” بالإسكندرية، وكان يدير هذه الورشة – التي كانت لتدريب المدربين-  المنتج والمخرج السويدي ليوناردو كوليبرج، – أو كما نناديه “ليو” – والذي لعب دوراً بارزاً في حياتي العلمية بعدخروجي من المستشفى، يعد ليو واحد من الخبراء المسرحيين الذين تربطهم علاقة قوية بالمسرح العربي، وكان مع ليو في هذا التوقيت مدربة فرنسية تعمل معهم في الورشة. كان من الصعب أن يظل حاتم لفترة طويلة خارج الإسكندرية، وكنت أنا أعرف هذه التفاصيل، كما أنني أعرف معنى أن يغيب حاتم عن فاعلية يشارك فيها، خاصة إن كانت فاعلية طويلة الأجل مثل تلك المقامة في الإسكندرية في هذا التوقيت، فعندما يشارك حاتم في أي فاعلية، لا ينتظر أن تصدر إليه تعليمات من أي إدارة علوية، كما أنه يرحب بأي طلبات من زملاء العمل أو التدريب، هو شخص يتسم بالمبادئة، وعدم المبادئة في رأيي هي سبب أزمة غالبية البشر في عالمنا العربي، لأن المبادئة تعني أن تتحرك وحدك بدافع من داخلك لإنجاز الأمور التي ترى أنت أنه من الحتمي أن تنجز، هذا هو حاتم، طوال الوقت هو يتحرك من أجل أن يفعل أشياء غالباً لا تطلب منه، لكنه يرى أنه من الحتمي أن تتم، ولا تتوقف هذه الأمور على النواحي الفنية التخصصية، فقد يكون تنظيف أو إعادة ترتيب المكان  – وهو عمل مكلف به شخص آخر – أحد هذه المهام، يقوم حاتم بنفسه، دون أن يبدي أي ضيق، ودونما طلب مساعدة من أحد، يقوم ويبدأ عملية التنظيف أو الترتيب، أتصور أنه طوال الوقت لا يتوقع أن يتحرك الآخرون من أجل مساندته، فهو يدرك أن وسائل الاتصال غير المباشر في هذه الامور لا تجدي مع المصريين، وحتى لو اتصلت مباشرة وطلبت، فلا أتصور أن أفعالاً إيجابية يمكن أن تكون أحد منجزات هذا الاتصال المباشر.

بالأسلوب ذاته، كان حاتم يساعد الفنيين، وعمال النظافة، والمخرجين والممثلين ومهندسي الديكور، كان يساعد الجميع دون مقابل، وعمل حاتم على الاستثمار في نفسه، فتعلم لغات كثيرة بدرجات متفاوتة من الإجادة بجانب الإنجليزية التي يتحدثها بطلاقة، تعلم الفرنسية التي أصبح يجيدها بطلاقة أيضاً، وتعلم السويدية، والألمانية، ولا أدرى إن كان قد تعلم لغات جديدة، هذا الرجل منح نفسه للآخرين بإخلاص، وساعدهم بحب دون مقابل، فجنى ثمرة هذا المنهج نجاحاً باهراً في حياته،  هو الآن يعمل في برلين، في تخصص الإدارة الثقافية، أتصور أنه أنجز ما لم يتخيله هو نفسه، أن تكون ماهراً، هذا أمر جيد، أما أن تجتهد وتستثمر في ذاتك حتى تتبوأ مكانة مرموقة في مؤسسة دولية في برلين، فهذه أمر آخر.

عاد حاتم إلى الإسكندرية بعد إلحاح مني، في اليوم التالي عاد إلى مرة أخرى بسيارتي التي ظلت معه بصحبة زوجتي وأخي محمد وإبراهيم ابن أختى، بعد أيام نقلوني لمستشفى السلام، ودأب حاتم أن يقوم برحلة من الإسكندرية إلى مستشفى السلام بمدينة السلام بالقاهرة بالطريق الدائري … كان يقوم بهذه الرحلة ثلاث مرات أسبوعياً تقريباً دون ملل … وفي المرة الوحيدة التي جاء فيها حاتم بسيارته الخاصة … تعطلت منه السيارة في الطريق، وتم سحبها إلى الإسكندرية بسيارة نصف نقل.

بعد خروجي من المستشفى، دأب حاتم على مرافقتي لإخراجي من الحالة النفسية السيئة التي ألمت بي، كان يصر أن يأتي إلى منزلي في الصباح ويصحبني إلى النادي، كان يصر أيضاً على أن ننزل سوياً إلى حمام السباحة، وأن أقرأ كثيراً … كان يرشدني إلى تلك الأفعال التي من شأنها إبعادي عن عالم النار والحريق، كان يعلم حجم مصابي النفسي، وكنت أجد راحة في الإصغاء إليه، فقلما تجد شخص في هذا العالم يمكن أن تسلمه روحك دون وجل، كنا نذهب يومياً تقريباً لقضاء ساعتين أو أكثر في أجواء نظيفة وصحية، وكنت وقتها قد عدت للتدخين بشراهة، ويعد حاتم واحد من هؤلاء الذين لا يملون من طلب تعديل السلوك الاجتماعي للمحيطين به، مهما كلفه الأمر، أصبحت أخشى أن أدخن أمامه، بالضبط كما كنت أمتنع عن التدخين أمام أمي أو أخي الأكبر … نعم … هذا الرجل الصديق … جعلني أشعر بالحرج، وأقرر ألا أدخن في حضرته، هو يتحدث بالمنطق الذي لا يمكن أن تجادله فيه طويلاً محاولاً إثبات حججك الواهية.

  • طب إيه يعني اللي بتستفيده من التدخين
  • عادة سيئة
  • كويس إنك عارف إنها سيئة … طيب تمام … نبطلها بقه
  • ليه؟
  • عشان إنت لسه قايل بنفسك إنها سيئة … وكمان الدخان ممكن يكون له أضرار أكبر مما تتخيل .. إنت في طريقك للتعافي بإذن الله ومش عاوزين حاجة تأخر ده
  • طيب هاحاول أبطل تدريجياً
  • مش هايحصل
  • ليه بتحبطني
  • بالعكس … أنا عاوزك تبطل مرة واحدة
  • طيب هافكر
  • يبقى مش هاتبطل

ويتكرر هذا الموقف مرات ومرات … وأصبحت أفضل ألا يراني حاتم أدخن حتى لا أتلقى محاضراته في أضرار التدخين مجدداً … عندما كنا نتواعد كنت أدخن ثلاث أو أربع سجائر لعمل مخزون من الأكاسيد السامة تكفيني لحين افتراقنا فأكيل لنفسي من السموم مجدداً … الواقع أنني عندما كنت أخلو بنفسي كنت أشعر بخيبة أمل … بعدها أشعر برغبة جامحة في أن أقدم له مفاجأة سارة بأنني توقفت تماماً عن التدخين …. وبعد محاولات فاشلة … حدث بالفعل … واستقبل حاتم الأمر بفرحة كبيرة وصمدت ستة أشهر إلى أن جاء إلى أحد زملاء المسرح

  • خد سيجارة
  • لأ تمام الحمد لله … بطلت تدخين … عقبالك
  • يا عم انفخ دي …
  • مانا لو نفخت دي هانفخ غيرها
  • يعني الراجل اللي عنده إرادة ويقدر يبطل تدخين ست شهور، هاتوقف معاه حتة سيجارة؟ … سيجارة واحدة؟ … أمال إرادة إيه وبتاع إيه ؟ … يبقى إنت كده مبطلتش … تبطل يعني تشرب سيجارة، اتنين،  تلاتة … وماترجعش تدخن تاني
  • لا يا راجل
  • اه والله زي ما باقولك كده …. انت مبطلتش
  • لأ بطلت
  • طب اثبت
  • هات السيجارة …

وشربت السيجارة، وبعد أن مضى الزميل، أرسلت البواب كي يشتري لي علبة سجائر، عرف حاتم، وشعرت بخيبة أمل كبيرة، وحرج هائل، شعرت مع حاتم ما أشعر به تجاه أمي – أصل أبويا مات.

  • إيه الغلب ده؟ … ما كنت خلصت قصة التدخين دي … أنا خلاص زهقت وغالباً مش هاعرف أبطل خلاص
  • اللي حصل ده عادي جداً … إنتكاسة … بس ماتستسلمش لها … جسمك مفيهوش كمية نيكوتين كبيرة … وده ممكن يسهل عليك القرار … لو قررت تبطل النهاردة أحسن من بكره

كنت أستمع لكلماته بمنطق تأدية الوادب … نصايح نظرية لا يمكن أن تجد طريقها للتطبيق العملي … وبعد أيام كنا في النادي … وبشكل أدق … كنت أنا وحاتم في حمام السباحة … وبدأت أنهج

  • مش عارف تعبان ليه؟
  • مالك يا جيمي … خير
  • هي الحروق ممكن تخليك تحس بالإرهاق والنهجان لما تعوم؟
  • متهيأ لي السجاير ممكن تأثر أكتر
  • يا عم هو إنت مش شايف فيا غير إني مدخن؟ خلاص أنا اتصاحبت على الدخان … إنت تعرف أنا استنشقت دخان أد إيه يوم الحادثة؟
  • كتير … طب مش كفاية ؟ … بلاش تدخل رئتيك دخان إضافي
  • بكرة أبطل
  • على فكرة مش هاتبطل … للأسف كنت فاكرك شخص قوي الإرادة
  • إنت بتسخنني؟
  • أنا باقول الحقيقة … وبعدين إنت مش صغير … إنت راجل مثقف وطول عمرك بتقرى ومش محتاج أقولك إن كل سيجارة بتقصر عمر البني آدم …..
  • بس يا عم متكملش … خلاص هابطل
  • يا تقول بطلت … يا تسكت
  • شوف العلبة دي …. هاخلصها ومش شاري تاني
  • وإيه اللي يخليك تخلصها
  • مانا فتحتها … يعني أرميها؟
  • لأ … اشربها وإذي نفسك … أفضل …
  • على رأي ستي … وجع بطني ولا كب طبيخي
  • إنت مش بتوجع بطنك … إنت بتقصر عمرك
  • خلاص يا عم … بطلت
  • طول ما العلبة دي قدامك … مش هاتبطل
  • وآدي العلبة

لم أشعر إلا وأنا ألتقط علبة السجائر التي كانت قد استقرت مع الولاعة على خط السيراميك الذي يحيط بالحمام وقمت بغمسها في الماء وقلبي يقطر دماً

  • خلاص مش هاشرب سجاير تاني؟
  • وعد؟
  • وعد … لو شربت سجاير تاني قول عليا عيل …. وبالفعل … توقفت عن التدخين … بسبب حاتم حسن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock