نصوص

حصريا ننشر النص المسرحي “يوتوبيا الطريق” للكاتب السوري الكبير “عبد الفتاح رواس قلعه جي”


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

عبد الفتاح رواس قلعه

 

يوتوبيا الطريق

مسرحية

 

[هذه المسرحية مركب مزجي من السحر والفانتازيا والكوميديا السوداء

في معطف التجريب الحديث، وأخيرا إنها الواقع الخفي المخبوء فينا] الشخصيات

 

الشيخ

نجمة

الكهل

المحامي

ثلاث حوريات بنات الماء

الضابط والجندي

الأخوة الثلاثة: القصير والطويل والسمين.

الأفريقي

الأم وطفلها

 

 

 

    يتوزع في المسرح طريق عريض يمتد من يمين خط المنظر الأمامي إلى يساره تقريباً، ثم ينحني صاعداً ومرتفعاً عن سطح الخشبة نحو عمق المسرح وكأنه يمتد إلى ما لا نهاية أو إلى السماء.يجب أن يكون الطريق ملوناً أو مفروشاً بسجاد ناري اللون، وبشكل بارز.

على حافة الطريق فاخورة وشيخ بلحية بيضاء هو صانع الفخار، يرتدي معطفاً أسود قصيراً وسروالاً أبيض فضفاضا، وهو منهمك في عمله الطيني، وبجانبه قطع عديدة من مصنوعاته نضدها على أرفف خشبية بشكل أنيق إغراء للزبائن، بعضها تم شيُّه على النار وبعضها الآخر مازال في حالة الطين.

قي المسرح بئر واسعة مترعة بماء نبعها، عليها ركية دائرية ودلو وحبل، تخرج  منها فتيات الماء (الحوريات) ليشاركن في المشهد ثم يغطسن ثانية في الماء.

في يمين ومقدمة المسرح شجرة ينبع الماء من شق في أسفل جذعها يصب في مجرى أو حوض ثم يغوص في الأرض، وعلى الشجرة عرزال تجلس فيه فتاة جميلة ترتدي ثوباً بلون السماء أو البحر، وبجانبها قيثارة تعزف عليها، وصنارتان تنسج بهما شالاً أسود أبيض، بخيوط من كبتين من الصوف واحدة بيضاء والأخرى سوداء.

الشيخ يداه ملطختان وهو يصنع أنية من قطعة من الطين موضوعة على قاعدة خشبية تدور لتساعده في صقل الآنية.

     
    – 1 –
     
الشيخ : (يخاطب نجمة المختبئة داخل العرزال) نجمة.. ألم تستيقظي بعد؟ لقد صنعت لك لك كأساً تملئينه من ماء النبع.

(نجمة المختبئة تمد يدها من العرزال وتلوح له بمنديل) ها..ها.. استيقظت يا قطتي.. أين موسيقا الصباح؟

(يتابع العمل وتصدر عن العرزال موسيقا قيثارة) الآن طاب الصباح، وبقي أن تطلع نجمة الصباح.

(تظهر نجمة في شرفة العرزال بثوبها الزهري وهي تعزف)

نجمة : صباح الخير يا جدي.
الشيخ : صباح الخير يا نجمة (يتناول كأساً فخارية من الرف الخشبي) هل يعجبك هذا الكأس، وله غطاء أيضاً، تملئينه من النبع، ويحتفظ بالماء بارداً.
نجمة : أنا أستحم بماء النبع، وأشرب من ماء النبع من شجرتي، وآكل من ثمارها.
الشيخ : (مازحاً) وتنامين في العرزال.
نجمة :  أجل.. أشرف على العالم، هل مر أحد في الطريق؟
الشيح : لا.. لم يمر أحد، مازالت الشمس لم تطلع بعد، هل  تنتظرين أحداً.
نجمة : أنتظره هو.. قال سيرجع.
الشيح :  ومتى قابلته، وهل تعرفينه  إذا مر من هنا؟
نجمة : سأعرفه، مازالت صورته عالقة في خيالي منذ التقيته في الحلم.
الشيخ : في الحلم!
نجمة : نعم.. أضاءت وجهه نجمة الصباح فتقرَّيت ملامحه. شابٌ جميل أسمر، طويل، شعره ضفائر مسبلة على كتفيه، عيناه نجمتان ، في شفتيه حكاية وأغنية، صوته يصل إليَّ من غير أن يتكلم، كان يقف أمامي كإحدى منحوتاتك، وسيماً رائعاً، شبه عار، وبيننا شجرة مورقة، مثل آدم وحواء،  أعطاني هذا المنديل وقال: انتظريني سأرجع.
الشيخ : أعطاك هذا المنديل!؟
نجمة : أجل، وقال لي قبل أن يرحل: يا نجمة اعزفي على القيثارة، سيصلني عزفك وغناؤك فيدلني على الطريق.

(تدخل العرزال ويسمع صوت عزف على القيثارة)

    *   *   *
    (يدخل رجل كهل عابر للطريق يحمل بيده كراساً، يتوقف أمام الشيخ)
الكهل : قل لي أيها الشيخ، هل رأيت جنازة؟
الشيخ : جنازة..كلا، ولماذا تسأل؟
الكهل : منذ زمن بعيد مر من هنا أناس يحملون على أكتافهم جنازة، وما زالوا يحملونها.
الشيخ : من هم، ومن أين جاؤوا؟
الكهل : من وراء البحر. قل لي: هل تهطل هنا أمطار؟
الشيخ : طبعاً.. وأنت إلى أين تذهب؟
الكهل : إلى حيث ينتهي الطريق.
الشيخ : تسير منذ زمن طويل؟
الكهل : منذ أن ولدتني أمي، ولدت على كثيب رملي في الصحراء منذ زمن بعيد، حياتي جحيم،  لا الموت يدركني، ولا أنا أدرك نهاية الطريق. ( ينظر في السماء) هل ستمطر السماء؟
الشيخ : ربما، هل تخشى المطر؟
الكهل : إنها تمطر أحيانا مياهاً سامة، إن شَرِبها الطريق مات.
الشيخ : وهل يموت الطريق؟
الكهل : إنه كائن حي مثلنا تماماً، وإذا مات فإنني لن أستطيع أن أنهي رحلتي. أنا رحالة كتشف قارات ومحيطاتأكتشف قارات ومحيطات ومجتمعات، وأسجلها هنا في هذا الكراس، ما زال عالمنا غيرَ مكتشف تماماً مثل الإنسان هذا الكائن المجهول.
الشيخ : وهل أنت رحالة، ترحل في مجاهيل الأرض أم في مجاهيل الإنسان؟
الكهل : في الاثنين معاً. هل أنت متأكد أنها لم تمطر ولم تمر من هنا جنازة؟
الشيخ : جنازة من؟
الكهل : جنازة الطريق.
الشيخ : أيها السيد قد تكون قد سقطت زخات خفيفة من المطر في فترات متقطعة، ولكن هذا لاشيء، تستطيع أن تتابع رحلتك فالطريق سالكة، ولم تمر من هنا أية جنازة.
الكهل : حسن، سأشتري واحدة من هذه التحف لديك (يتناول قطعة فخارية) كم ثمنها؟
الشيخ : خذها، سأقبض ثمنها عندما تصل إلى نهاية الطريق.
    (الكهل يأخذها ويتابع سيره على الطريق حتى يختفى)
الشيخ : هذا الرجل أمره غريب!
    *   *   *
    (يدخل محام قصير وسمين، كرشه بارز، على رأسه قبعة عريضة من القش، وهو ظاهر التعب)
المحامي : مرحباً يا شيخ.
الشيخ : أهلاً بك، يبدو أنك تعب.
المحامي : المسافة بين محطة القطار وهذا الطريق طويلة جداَ.
الشيخ : أي قطار؟ لا يوجد هنا محطة قطار.
المحامي : ولكني وصلت بالقطار.
الشيخ : هه.. لعلك تقصد قطار العمر. ماذا تريد؟
المحامي : أين يقع قصر العدل؟
الشيخ : (يشير بيده) في نهاية الطريق، عليك أن تصعد حتى نهاية التل.
المحامي : أنا محام وعندي دعوى مستعجلة.
الشيخ : وأين محفظتك؟
المحامي : (يخلع قبعته وفيها الأوراق) أوراق الدعوى هنا، أنا وكيل أكبر شركتين في البلد، شركة لتصنيع الأطراف الصناعية لمشوَّهي الحرب، والثاني لإنتاج الأسلحة، والدعوى مقامة من قبل العمال ضد رب العمل مالك الشركتين.
الشيخ : وماذا يدعي العمال؟
المحامي : يدعون أن رواتبهم ضئيلة وساعات العمل طويلة، وأن سيدي رب العمل هو الذي يثير الفتن والحروب ليستمر المصنعان في العمل.
الشيخ : ولكن أليست دعوى العمال بحق.
المحامي : المحامي لا ينظر إلى الحق، أمامه دعوى ويأخذ لقاءها أتعابه، وعليه أن يدافع. وهذه القضية تهمني جداً، إن ربحتها وصلت إلى نهاية طريق الشهرة وأصبحت أعظم محام في البلد، وربما أستلم بعدها وزارة العدل.
الشيح : وهل تتوقع أن تكسبها.
المحامي : بالتأكيد، القضاة في جيبي، ونصوص القانون هنا (يشير إلى رأسه) وأنا دكتور مجاز في القانون الدولي، ولكن أنت يا شيخ ما ذا تصنع هنا؟
الشيخ : كما ترى، أصنع أواني وأشكالاً من الطين.
المحامي : ظننت أن هذه المهنة انقرضت، من يأكل أو يشرب اليوم في أوانٍ فخارية.
الشيخ : لا شيء ينقرض أو يفنى، وسيعود العالم كما بدأ، مثلما هذا الطريق، فهنا حيث أجلس بداية الطريق ونهايته.
المحامي : أوه.. أخشى أن أتأخر عن موعد الجلسة.
الشيخ : لاتقلق، اليوم عطلة.
المحامي : وغداً؟
الشيخ : عطلة أيضاً.
المحامي : وبعد غد؟
الشيخ : عطلة أيضاً .. أنت لا تعرف متى يفتح قصر العدل أبوابه.
المحامي : أوه..هذه مشكلة .. والعدل؟
الشيخ : ربما تعثر على جثة العدل مرمية على جانب الطريق.
المحامي : أنت متشائم، ولكنك تحب الفكاهة.. سأمضي.
الشيخ : ألا تريد أن تشتري شيئاَ من عندي.. خذ هذه القصعة.
المحامي : وماذا أفعل بها، هذه قصعة للطعام.
الشيخ : ضع أوراق الدعاوى فيها.. أليست الدعاوى طعامك.
المحامي : سأشتريها لأنك شيخ تحب المزاح، كان والدي يحب المزاح أيضاً.. كم ثمنها.
الشيخ : لا شيء.. خذها وسأقبض ثمنها في نهاية الطريق.
المحامي : (يضحك ساخراً ويمضي) عجوز مخرف (يخرج).
    *   *   *
    (ليل، صوت ريح ومطر، بقعة ضوء على الشيخ وهو يرسم بريشة ألوان بعض الرسوم على كأس نجمة، تنبعث من العرزال موسيقى حزينة وغناء).
الشيخ : نجمة حزينة الليلة.

(ضوء متابعة، الشيخ ينهض ويتناول كأس نجمة وقد أنهى تزيينه بالرسوم، يملؤه ماء من النبع المنبجس من جذع الشجرة، يضعه على مقعد صخري تحت العرزال).

قليل من الماء وتعود إليها بسمتها، الماء هو الحياة والفرح.

(يعود إلى مكانه ويختفي في العتمة)

(بقعة ضوء على نجمة في شرفة عرزالها وهي تعزف وتغني لحناً حزينا).

نجمة : (تغني) غاب.. غاب القمر

لم يبق إلا الليل والأشباح والدرب الخطِر

والريح ينقل خطوَه بين الشجر

وذو الضفائر لا خبر

وعيون الليل نامت.. والقمر

.   .   .

كانت لنا شجرة

تغازل الأصيل والصباح

عصيرها حلوٌ وراح

وحولها الأطفال يلعبون

وتحتها السمّار يسمرون

في فيئها العشاق ينسجون أحلام الغزل

وذات يوم

جاءها الحطاب في كهف الظلام

اجتثها

حملها وسار

ومنذ ذاك اليوم لم تشرق على القلب ذكاء

وذو الضفائر لم يعد

وفي الدجى

غاب القمر.

    *   *   *
    (إضاءة خافتة، نجمة وقد نزلت من العرزال، تشرب من كأس الماء، وترشق قطرات من على وجهها، الشيخ ينظر إليها).
الشيخ : نجمة.. أنت حزينة؟
نجمة : نعم.. أنا حزينة يا جدي.
الشيخ : تعالي، اقتربي مني (تقترب) لماذا أنت حزينة؟
نجمة : تنتابني فترات من الحزن، وأخرى من الفرح. عندما يسقط المطر بغزارة أحزن، أخشى من الطوفان، وأخشى أن تكون أمطاراً ملوثة مسمومة.

وعندما تشرق الشمس أفرح وأحس بأني فراشة أريد أن أمتطي أشعتها وأطير في السماء.

وفي الليل عندما يطلع القمر أشعر بأن قلبي زورق من الفضة يتهادى بين النجوم. وعندما يغيب تنقبض نفسي، وأنام على أحلام كئيبة.

الشيخ : ما الذي يحزنك يا نجمة، بماذا تفكرين، حدثيني يا ابنتي.
نجمة : أفكر بذي الضفائر المسبلة على كتفيه، لقد ذهب ولم يعد حتى الآن.
الشيخ : ولكنه حلمٌ يا نجمة.
نجمة : لا تقل هذا يا جدي، لو لم يكن حقيقة لما رأيته بقلبي وعينيَّ هاتين. أنت تتعامل مع الغضار فلا تؤمن إلا بالتراب، والتراب مادة كتيمة لا تشف عن الحقائق. إنه حقيقة يا جدي، لقد رأيته وسمعته. كان حديثه عذباً كماء زلال محلّى بالسكر، قال: انتظريني يا نجمة سأعود، ثم مضى وضفائر شعره مسبلة على كتفيه.
الشيخ : تنتظرين حلما يا ابنتي!؟
نجمة : جدي.. ممَّ تتشكل ذرات الأحلام؟
الشيخ : لا أدري.. أنت تسألين أسئلة غريبة، الأحلام ترد الخاطر ثم تذوب سريعاً عندما نستيقظ.
نجمة : إذن نحن نراها.. أرأيت؟ ما دمنا نرى الأحلام فإنها عالم موازٍ لعالم التراب الذي يذهب فيه الناس في هذا الطريق (مشيرة إلى الطريق)  فلا يعودون، ولا يخبر عنهم أحد.

كل شيء يا جدي يتألف من ذرات، وذراتُ الأحلام المنيرة أكثر حقيقة من هذه الغواسق.

الشيخ : يبدو أنني يجب أن أتعلم من طفلةٍ تشعُّ كنجمة الصباح ما فاتني العلم به. اسمعي يا فتاتي، عودي إلى عرزالك وسأبحث لك عن حبيبك ذي الضفائر المسبلة على كتفيه.

(إظلام).

    *   *   *
    (ضوء خفيف جداً على العرزال الذي تنبعث منه موسيقا ناعمة رشيقة، إنها نجمة تعزف في شيء من الفرح.

بقعة ضوء مركزة على البئر، تخرج منه ثلاث فتيات هن حوريات الماء، يجلسن على ركية البئر ويضحكن ويغنين).

الحوريات : نحن بنات الماء     حوريات البحر

نسبح في الأمواه    نتقن فن السحر

نخرج مِ الآبار    أو من مجرى النهر

نعبث بالأحلام    نلهو حتى الفجر

نحن…نحن

نحن بنات الماء     حوريات البحر

(صمت)

حورية1 : ها.. نجمة لم تسمعنا، إنها مشغولة بالموسيقا.
حورية2 : ناديها.
حورية1 : نجمة..
حورية3 : نجمة..
حورية2 : ردي النداء يا نجمة، نحن وصيفاتك المحبوبات، جئنا من البحر الغربي، والمياه الدافئة، والغربة الغربية*.
حورية3 : قطعنا سبع محيطات، وسبعة أنهر لنراك.
حورية1 : ردي علينا يا أميرتي.
    (بقعة ضوء على العرزال، نجمة تظهر في الشرفة وبيدها القيثارة).
نجمة : ما الذي جاء بكن يا صديقاتي؟
حورية1 : القصر أصبح مقفراً بعد رحيلك يا مولاتي.
نجمة : اسمي نجمة، دعي الألقاب يا صديقتي.
حورية1 : حسن، ألا تفكرين بالرجوع، لقد اشتقنا إلى تلك الليالي التي كنا نسبح فيها في ضوء القمر.
حورية2 : سمعناك تغنين 0فعرفنا أنك حزينة فجئنا نطمئن عليك ونسألك أن تعودي معنا.
نجمة : ولكني اليوم لست حزينة، وجدّي ذهب يبحث لي عن حبيبي ذي الضفائر المسبلة على كتفيه.
حورية3 : أما زلت تحلمين يا مولاتي.. عفواً.. يا نجمة؟
نجمة : وهل هنالك حقيقة أكبر من الأحلام؟
حورية2 : ومن هو جدُّك هذا؟
نجمة : شيخ يصنع الفخار، التقيته على ناصية الطريق.
حورية1 : وإلى أين يؤدي هذا الطريق؟
نجمة : لا أدري، ولكن الناس يسيرون عليه في اتجاه واحد ولا يرجعون.
حورية3 : يبدو أن الحياة هنا كئيبة، غامضة، معقدة، وأهلها غارقون في الوهم، والطريق يبتلعهم، وكانت حياتك واضحة جلية، لا تعرفين غير الجمال والمرح والعزف على القيثارة، فما الذي يبقيك هنا؟
نجمة : الانتظار.
حورية3 : انتظار من لا يعود، والناس يذهبون فلا يرجعون.
نجمة : كلا.. سيعود. ذو الضفائر المسبلة على كتفيه لم يسر في هذا الاتجاه، وإنما سار كنسمة حانية في الاتجاه المعاكس، وقال لي: إنه سيعود.. إنه لا يشبه هذه الكائنات الطينية الكئيبة.
حورية1 : يا نجمة أما حننت إلى الرقص في الماء، كنت تعزفين ونحن نرقص في الماء، وتشاركيننا الرقص في المهرجان:”؟
حورية2 : كنا نرقص حول قوارب الصيد، ونهدي السفن الضالة إلى الموانئ.
حورية1 : وكنا نحمل الرسائل المرسلة في الزجاجات المرمية في البحر إلى العشاق.
حورية3 : كانت حياتك حلوة، أما الآن فلا شيء غير الانتظار الممل.. عودي معنا يا نجمة.
نجمة : الانتظار حلو، الانتظار حياة وأمل، الانتظار نجمة لا تغيب ولا تنطفئ، أنتم لا تعرفون طعم الانتظار، الانتظار هو الطريق، والسير فيه هو المتعة والغاية. سأبقى هنا، أنتظر حبيبي ذا الضفائر المسبلة على كتفيه.
حورية1 : لأجلك جئنا، ولن نغادر قبل أن تعزفي لنا، ونغني ونرقص لهذا اللقاء.
نجمة : (تتناول القيثارة) كما تريدون يا صديقاتي (تبدأ العزف).
حورية1 : هيا يا بنات.

(يخرجن من البئر ويبدأن الرقص والغناء).

الحوريات : نحن بنات الماء     حوريات البحر

نخرج مِ الآبار     أو من مجرى النهر

نرقص.. نلهو

ننعس.. نصحو

ونغني أحلى الألحان

وأميرتنا

هيمى بجدائل عاشقها

والعشق طريق الأشجان

نحن..نحن

نحن بنات الماء     حوريات البحر

نبحر في الأعماق   نطفو عند الظهر

نجن..نحن

نحن بنات الماء

(ينهين الرقص والغناء).

حورية1 : هيا يا بنات ولنعد قبل أن يدركنا الليل.
حورية2 : وأميرتنا نجمة هل نتركها ونتخلى عنها؟
حورية3 : المريد لا يتخلى عن معلِّمه حتى ولو ضلّ، ونجمة أميرتنا ونجمتنا.
حورية1 : لا بد أن تلحق بنا ذات يوم، هذا ليس عالمنا، إنه عالم ملوَّث… هيا يا بنات.
    (يغطسن في البئر)

(إظلام)

     
     
    – 2 –
    ( الشيخ يضع اللمسات الأخيرة لرأس تمثال ملك من العهود الغابرة. مارش عسكري، يدخل ضابط يسوق أمامه جندياً وقد ربطه بحبل من عنقه).
الضابط : (يعطي إيقاع السير للجندي) واحد..اتنين..واحد..اتنين..واحد..اتنين. (يصلان أمام الشيخ) مكانك رااااوح (يتوقف الجندي ويراوح برجليه) أيها الشيخ هل عند ربٌّ للبيع؟
الشيخ : ماذا؟ رب للبيع.. لم أفهم.
الضابط : ربٌّ يُعبد، أريد أن أشتري رباً، دُعيت إلى الحرب على عجل ونسيت ربي في البيت.
الشيخ : وهل قامت الحرب؟
الضابط : نعم، بين الأحمر والأصفر. حرب طاحنة لا تبقي ولا تذر، مفرمة للأبطال، ومصنع للشهادة.
الشيخ : وأين تقع هذه الحرب؟
الضابط : المعارك محتدمة هناك في نهاية الطريق.
الشيخ : وهل أنت مع الأحمر أم الأصفر؟
الضابط : سأعرف عندما أصل إلى نهاية الطريق، وقد أخذت علمين احتياطاً، علم أحمر وعلم أصفر (يرفعهما).
الشيخ : ولماذا تربط هذا الجندي من عنقه وتسوقه أمامك؟
الضابط : ألم تسمع بأهل الحبلة؟ الشباب يفرون ويختبئون عندما تندلع الحرب؛ فنضطر إلى مداهمة البيوت والأسواق، نصطادهم ونربطهم بالحبل ونسوقهم للشهادة. ومن فاز بالشهادة على أهله أن يقيموا الأعراس والأفراح والليالي الملاح، لأنه استشهد فداء للرب.
الشيخ : آ..ها..الآن فهمت، ولكن لماذا تريد ربّاً؟
الضابط : وهل تريد أن نذهب للحرب بدون رب يعبده الشعب، يقيم الحرب، ويمنح الشباب الشهادة.
الشيخ : وكيف نسيت ربك في البيت أيها الضابط.
الضابط : لعن الله الشيطان، وأبعد النسيان. كنت أضعه في زاوية البيت تحت ركام من الأغراض والثياب المتسخة، أجمعها لأرسلها إلى الغسيل، ولما نفخ إسرافيل الحرب في البوق خرجت على عجل ونسيت ربي.
الشيخ : وما صفات ربك يا سيدي الضابط؟
الضابط : إنه رب معبود، وكاهن معدود، وحاكم مسعود. ولكن ما هذا الرأس الذي في يدك.
الشيخ : هذا رأس ملك كاهن جاء في الزمن القديم، كان يعبده الناس، خاض المعارك، وهزم الجيوش، واستعبد الشعوب.
الضابط : أوووه.. هذا ما أريده، هل تبيعني إياه؟
الشيخ : كل شيء هنا معروض للبيع.
الضابط : وكم ثمنه؟
الشيخ : فلوس قليلة. ولكن لن أقبض منك شيئاً الآن، الحساب في نهاية الطريق عندما تنتهي هذه الحرب (يسلمه رأس التمثال).
الضابط : شكرا أيها الشيخ. أنت رجل وطني حقاً.

والآن، أيها الجندي..استعداد..استااارح..استاااعد، قدِّم سلاحك (الجندي يقدم التحية بالسلاح) والآن.. اسجد لربك المعبود كي يمنحك الشهادة والخلود (يسجد الجندي) انهض (ينهض) استعداد.. هيا.. أمام سر (يخرجان).

    *   *   *
    (بقعة ضوء على نجمة تجلس في شرفة العرزال وهي تنسج بصنارتيها الشال)
نجمة : (تغني)

غرزة..غرزة

شال حبيبي.. زين الدار

أبيض..أسود

شال حبيبي.. ليل نهار

غرزة ..بقلبي

لما يرجع مِ المشوار

    (بقعة ضوء على الشيخ، نجمة ترفع رأسها وتسأل الشيخ)
نجمة : متى عدت يا جدي؟
الشيخ : عدت أمس ووجدتك نائمة.
نجمة :  وهل رأيته؟
الشيخ : من؟
نجمة : جدي، لا تلعب بمشاعري، هل رأيت حبيبي ذا الضفائر المسبلة على كتفيه؟
الشيخ : أحببت أن أداعبك فقط. كنت كلما سألت أحداً عنه كان يقول: لقد مرَّ من هنا منذ قليل.
نجمة : هذا يعني أنه موجود وليس كما تدعي.
الشيخ : يا عزيزتي، لم نعد نفرق بين الحلم والواقع؛ إن ما يحدث من مآس اليوم تعجز حتى الأحلام وكوابيسها عن تصويره.
نجمة : ولكن حبي ليس مأساة، إنه فرح الحياة التي فقدتموها أنتم.
الشيخ : يا ابنتي، كان الإنسان كائناً مقدساً، سجدت له الملائكة، ثم فقد قداسته، ووطئت أحلامه أقدام الفيلة.
نجمة : كدت أنتهي من الشال الذي أنسجه له ولم يعد بعد.
الشيخ : وكيف أنت اليوم، حزينة أم سعيدة.
نجمة : لا هذا ولا ذاك، أنا ضجرة لأنه تأخر.
الشيخ : مادمت تعتقدين بوجوده وأنه سيحضر، فإنه موجود وسيحضر..شيء من الصبر.. لكن العشق عَجِل، فكوني صبورة، وإذا كنت تحسين بالقلق أو الضجر فاجلسي في شرفة العرزال، انسجي شالك، وراقبي الطريق، فهذا الطريق يحمل حكايات وحكايات.
    (تخبو الأنوار)
    *   *   *
    (تركز بقعتا ضوء على نجمة وهي تنسج، وعلى مكان الشيخ وهو غير موجود. يدخل ثلاثة رجال، قصير وطويل وسمين،  يحملون صندوقاً على شكل تابوت)
القصير : أووه.. تعبنا، فلنسترح قليلاً.

(يضعون التابوت على الأرض)

الطويل : كنا نحمله طوال هذه السنين آملين أن يشفى وينهض.
السمين : يخيل إليَّ أنه مات وشبع موتاً.
القصير : ربما هو نائم فقط.
الطويل : وماذا قال لنا السيد الكبير بشأنه؟
القصير : قال: احملوه خارج المدينة وادفنوه، كان زنديقاً ولا يجوز أن يدفن في مقابر المؤمنين.
السمين : كلا.. لقد قال: احملوه خارجاً وفي أقرب فرصة تستطيعون أن تأكلوه.
القصير : أعتقد أنك كنت تغافلنا وتأكل منه.. يا لك من سافل!
السمين : لا أجزم بأنني أكلت منه شيئاً.
الطويل : تكذب، وإلا من أين لك هذه السمنة، وهذا الكرش الكبر؟
السمين : وماذا يهمكم من الأمر ما دمتم ستدفنونه؟
القصير : من الأصول إن كان ميتاً أن ندفنه كاملاً غير منقوص.
الطويل : أعتقد أنه لم يمت بعد، إنه مصاب بالموت السريري فقط.
السمين : لماذا لا نتوصل إلى اتفاق؟ نأكله أولاً، ثم ندفنه، وبعد ذلك نوقظه.لماذا تعجبون من كلامي؟ ألم ينهض المسيح بعد الموت؟
القصير : بل ندفنه أولاً ثم نوقظه، وبعد ذلك تستطيع أنت أن تأكله ، فما أنت إلا يهوذا.
الطويل : المهم عندي أن نوقظه أولاً.

(يدخل الشيخ)

القصير : ها قد جاء شيخ الطريق، وليحكم بيننا.
الشيخ : أيها السادة فيم كنتم تتناقشون؟ وما هذا الذي كنتم تحملونه؟
السمين : نحن ثلاثة أخوة، كنا نتناقش في أمر هذا الذي في الصندوق، هل نأكله أولاً ثم ندفنه وبعد ذلك نوقظه. اختلفنا في هذا الأمر.
الشيخ : وما هذا الذي في الصندوق؟
القصير : جثة أب.. أبينا.
السمين : بل جثة أم..أمِّنا.
الطويل : بل جثة وطن..وطنِنا.
الشيخ : هذا لا يهم وإن اختلفتم، فهذا الثالوث: الأب والأم والوطن، ثالوث مقدس، والثلاثة واحد.
القصير : إذن كان مقدساً.. يا للجريمة (للاثنين) أنتما اللذان أطلقتما عليه الرصاص من الخلف.
السمين : بل أنتما اللذان وضعتماه في حبس الدم في القلعة حتى مات جوعاً وعطشاً.*
الطويل : بل أنتما اللذان خنتماه ومكنتما منه أعداءه.
الشيخ : كفاكما تلاحياً ودعاني ألق نظرة عليه.
الثلاثة : تفضل، وألق نظرة عليه واحكم بيننا.

(الشيخ يرفع غطاء الصندوق، ينظر، ثم يغلقه).

الشيخ : احملوه، وادفنوه سريعاً، جسمه بدأ بتحلل.
الثلاثة : مات!؟..

(ينخرطون في بكاء مصطنع مثير للسخرية)

الشيخ :  قتلتموه ثم رحتم تتباكون عليه، وغدا تشحذون المعونات باسمه! هيا احملوه بعيدا وادفنوه.

(يحملونه)

الطويل : وأين نجد مقبرة ندفنه فيها أيها الشيخ الفاضل؟
الشيخ : في نهاية الطريق.
الظويل : شكراً.. هيا ولنسرع بتنفيذ ما قال الشيخ.
الشيخ : مهلاً (يعطيهم لوحة فخارية عليها كتابات مسمارية) خذوا، ضعوا هذه الشاهدة على القبر، وسأستوفي منكم ثمنها في نهاية الطريق بعد الدفن.
    (يخرجون وأصواتهم تعلو بالبكاء المضحك)
    *    *   *
    (يدخل رجل أفريقي زنجي وفي يده رزمة أوراق، الشيخ يراقبه ويستوقفه)
الشيخ : أنت أيها السيد.
الأفريقي : من؟ .. أنا؟
الشيخ : نعم، أنت، لمَ أنت مسرع هكذا؟
الأفريقي : عندي اجتماع انتخابي عاجل.
الشيخ : هل أنت مرشح للبرلمان؟
الأفريقي : أجل، أنا مرشح حر، على الرغم من أني من حزب الزنوجة المقدسة، الزنجي يجب أن يفخر بزنوجته.
الشيخ : أهي عنصرية جديدة؟
الأفريقي : إنها مجرد رد فعل على الأبيض الذي يتعالى علينا، ويستعمرنا، بلون بشرته. ويعاملنا باحتقار كالبهائم.
الشيخ : ولماذا سمِّي حزبك بالمقدس؟
الأفريقي : لأن الأسود لون الحزن والقداسة، ونحن نعتز بالزنوجة*، والدعوة إلى الزنوجة لها مفكروها وأدباؤها وشعراؤها.
الشيخ : آاا.. فهمت، وما هذه الأوراق التي في يدك؟
الأفريقي : خطابي الانتخابي.
الشيخ : لا شك كما ذكرت عن حزبك هذا أن خطابك معاصر، تقدمي، وغير تقليدي.
الأفريقي : المرشح السابق حشا خطابه بسيل من مصطلحات الديموقراطية والاشتراكية والكولينيالية والعلمانية والشعبوية والقضايا العمالية والفلاحية ، والنخبوية.. ها..ها فسقط ولم ينجح. خطابي تقليدي ومختصر، ولهذا ترشجت بشكل حر على الرغم من أني زنوجي.
الشيخ : أرني هذا الخطاب (يعطيه ورقة من الرزمة) ماذا.. صورة حذاء!؟
الأفريقي : بل أحذية متنوعة وبمقاسات مختلفة للرجال والنساء والأطفال (يعطيه أوراقاً أخرى ليتأكد) انظر هذا حذاء نسائي بالكعب العالي كالأوربيات، وهذا حذاء رجّالي في غاية الأناقة، وهذا حذاء طفولي مزين بالألعاب.
الشيخ : ولكن أين خطابك الانتخابي؟ هذه صور أحذية فقط.
الأفريقي : إنه في الأعلى، أربع كلمات فقط: انتخبوني وسأشتري لكم أحذية.
الشيخ : وهل ينفع هذا؟
الأفريقي : أجل، بهذا الخطاب المصوَّر سأكتسح قوائم كل المرشحين. ولغيري سابقة في ذلك وقد تعلمت منه.
الشيخ : أعرف.. ذاك اشترى من عندي مجسماً من الفخار لحذاء وكان يضعه أمام الدائرة الانتخابية.
الأفريقي : أووه ، لقد فاتني هذا الأمر، سأشتري من عندك حذاء فخارياً.

(يأخذ من الرف حذاء من فخار)

الشيخ : لكن صاحبك ذاك عندما نجح في الانتخابات واستقر في المجلس تناسى ما وعد، وعندما طالبه الناس الحفاة بأن يشترى لهم أحذية داس الناس بحذائه.
الأفريقي* : أوووه.. هذا لا يجوز، لكن العامة غوغاء ملحاحون، يشتطون في مطاليبهم، وقد لا ينفع معهم إلا هذا.
الشيخ : أيها الزنجي، وبماذا تختلفون أنتم عن ذلك الفرنسي الأبيض غول لوزيتانيا الذي استعمركم. كان المستعمرون البيض يدعونكم إلى أن تتنصَّروا وتتركوا عبادة الأوثان، وتطيعوا الحكام، وفي مقابل ذلك يعِدونكم بأن يؤمنوا لكم الطعام والعمل والتعليم. أفنيتم أنفسكم في الحقول ، استغلوا أرضكم ونهبوا مواردكم واستعبدوكم مقابل أجور أقل من الزهيدة، وبقي لكم الجوع والحرمان والجهل بالعلم إلا من صلواتكم في الكنيسة وبعض تعاليمها التي تطلب منكم المحبة والخد الأيسر، ولا تطلب منهم كف الأذى عنكم.

أيها الزنجي، يا حضرة النائب المنتظر، أنت لا تختلف عن ظالميك، ومنهم أنت وأمثالك تعلمتَّ الظلم والفساد والخديعة.

خذ بيانك الانتخابي ، وهذا الحذاء أيقونةَ معبودك، وارحل من هنا. المركز الانتخابي في نهاية الطريق.

(الأفريقي يحمل مجسم الحذاء ويسير مرتبكاً مسرعاً في الطريق)

    *   *   *
    ( الشيخ جالس وهو منهمك في عمله، نجمة تجلس على مقربة منه وهي تعبث بمحارة كبيرة كطاسة ماء)
الشيخ : ما هذا الذي في يدك يا نجمة.
نجمة : محارة من البحر، كنت أشرب فيها الماء، في الصيف تعطي الماء بارداً، وفي الشتاء سائغاً مقبولاً.
الشيخ : محارة عجيبة، يبدو أن طاسة الماء التي صنعتها لك لم تعجبك.
نجمة : بالعكس يا جدي، لقد أعجبتني كثيراً، وعندما أشرب فيها تعطيني طعوماً ملونة بطعوم فواكه الأرض، وعندما أنظر إلى الماء فيها..أوه..سأصمت، لن تصدقني.
الشيخ : أنا أصدقك يا نجمة..تكلمي.
نجمة : عندما أنظر إلى الماء فيها أرى صوراً لأحداث مضت، وصوراً لأحداث تقع اليوم في العالم، لكنها صور كئيبة.
الشيخ : إذن أن تتعرفين على العالم من خلال مرآتك هذه.. ابقي بجانبي وستعرفين العالم أكثر.
نجمة : لكنني مللت هذا الطريق، أنا بنت البحر والحب والجمال والفرح، وهذا الطريق كئيب، يعطيني شعوراً بالأسى والكآبة.
الشيخ : لا بأس يا ابنتي، لا بد من التضاد وإلا فسد العالم، والأشياء يا نجمة تعرف بنقائضها.
    *   *   *
    (تدخل امرأة- الأم- في حوالي الأربعين من عمرها جميلة رشيقة القوام،  وهي تمسك بيدها ابنها في الخامسة أو السادسة من عمره، جميل أسمر، وشعره الأسود الطويل جدائل مسبلة على كتفيه).
الأم : هل عندكم جرعة ماء.. الولد عطش جداً.
الشيخ : استريحي سيدتي حتى نحضر له الماء. (لنجمة) أحضري الماء يا ابنتي.
نجمة : حاضر يا جدي.
    (نجمة تنهض وتملأ المحارة من نبع الشجرة وتعطيها للطفل، الطفل يشرب وهي تداعب له جدائل شعره معجبة).
نجمة :  انظر يا جدي، ما أجمل جدائل شعره، كأنه هو لو لم يكن صغيراً.
الشيخ : أما زلت تحلمين يا نجمة؟
الأم : هل اسمها نجمة؟
الشيخ : أجل.
الأم : مصادفة غريبة، وأنا سميت ابني هذا نجما.
    (الطفل ينتهي من الشرب ، نجمة تأخذ المحارة وتعود إلى مكانها)
الأم : شكراً يا آنسة، لقد سرنا طويلاً وقد نفد الماء معنا في الطريق.
نجمة : أهلا بك ، ولا شكر على واجب.

(نجمة تخرج من كيس معها أشغال الإبرة وتنسج وهي تستمع إلى حديث الأم).

الشيخ : من أين قدمتما أيتها الأم الطيبة؟
الأم : من المدينة.. خرجت أبحث عن أولادي.
الشيخ : ومن هم أولادك؟
الأم : أوووه .. حكاية طويلة.
الشيخ : (يتوقف عن العمل) احكيها لنا، ها فد انتهيت من العمل، وهذه الصبية (مشيراً إلى نجمة) تحب أن تستمع إلى حكايا الناس وتتعلم منها.
الأم : أهي حفيدتك؟
الشيخ : إن لم تكن فهي أعز من حفيدة.
الأم : حفظها الله أيها الشيخ.(صمت قصير تتذكر وتتأثر)

عندي ولد من زواج قديم، كان سليماً ذكياً مثل عود النعنع، راجح العقل، وفجأة أصابته لوثة، فصار يتصور أن السماء ستهطل أمطاراً مسمومة، وصار يسأل عن جثث للأشياء، كجثة طريق أو مدينة أو جبل.. ربما أصابته لوثة أبيه فقد أخذ عنه قراءة الكتب السياسية والفلسفية، وربما لأنه تعرض من أجل أفكاره السياسية لأقسى أنواع التعذيب، إنه كهل أشيب.

الشيخ : كيف ذلك؟ أيمكن أن يكون الابن أكبر من أمه!؟
الأم : يا سيدي الشيخ، أنا امرأة لا تكبر في العمر، تمر السنون في محاذاتي وتنأى عني.. أنا كهذه الأرض..أيمكن أن تشيخ الأرض؟
الشيخ : كلا.. لا تشيخ. حكايتك مشوقة فعلاً، ولله في أمره شؤون، يا سيدتي، لقد مر ابنك من هنا وسار في الطريق. حدثيني عن باقي أبنائك.
المرأة : الابن الآخر من زوجي الثاني، أرسله أبوه لدراسة القانون في أوربا، قضى سنوات الدراسة في المجون والملاهي والنساء، عديم ووقع في قفة تين.*وعندما رجع حمل معه شهادة مزورة من تلك الشهادات التي تبيع الدال (أي دكتور) باسم جامعات وهمية. افتتح مكتباً للمحاماة، وصار وكيلاً لشركات عدّة مشبوهة، والأنكى من ذلك أنه طمع في مال أبيه، فأقام عليه دعوى فقدان الأهلية، واستولى على أملاكه، وأرسل أباه إلى مشفى الأمراض العقلية.
الشيخ : وابنك هذا مرَّ من هنا وسار باتجاه نهاية الطريق.
المرأة : الابن الثالث من زوجي الثالث، كان مغرماً بالروايات البوليسية والحربية وحكايات الفرسان القدماء، وكانت رواية دون كيشوت**معبوده، لا يمل من قراءتها مرات ومرات، تصور يا سيدي لم يترك لي طبقاً في المطبخ إلا وكسره، ولا وسادة إلا وبعجها بسيفه، متخيلاً أنهم أعداء في هيئة أشياء.
الشيخ : سيدتي لا تحزني، الدونكشوتيون كثروا في هذه الأيام. ابنك هذا في تمام الصحة والعافية وقد مر من هنا في هيئة ضابط وهو يقود جندياً أمامه، اشترى لنفسه ربّاً ومضى إلى الحرب في الطريق.
المرأة : يا سيدي الشيخ هذا الذي معه ليس بجندي، إنه سانشو* تابعه الذي استأجره ليظهر بمظهر الفارس.
الشيخ : وما أكثر هؤلاء اليوم، وما أكثرهم في مراكز السلطة.. تابعي قصتك يا سيدتي.
المرأة : يا سيدي الشيخ لدي ثلاثة أولاد من زوجي الرابع، وكان مزارعاً غنياً يملك أراضي كثيرة، ومئات من أشجار الزيتون والأعناب والفواكه. بلغ الثمانين ولم يمت، وأولاده الثلاثة ينتظرون موته ليتقاسموا الإرث: مرة انقلب به الجرار وهو يحرث الأرض، انهرس لحمه لكنه لم يمت، ومرة رفسه الحصان فتكسرت أضلاعه ولم يمت، ومرة سقط من سطح الدار العالية إلى الأرض فلم يمت.
الشيخ : إذن.. كيف مات؟
المرأة : اضطر أولاده الثلاثة إلى أن يطلقوا عليه النار، وهكذا مات، وتقاسم أولاده الإرث، وحملوا الجثة وراحوا يبكون عليها.
الشيخ : (يضحك) وهؤلاء مروا من هنا يحملون جثة في صندوق.
المرأة : إنهم يشحدون عليها، لم تكفهم أموال الميراث فهم يتجولون بالجثة ويشحدون عليها.
الشيخ : أيتها الأم المنكوبة، وما قصة زوجك الخامس؟ وأرجو أن يكون الأخير.
المرأة : يا سيدي يئست من “البيضان” فقررت أن أتزوج إفريقيا زنجياً.. وتزوجت شخصاً أحببته من أنغولا.
الشيخ : وهل سافرت إلى أنغولا؟
المرأة : كلا.. راسلته على صفحات التواصل الاجتماعي بالنت.
الشيخ : وتزوجته؟
المرأة : نعم
الشيخ : وجاءك ابن زنجي.
المرأة : أجل، كيف عرفت؟
الشيخ : لقد مرَّ من هنا.
المرأة : هذا الولد يا سيدي أمّيٌّ، أفاق محتال، وتاجر مخدرات، ولا أدري كيف كان ينجح في الانتخابات، ومرة صار وزيراً للثقافة، وكان يبصم الأوراق الوزارية والمعاملات بكعب حذائه، وقد اشتهر بإقامة معارض تشكيلية لرسوم الأحذية ومنحوتاتها، حتى سمّوه بأبي الأحذية.
الشيخ : حسن، وبعد هؤلاء الأزواج الخمسة.. وهذا الولد ما قصته؟
المرأة : بعد هذه الأزواج الخمسة وخيبة أملي في أولادهم، قررت ألا أتزوج، وأن أصنع ولداً على مزاجي
الشيخ : تصنعين ولداً!؟
المرأة : أجل، ولداً تكتمل فيه الصفات الخلُقية والحَلْقية؛ لا أريد أن ألوِّث رحمي بماء رجل: فأنا أريده رحيماً رؤوفاً، بعيداً عن إثارة الفتن والحروب والفساد والدمار، مخلِّصا للبشرية من آلامها، وذلك بعد أن تأكدت أن الآفة في ماء الرجل.
الشيخ : مهلاً.. هل هذا ولدك؟
المرأة : طبعاً.ا
الشيخ : ومن دون أب!
المرأة : كيف تقول هذا يا مولانا وأنت العارف بالأسرار؟
الشيخ : حسن، أفيديني علماً، فما من أحد تكتمل المعرفة لديه إلا الله.
المرأة : تعلم أن الله جميل، ويحب الجمال والجميل، وهذه الطبيعة وقبل أن يشوهها الإنسان هي صورة وتجلٍّ لجماله. لقد تماهيت في الطبيعة الأولى شهراً كاملاً، لا آكل ولا أشرب إلى ما يقيم الرمق، حتى وصلتني نفحة حانية في رحمي، وشعرت برعشة لا توصف، دونها كل رعشات الجنس الملوّث. وكان حملي بهذا الابن الجميل يسرا ميسوراً، وها قد بدأ يكبر بحمد الله.
    (صمت، الشيخ يفكر، ونجمة تبتسم مستمتعة بالقصة وتهز رأسها معجبة وموافقة)
نجمة : (إلى الشيخ) كنت أعلم أن مثل هذا محتمل، وأن أقرب الواقع إلى الواقع المخبوء فينا هي الأحلام النبيلة.
الشيخ : (يصمت لحظة ثم يخاطب الأم) والآن إلى أين تودين الذهاب.
المرأة : سأسير في هذا الطريق إلى نهايته.
الشيخ : كلا.. الطريق مغلق. عودي من حيث أتيت إلى المدينة، وارعي ولدك، لعله يقيم حين يكبر مدينة فاضلة.
    (الأم تنهض وتأخذ بيد ولدها لتعود من حيث جاءت)
نجمة : لحظة أيتها الأم (تتناول المحارة وتعطيها للولد) خذ هذه يا حبيبي، واذكرني بها، أنا لا أشيخ، وعندما تكبر يا ذا الجدائل المسبلة على كتفيه سنلتقي ويكون لنا حديث آخر.
    (الأم وابنها يخرجان).
    *   *   *
    (اختفى العرزال، اختفت الفخاريات مع حانوت الشيخ، نجمة والشيخ تحب بقعة ضوء مركزة على ناصية الطريق. نجمة تعلق في كتفها محفظة نسائية، وتحمل في يدها طاسة الماء التي صنعها لها الشيخ)
الشيخ : (بحزن) أنت تزمعين الرحيل يا نجمة ؟
نجمة : أجل يا جدي.
الشيخ : سيحزنني فراقك يا ابنتي.
نجمة : جدي، خذني إلى نهاية الطريق قبل أن أودعك.
الشيخ : أما نهاية الطريق فلا.. ولكن يمكنني أن آخذك إلى مرتفع في الطريق تشرفين منه على نهايته.
نجمة : لا بأس، أنا مشوقة لمعرفة النهاية.
الشيخ : هيا معي.
    (تخبو الأضواء قليلاً الشيخ ونجمة يقفان على مرتفع. دخان كثيف يجلل نهاية الطريق، وفي الدخان يرى الأشخاص الذين مروا في الطريق، وآخرون غيرهم، مجرد كائنات فخارية يلا حياة وهم يقفون أو يجلسون في وضعية التثبيت وبأوضاع متعددة).
نجمة : ما هذا يا جدي؟ أين نبض الحياة والافتراس فيهم؟ إنهم مجرد كائنات فخارية.
الشيخ : كانوا نياماً فانتبهوا، وغداً تجري عليهم عاديات الزمن فيتحولون إلى قحوف فخارية مطمورة في الأرض يدوسهم من يأتون بعدهم بأقدامهم.
نجمة . يا لهذه الحياة الزائفة. ( تقفل راجعة).
الشيخ : إلى أين يا نجمة؟
نجمة : أنا عائدة من حيث أتيت.
    (تزول بقعة الضوء عنهما،  الدخان الكثيف يملأ المسرح، بقعة ضوء على البئر ونجمة تغطس فيه عائدة إلى البحر).

– ستارة النهاية –

 

 

25 جمادى الأولى 1440

2/2/2019

حلب- سورية

* قصة رمزية للحكيم الإشراقيي السهروردي.

* يروى أن السهروردى أعدم في قلعة حلب بهذه الطريقة.

* الزنوجة النهضوية حركة كرد فعل على الاضطهاد الذي حدث لهم في ظل الاستعمار الأوروبي، ومن كتابها ليبولد سينغور، وكاونتي كار، وليون دوماس.

* غول لوزيتانيا أو أنشودة أنغولا مسرحية تسجيلية لبيتر فايس

* مثل شعبي

** دون كيشوت لسرفانتس

* سانشو تابع دونكيشوت


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock