نصوص

حصريا.. ننشر مونودراما “ظَلام ” للمخرج والكاتب السوري عبد الكريم عمرين


المسرح نيوز ـ القاهرة | نصوص

ـ

عبد الكريم عمرين

 

 

 

 

ظَــــــــــــــــــلام

 

مونودراما

 

 

[المسرح فارغ تماما.. أسود الجدران. يمكن أن يكون ثمة دولاب كبير(أو كرة كبيرة) رمادي اللون…. هو تعبير عن دوران الكون أو دوران الأرض.. أو دورة الحياة لأي إنسان. ويمكن أن يستخدمه الممثل في أثناء أدائه].

 

تُوِّجْتُ إنساناً ذاتً يومٍ، ذاتَ ليلةٍ، ذاتَ ساعةٍ. كنتُ في رَحِمِ امْرأةٍ كَمَا كنتمْ، وانْتَقَلْتُ مِنْ ظُلْمَةِ الرَّحِمِ إلى ظُلْمِ الدُّنْيا. والظُّلْمَةُ والظُّلْمُ تُوأَمَانِ رافَقَاني حتَّى هذهِ اللَّحْظَةِ الَّتي أَقِفُ فيها أمامَكُمْ.

وكانَ ظِلَّاً مِنْ أُناسٍ قُسَاةٍ أحياناً، ولُطَفَاءَ أحياناً أُخْرَى، وَكانَ مِنْهُمْ مَنْ يجلِسُ الآنَ أَمامي، وَمِمَّنْ أَقِفُ الآنَ أمامَهُ. أَمَّا الَّذينَ لمْ يَظْلِمُوني حتَّى الآنَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْكُمْ، فَإنَّهُمْ ظُلِمُوا مِنْ قِبَلِ آخَرينَ غَيْرِهِمْ.

ظلامٌ وظُلْمٌ تلكَ هيَ الحَيَاُة.

وكأنَّ البشرَ قَدْ وَلِدُوا لِيَعيشوا في الظَّلامِ.. ظَلامِ الرَّحِمِ، وَظَلامٍ تَحْتَ الشَّمْسِ، وظَلامِ الْقَبْرِ.

وفي رِحْلَةِ الظَّلامِ تلكَ، أَدْرَكْتُ أنَّ أَسْوَأَ الظُّلْمَةِ وَأَشَدَّهَا قَسْوَةً هيَ تلكَ الظُّلْمَةُ الَّتي عِشْتُهُا وتعيشونَها- تَحْتَ الشَمْسِ، فَهِيَ بُؤْسٌ وتَعاسةُ، رُغْمَ كلِّ الْمُوبِقَاتِ الَّتي تُسَمَّى أَمَلاً وفَرَحَاً وطُمُوحاً وعَدْلاً وحبَّاً ومَالاً وأطفالاً، ووًطناً وقوميَّةً وأحزاباً. وآخِرُ بُؤْسٍ نعيشُهُ هوَ بُؤْسُ الدِّيمُقْراطِيَّةِ…

يَسُوؤُكُمْ أيُّها النَّاسُ الطَّيِّبُونَ أَنْ أتحَدَّثَ أمامَكُمْ بهذهِ الطَّريقةِ. فقائِلٌ منكُمْ هذا إنْسَانٌ مُحَطَّمٌ. وتلكَ الَّتي تَجْلِسُ في هذهِ النَّاحِيَةِ تقولُ في نَفْسِهَا: هذا إنسانٌ مجنُونٌ. وهذا الْكَهْلُ يَفْهَمُ ما أَعْنِي، ولكِنَّهُ تَكَلَّسَ ضِمْنَ أفكارٍ هيَ والزِّئْبَقُ سَواءٌ. وتلكَ الصَّبِيَّةُ تَضْحَكُ في سِرِّها وتَقُولُ: يَبْدو أَنَّنَا سَنُشَاهِدُ اللَّيْلَةَ مِيلودراما كئيبةً؛ إِنْ لَمْ تُعْجِبْنِي سَأَخرجُ إِلَى مَا يُفْرِحُني حَتْمَاً.. سَأَخْرُجُ إِلَى مِتْعَةٍ مَا.

البشرُ عبيدُ الشَّهْوَةِ. نَعَمْ. عبيدُ الشَّهْوَةِ! أَلَمْ نَأْتِ إِلَى هذهِ الدُّنْيَا كَثَمَرَةٍ لِشَهْوَةٍ أَوْ لِشَهْوَتَيْنِ؟! أَلَمْ نَعِشْ حياتَنَا نَشْتَهِي لُعْبَةً؟! وَدرَّاجَةً؟ وثَياباً؟! أَلَمْ نَعِشْ حياتَنَا نَشْتَهي امْرَأَةً أو رَجُلاً!؟ أَلَا نَجْري بَشَكْلٍ مَحْمُومٍ لِنَمْتَلِكَ بَيْتاً أو سَيَّارَةً ووظيفةً أو عَمَلاً!؟ أَلَمْ نُحِبَّ والْحُبُّ مُنْتَهَى الأَنَانِيَّةِ!؟ أَلَمْ نَكْرَهْ والْكُرْهُ مُنْتَهَى الْأَنَانِيَّةِ؟! أَلَمْ نَقْتُلْ أَحَداً في خَيَالِنَا؟! في حُلُمِنَا عَلَى أَقَلِّ تقديرٍ؟! أَلَمْ نَتَمَنَّ الموتَ لِإِنسانٍ ما ذاتَ يَوْمٍ؟! هذا إِذا لَمْ نَقْتُلْ أَحَداً عَرَضَاً، وَلَمْ نَشْعُرْ بِذلِكَ.

نَعَمْ أَيُّها النَّاسُ الطِّيِّبُونَ… أَنَا رَجُلٌ مُحَطَّمٌ وَمَجْنُونٌ… ولا أَحْتَاجُ إِلى عَطْفِكُمْ أو تَعَاطُفِكُمْ.

جِئْتُ إِلَى هذهِ الَخَشَبَةِ لِأَحْكِيَ لكُمْ عَنْ نَفْسِي وَعَنْكُمْ وعَنِ الآخَرينَ. جِئْتُ لِأُفَكِّرَ أَمامَكُمْ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ. هَلْ يَجْرُؤُ أحَدُكُمْ عَلَى أنْ يُفَكِّرَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ؟! رُبَّما يَسْتَطيعُ.. نَعَمْ.. يُمْكِنُ أَنْ يُفَكِّرَ أَمامَ صَديقِهِ.. صديقَتِهِ.. زوجَتِهِ.. أَهْلِهِ.. أَقْصُدُ أُسْرَتَهُ.. أمامَ طبيبٍ نَفْسِيِّ. أَمَّا أَنْ يَأْتِيَ إِلَى خَشَبَةِ الْمَسْرَحِ، وَعَشَراتُ أَوْ مِئَاتُ العُيُونِ والآذانِ تُلاحِقُهُ وتَرْصُدُهُ فَذاكَ صَعْبٌ، وَصَعْبٌ جِدَّاً. (يخاطب أحد المتفرجين) هَلْ تستطيعُ أَنْتَ يا أُسْتَاذُ أَنْ تَفْعَلَهَا؟! هَلَّا تَفَضَّلْتَ يا سَيِّدي إِلَى هُنَا إِلَى جَانِبي لِتَبُوحَ بِمَا في قَلْبِكَ؟! هَلْ تَمْلُكُ الْجُرْأَةَ؟! (يخاطب إحداهنَّ) وأَنْتِ يا سَيِّدَتي أَوْ آنِسَتِي.. هَلَّا تَكَرَّمْتِ وصَعِدْتِ الْخَشَبَةَ لِتَبُوحِي؛ لَتَنُوحِي كَمَا أَنُوحُ؟! لا تَستطيعينَ؟! هَلَّا تَفَضَّلَ وتَكَرَّمَ وشَرَّفَنَا أَحَدُكُمْ إِلى هذهِ الخشَبَةِ يا سَادَةُ لِيَبُوحَ؟! (صمت) هَلْ منكُمْ مَنْ … يَبُوحُ؟! (صمت) هَلْ مِنْكُمْ مَنْ بَاحَ.. يَبُوحُ.. سَيَبُوحُ؟؟ (صمت)… إِي الْعَمَى.. مَتَى تَبُوحُونَ؟! فَقَطْ في أَقْبِيَةِ المخابراتِ؟! غريبٌ هُوَ الإنسانُ. اخْتَرَعَ وأَتْقَنَ شَتَّى العُلُومِ والفُنُونِ ولَكِّنَّهُ لَمْ يَستطعْ أنْ يَبُوح، ولَنْ يَبُوحَ. لا يُريدُ أنْ يُعْلِنَ أسرارَهُ العظيمةَ. وأسرارُه ُالعظيمةُ هيَ: خَيْبَاتُهُ وخِيانَتُهُ، غَبَاؤُه، ومُؤَامَراتُه، وفَشَلُهُ، وهَزائِمُهُ، أساليبُهُ الْمُلْتَوِيَةُ للوصُولِ إِلى أهدافِهِ…. ولا يَبُوحُ ..لا يَبَوحُ.. لا يَبَوحُ. ..بَلْ يَبُوحُ.. يَبُوحُ فَقَطْ حينَ يَتَعَرَّضُ لِقَهْر لا حُدودَ لَهُ.. لِحَرَجٍ شَديدٍ.. يَبُوحُ فَقَطْ.. حينَ تَتَسَاوَى الأشْيَاءُ.. (صمت)

وأَنْتُمُ الآنَ سَيِّداتي آنِسَاتي سَادَتِي.. لَسْتُمْ في ظَرْفٍ قاهِرٍ. ولَسْتُمْ في حَرَجٍ شديدٍ.. لِيَبُوَح أَحَدُكُمْ.. حَسَنٌ.. سَأَنْزِلُ أَنَا إِليكُمْ.. (بين المتفرجين) ها أنَذا بَيْنَكُمْ (إلى أحد المسرحيين من المتفرجين) هذا هُوَ التَّغْريبُ أُستاذ؟؟ وقَبْلَهَا وأَنَا فَوَقُ (يشير إلى الخشبة) كَسَرْنَا الجدارَ الرَّاِبعَ… وهَا أنَذا فُرْجَةٌ أمَامَكُمْ.. فُرْجَةٌ.. ولا يَنْقُصُنَا إِلَّا الْمِتْعَةُ.. يَعْنِي”فُرْجَةٌ وَمِتْعَةٌ”.. فُرْجَةٌ، فَرْجٌ، فَرَجٌ، كُلُّهُ تَفْريجٌ.. والْأَ.. وَالْأَنْكَى أَنَّ التَّفْريجَ ارْتَبَطَ بالْمِتْعَةِ: مِتْعَةٌ، مِتَعٌ، تَمْتِيعٌ، مَتَّعَهَا، مَتَّعَتْهُ، تَمَتَّعَا..(صمت طويل).

هلْ منكُمْ مَنْ تَمَتَّعَ وهوَ ينتظِرُ لحظةَ القبضِ عليهِ.. مُتَلَبِّسَاً بِلا ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ؟! هَلْ منكُمْ مَنْ ينتظِرُ مِثْلِي رجالاً أشِدَّاءَ.. يأْخُذُونَهُ عَنْوَةً.. ويَضَرِبُونَهُ بَغْتَةً.. ويَجُرُّونَهُ إِلَى أقْبِيَةٍ سوداءَ ظَلْمَاَءَ.. كَقُبُورٍ فِرْعَوْنِيَّةٍ لَمْ تُكْتَشَفْ بَعْدُ؟! هلْ يأْتُونَ الآنَ.. لِحَمْلِي إِلَى رِحْلَةٍ جَديدَةٍ مِنَ الْقَهْرِ؟!

هلْ منكُمْ مَنْ تَمَتَّعَ فِي.. زَنْزانَةٍ؟! (صمت) أسأَلُكُمْ أَنْتُمْ هَلْ منكُمْ مَنْ تَمَتَّعَ في زَنْزانَةٍ؟! طَيِّبْ.. هَلْ تَعْرِفُونَ أحداً مَا تَمَتَّعَ في زَنْزَانَةٍ؟! (صمت).. أنا أقُولُ لكُمْ…

الدَّاعي الواقِفُ أماكُمْ يُقِرُّ ويَعْتَرِفُ.. عَفْواً.. عَفْواً.. الدَّاعي (يشير إلى نفسه) يَبُوحُ لكُمْ بِأَنَّهُ قدْ تَمَتَّعَ في زَنْزانَةٍ. (يتوتر تدريجيا) نَعَمْ أنَا مَنْ تَمَتَّعَ.. لَكِنْ وَاللهِ بِشَكْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ. جَلَسْتُ أمامَ المُحَقِّقِ وتَمَتَّعْتُ  لِلَحَظَاتٍ… لا لَسْتُ شَاذَّاً… (يتوتر) كانَ المُحَقِّقُ أُنْثَى. نَعَمْ. ( وكأنه يعترف) كانَتْ أُنْثَى.. اسْمُهَا كِريسْتِينَا.. شَقْراءُ، شَقْراءُ جِدَّاً.. كَشَفَتْ عَنْ صَدْرِهَا المُكْتَنِزِ الْجَميلِ.. وَأَنا منذُ شُهُورٍ لَمْ أَرَ امْرَأَةً.. لَمْ أَتَذَكَّرِ امْرَأَةً.. لَمْ أتَخَيَلِّ امْرِأِةً.. كُنْتُ جائِعَ الْبَطْنِ وجَائِعَ الْجَسَدِ.. وجائِعَاً لِلْحُرِّيَّةِ وجَائِعَاً لِلْإِنْسَانِيَّةِ.. وكُنْتُ قَدْ كَفَرْتُ بِكُلِّ شَيْءٍ.. كَفَرْتُ بِكُلِّ شَيْءٍ..

تَلَوَّتْ أمَامِي.. أَطْلَقَتْ آهَاتِ غُنْجٍ ودَلالٍ.. تَأَوَّهَتْ أَكْثَرَ.. وكَأَنَّها تُمارِسُ.. كَمَا تُمارِسُ امْرِأَةٌ مُحِبَّةٌ عاشِقَةٌ.. بَلْ أَكْثَرَ.. كَمَا تُمارِسُ عَاهِرَةٌ مُحْتَرِفَةٌ.. (يتوتر أكثر) نَعَمْ. أَنَا تَمَتَّعْتُ لَحَظاتٍ.. كُنْتُ أَلْبَسُ اللَّوْنَ البُرْتُقاليَّ.. لَوْنَ لِبَاسِ الزَّبَّالينَ هُنَا.. وَلَوْنَ عاشِقِي الحُرِّيَّةِ هُنَاكَ.. ولَوْنَ لِبَاسِ فريقٍ رياضِيٍّ في مَكَانٍ مَا… نَعَمْ. كُنْتُ في غَوانْتَنَامُو.. أَكَّدْتُ لَهُمْ أَنْ لا عَلاقَةَ لي بْكُلِّ ما اتَّهَمُونِي بِهِ.. واللهِ لَمْ أُصَلِّ سِوَى فَتْرَةٍ وجِيزَةٍ عِنْدَمَا كُنْتُ مُراهِقَا.. (تصاعد) بَعْدَهَا أَعْجَبَتْنِي الْمارِكْسِيَّةُ.. واشْتَغَلْتُ مُثَقِّفَاً.. قابَلْتُ يُوسُفَ الْعانِي وجَوادَ الأَسَدي وفوازَ السَّاجِرَ وسَعْدَ الله وَنُّوسَ والطيِّبَ الصِّدِّيقِي والطَّيِّبَ الْعِلْجَ ورُوجِيهْ عَسَّاف وصَقْرَ الرُّشُود .. ناقَشْتُ طويلاً حُسَيْن مُرُوَّة وعابِدَ الجابِري وطيِّبَ تِيزيني.. قَرَأْتُ بلهفَةٍ ما كَتَبَهُ عبدُ الرحمنِ مُنيف وصُنْعَ الله إِبراهيم ويوسفُ القعيد وجمالُ الغيطاني وحنَّا مينة ومحمد ديب والطَّيِّبُ صالح. حَفِظْتُ أشعارَ أَمَل دُنْقُل وعبدِ المعطي حجازي وتوفيقِ زيَّاد ومحمود درويش وسعدي يوسف… كنتُ أَحْلُمُ بالعدالةِ وأحْلُمُ بالحرِّيَّةِ… شَرِبْتُ الكثيرَ مِنَ الخَمْرِ.. وصادقْتُ الكثيرَ مِنَ النِّساءِ.. وحضرتُ نَدَواتٍ ومِهْرَجاناتٍ كثيرةً عَنِ المسرحِ والسينما والأدبِ والفنِّ.. هذا اللِّسَانُ (يشير إلى لسانه) مارسَ الغيْبَةَ والنَّميمةَ على الجميعِ.. وحاضرَ في الحريةِ والعدالةِ والأخلاقِ.. والعاهِرَةُ خيرُ مَنْ يُحَاضِرُ في الَعَفَافِ. – وعَلى فِكْرَة.. كانَتْ لي صديقةٌ اسْمُهَا عَفاف.. لا تعرفُ العفافَ أبداً- هذا اللسانُ فضحَ السلطةَ هنا وصَفَّقَ لها هناكَ.. وتحدَّثَ عَنِ المخابراتِ وأساليبِها في دولٍ شَتَّى وسكَتَ عنها وبرَّرَ لها هنا أو هناكَ.. هذا اللسانُ دَجَّلَ ونافَقَ وكَذِبَ وصَدَقَ.. هذا اللسانُ “لسانُكَ حصانُكَ.. إنْ صُنْتَهُ صَانَكَ” كانَ حِصاني.. وسَبَبَ بؤْسِي وتَعاسَتي وشَقَائي….

جلسَ أمامي المحقِّقُ العاهِرَةُ.. وأنا ظمآنُ لتاءِ التَّأْنيثِ.. كانوا قدْ ضَربُوني واتَّهَمُوني بأَنّني مِنَ القاعِدَةِ.. قلتُ لهمْ: أيَّةُ قاعدةٍ وأيَّةُ أفغانستانَ وأيُّ طالِبَانَ؟؟؟ أنتمْ كذَّابونَ وقَتَلَةٌ.. أنتمْ تُريدونَ إِرهابَنَا.. أنتمُ اخْتَرَعْتُمْ فكرةَ الإِرهابِ.. أنا لستُ إرهابِيَّاً… واللهِ لستُ إرهابِيَّا…

كنتُ أتَمَشَّى على الكورنيشِ في بَيْروتَ.. جاءَ خمسةُ أشخاصٍ يَلْبَسُونَ أَسْوَدَ بِأَسْوَدَ.. وبِنَظَّاراتٍ سَوْداءَ.. اخْتَطَفُوني… عَصَبُوا عَيْنَيَّ.. لَمْ أَعُدْ أَرَى شَيْئَاً.. حَسِبْتُ لِلْوَهْلَةِ الأُولَى أنَّهُمْ سَيَتَّهِمُونَني بقتلِ الحريري.. وأَنَّني في طريقي إلى المحكمةِ الدَّوْلِيَّةِ.. فكَّرْتُ أَنْ أحْتَجَّ.. قلتُ في نَفْسِي غَداً سَتَقُومُ الدُّنْيَا ولا تَقْعُدُ.. سوفَ تَسْتَنْفِرُ منظَّماتُ حُقوقِ الإِنسانِ.. سوفَ تَتَحَرَّكُ الأُمَمُ المُتَّحِدَةُ.. سوفَ تَصْدُرُ البياناتُ مِنْ مُحِبِّي الحرِّيَّةِ.. سوفَ تَكْتُبُ الصَّحَافَةُ الدِّيمُقْراطِيَّةُ.. سَيَتَحَرَّكُ العُمَّالُ والفلَّاحونَ والمُثَقَّفُونَ الثَّوْرِيُّونَ.. سوفَ تَنُوحُ النساءُ.. سوفَ أُصْبِحُ بَطَلاً في عُيُونِ الجميعِ.. لا بُدَّ أَنَّ ثَمَّةَ قضيَّةً.. الآنَ صارَ لي قضيَّةٌ.. لا. الآنَ أصبحتُ أنا القضيَّةَ…

صَعِدْتُ إِلى سَيَّارَةٍ.. دَفَعُوني إلى الْمِقْعَدِ الخلْفِيِّ.. وبعدَ ساعةٍ مِنَ المَسيرِ صِرْتُ في منزلٍ مَا.. سمعتُ فيهِ أُنَاساً يتحدثُونَ بشكلٍ مُقْتَضَبٍ وغَيْرِ مترابطٍ بكلِّ اللُّغاتِ: العربيةِ، الانكليزيةِ، الفرنسيةِ، العبريةِ، الألمانيةِ.. لا.. المكانُ ليسَ الأُمَمَ المُتَّحِدَةَ بالتَّأْكيدِ. في اليومِ الثَّاني.. كنتُ في طائَرَةٍ ما.. بعدَ حوالَيْ ثلاثِ ساعاتٍ مِنَ الطَّيرانِ هَبَطَتِ الطائِرَةُ.. نَزَلَتْ.. إِنكليزيةٌ، ألمانيةٌ لَمْ أفهمْ حرفاً واحداً.. كأَنِّني كنتُ مُخَدَّراً.. ثُمَ طائِرَةٌ أُخْرى.. طيرانٌ.. طيرانٌ.. طيرانٌ… أخيراً أنا في غْوانْتَنَامُو.

غرفةٌ ضَيِّقَةٌ جِدَّاً.. كلابٌ بوليسيةٌ.. وُجُوهٌ شَمْعِيةٌ.. عُيُونٌ ذِئْبِيَّةٌ.. ماءٌ باردٌ.. تَعَرٍّ.. كلابٌ تَنْهَشُ فِيَّ.. ضَرْبٌ، تَعذيبٌ.. جوعٌ وعطشٌ.. حُقَنٌ طِبِيَّةٌ.. تدورُ الدُّنيا فِيَّ.. أَدورُ أنا في الدُّنْيا.. دُنْيَايَ، بلْ دُنْيَاهُمْ.. أنا سَحابةٌ.. غَمَامَةٌ.. أكادُ لا أمَيِّزُ الوجُوهَ.. خُبَراءُ تَعذيبٍ.. خُبَراءٌ سادِيُّونَ.. تَهديدٌ بالْقَتْلِ.. سَلاسِلُ حديديَّةٌ.. أسلحةٌ.. صوتُ ارْتِطامِ الحديدِ بالحديدِ.. زَنْزاناتٌ تُفْتَحُ.. زَنْزاناتٌ تُغْلَقُ.. أصواتُ المُعَذَّبِينَ تَخْتَرِقُ السَّماءَ السَّابِعَةَ..

  • الأفضلُ أنْ تَعْتَرِفَ.
  • أَعْتَرِفُ بِماذا؟؟
  • بأنكَ إرهابِيٌّ.
  • أنا لستُ كذلكَ.
  • أنتَ مِنَ القاعدةِ؟؟
  • أنا مِنَ القِمَّةِ.
  • لا تَسْخَرْ مِنَّا.
  • لا أعْرِفُ أيَّةَ قاعدةٍ.
  • بلْ تَعْرِفُ.
  • نعمْ.. أعْرِفُ قاعِدَةً واحِدَةً..
  • هَهْ.. بَرافُو.. قُلْ..
  • هذهِ القاعِدَةُ (يشير الى مؤخرته)

(بهدوء وكأنه يتابع حديثا آخر)

وكنَّا نتحدِّثُ عَنِ “الحَتْمِيَّةِ التَّاريخِيَّةِ” و”الاِصْطِفَافِ الطَّبَقِيِّ” وعَنْ “حركاتِ التَّحَرُّرِ” و”دُوَلِ عَدَمِ الاِنْحِيَازِ” وعَنْ “مَوْتِ الرأسمالِيَّةِ الْحَتْمِيِّ” ووصُولِهَا إلى نهايَتِهَا القُصْوَى “الإِمبريالِيَّةِ”.. اَلْ إِمْ بِرْ يَا لِيَّةِ ونحنُ مِنَ الْ إِشْ تِرا كِيَّةِ.. إِشتراكية؟ (يضحك بجنون) وكنا نتحدَّثُ عَنِ الفنِّ النَّظيفِ والمسرحِ الجادِّ والمسرحِ المُلْتَزِمِ والثَوْرِيِّ والطَّليعِيِّ والملْحَمِيِّ والتَّسْجيلِيِّ… وقَرِأْنا بياناتِ ونُّوسَ المسرحيَّةَ.. ونَبَشْنَا تُراثَنَا.. وَصَفَّقْنَا للنَّزَعَاتِ المادِّيَّةِ.. ونادَيْنَا: المَدَدَ.. المَدَدَ مِنْكُمْ يا رفاقَنَا السُّوفِيِيتَ.. دَسْتُورْ.. مِنْ خَاطِرْكُمْ.. يا سُوفْيِيت.. المدَدَ مِنْ ملاحَظاتِكُمْ.. وتَحالفاتِكُمْ.. وحَرْبِكُمُ البارِدَةَ.. يا.. يا.. سُو.. سُو.. يا سُوفْيِيت..

والسُّوفْيِيتُ كانُوا يأكلونَ الكافِيَارَ ويَحْتَسُونَ الفُودْكَا ويَحْلُمُونَ مِثْلَنَا بِسُقوطِ الإمبريالِيَّةِ.. ثُمَّ فَجْأَةً جاءَ أحدُهُمْ.. وأشْعَلَ الْبَخُورَ وتَمْتَمَ.. (يقلّد من يُحَضِّرُ الجان بالبخور) دَسْتُور.. دَسْتُور مِنْ خَاطِرْكُم يَا أَمْريكان.. دَسْتُورْ.. دَسْتُورْ مِنْ خاطِرْكُمْ يا قَيَاصِرَة.. كَلاسْنِسْتْ.. كَلاسْنِسْتْ.. كَلاسْنِسْتْ.. عَلَنِيَّةٌ.. بِيروسْتْرُويْكَا.. بيروسْتْرُويْكَا.. بيروسْتْرُويْكَا.. إِعادةُ بِنَاءٍ.. (يصعد إلى الخشبة)

لَمْ يُلْبِسُونِي سِوَى قِطْعَةٍ واحدَةٍ مِنْ لِباسِيَ الدَّاخِلِيِّ.. ذاكَ الَّذي يُسَمُّونَهُ وَرَقَةَ التُّوتِ.. وكثيراً ما حَقَّقُوا مَعِي وأنا عَارٍ تماماً.

نَعَمْ أنا مارسْتُ المِتْعَةَ.. دَعُوني أتذَكَّرْ.. (يجلس في مقدمة المسرح) مارستُ مِتْعَةَ التَّصَوُّفِ.. كنتُ مُتَصَوِّفَاً.. وَقَفْتُ في حَلَقَاتِ الذِّكْرِ (يقف) حَيّْ حَيّْ.. اللهْ حَيّْ.. كنتُ أَهِيمُ في مَلَكُوتٍ آخَرَ.. اللهْ حَيّْ.. أحْسَسْتُ بالعُبُودِيَّةِ اللَّذيذَةِ.. اللهْ حَيّْ… مارَسْتُ المُجَاهَدَةَ والْمُكَابَدَةَ.. جلستُ لَيالِيَ طويلةً تَحْتَ ضَوْءِ القمرِ أقرأُ أَوْرادِي.. اللهْ حَيّْ.. لَمْ أعُدْ أُحِسُّ بِمَا يَجْري حَوْلي.. اللهْ حَيّْ.. الحَلَّاجُ هُنَا.. وسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَضُمُّنِي.. ومُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبي يقولُ لي: أنتَ الآنَ تَعْرِفُ ما مَعْنَى نَعَمْ وَلا في آنْ مَعَاً.. حَيّْ.. النِّفَّرِي قُبالَتِي يُحَدِّثُنِي عَنْ مقابَلَتِهِ لِرَبِّهِ.. وسَيِّدي عَبْدُ القَادِرِ الْجيلانِيُّ يأْخَذُ بِيَدي.. اللهْ حَيّْ.. وسَيِّدي الْبَدَوِيُّ وَمِنْ ورائِهِ الرِّفَاعِيُّ يَدُورُ في الْحَضْرَةِ.. نَحْنُ في الْحَضْرَةِ، وَلَسْنَا فِيها.. حَيّْ.. حَيّْ.. اللهْ حَيّْ.. اللهْ حَيّْ.. اللهْ.. اللهْ    (يكرر الله وينطقها منقوصة كمن جاءه الحال.. يكررها ويجلس على ركبتيه ببطء)

  • يا بُنَيَّ إِذا اتَّسَعَتِ الرُّؤْيَةُ ضَاقَتِ الْعَبَارَةُ.
  • مَنْ عَرَفَ ذاتَهُ عَرَفَ اللهَ.
  • غايةُ الْحُبِّ أَنْ تَذُوبَ في الْمَحْبُوبِ.

(فجأةً) أَدْخَلُوني غُرفةً مِنَ الحديدِ طولُها مِتْرانِ اثْنَانِ.. عرْضُها مِتْرٌ واحدٌ.. اِرتِفاعُها مترٌ واحدٌ.. نعمْ غرفةٌ مِنَ الحديدِ.. بلْ قَبْرٌ مِنَ الحديدِ.. درجَةُ الحرارةِ فيها معدومَةٌ أَوْ تكادُ.. وأنا عارٍ تماماً إِلَّا مِنْ ورقَةِ التُّوتِ..

(أصوات طائرات حربية ومدافع ودبابات وانفجارات- إضاءة فلاشر، وهو متكور على ذاته)

هيَ الحربُ.. حَرْبُ الأيامِ السِّتَّةِ.. في اليومِ الخامسِ مِنَ الشَّهْرِ السَّادسِ، مِنْ عامِ سَبعةٍ وستِّينَ.. سَقطَ الثلجُ في حَزيرانَ.. وقمنا بــــ: حَفْلَةِ سَمَرٍ مِنْ أَجْلِ 5 حَزيرانَ.. وشاهَدْنا النَّارَ والزَّيْتُونَ.. والْغُرَباءَ لا يَشْربونَ القهوةَ… (صمت.. يغني): أصبحَ عندي الآنَ بندقيةٌ- أصبحتُ في قائمةِ الثُّوارِ- أَفْتَرِشُ الأشواكَ والقِفَارَ – وألْبَسُ الْمَنِيَّةَ (منتفضا) وتوالَتِ البياناتُ والبلاغاتُ: بلاغٌ رقمُ واحد: اخترَقَتْ مجموعةٌ فدائيةٌ الْحُدودَ ودخلتْ فلسطينَ الحبيبةَ.. وفجَّرَتْ عُبْوَةً ناسفةً.. وقتلَتْ وجَرحَتِ العشراتِ مِنَ الإسرائيليِّينَ.. بيانٌ رقمُ 2: مجموعةٌ فدائيةٌ تأخذُ رهائِنَ إسرائيليِّينَ في مْيُونيخَ.. وبياناتٌ.. بياناتٌ. يَعني نَهَضْنَا ثَوْرِيَّاً لا تُؤَاخِذُونَا بْهَالكَلِمَةْ…

قبرُ الحديدِ الَّذي وضَعُوني فيهِ لهُ فتحةٌ واحدةٌ.. طولُها عِشْرونَ سَنتيمتراً.. وعرْضُها خَمْسُ سنتيمترات.. هذهِ الفتحةُ اللعينةُ كانتْ لِرَمْيِ الطَّعامِ لي.. طعامٌ.. طعامٌ.. طعامٌ.. كِسْرَةُ خُبْزٍ يابسةٌ وعَفِنَةٌ.. كِسْرَةُ خبزٍ بِحَجْمِ الكَفِّ أو تكادُ.. لِساكِنِ القبرِ الحديديِّ.. (صمت طويل)

ثُمَّ صّحّوْنا قليلاً في تَشْرينَ.. وانْتَصَرْنا قليلاَ في تَشْرينَ.. وتَنَفَّسْنا قليلاً في تَشرينَ… وعَقَدْنَا المباحثاتِ في الخِيَامِ العربيةِ.. مباحثاتُ الكيلوميتر101.. وصِرْنا أبطالَ السَّلامِ الشُّجْعَانَ في كامْبْ ديفيد.. ثمَّ أُوْسْلُو.. ثمَّ مَدريدَ.. مدريدَ (يمطها) مدريدُ يَعْني الأندلُسَ.. الأندلسُ: قُرْطُبةُ وغَرناطَةُ وطُلَيْطِلَةُ ومُرْسِيَةُ… (يضحك بقوة.. صمت طويل)

بعدَ الاِنْكِسَارِ في حَزيرانَ صِرْنَا ثُواراً. وبعدَ الاِنتصارِ في تَشْرينَ صِرْنا مِنْ مُحِبِّي السَّلامِ.. (بسخرية) يا سلامْ عَالسَّلامْ.. يا سَلامْ عْلِيْكْ يا عَبْدَ السَّلامْ.. إِي التحيةُ العربيةُ الْقُحَّةُ فيها كلمةُ السَّلامِ.. السلامُ عليكُمْ.. ( يمط كلمة السلام) السلامُ.. السلامُ عليكُمْ.. السَّلامُ عليكمْ.. (يغني) السلامُ عليكُمْ.. السلامُ عليكُمْ.. ويا سَلامْ سَلِّمْ الْحِيطَةْ بْتِتْكَلِّمْ.. ويا سَلامْ عَالدُّنْيَا وحَلاوِتْهَا في عِيْنِ العُشَّاقْ.. ويا سلامْ.. سَلامْ..

(فجأة) ثلاثةُ أشهرٍ وأنا أَرْضِي حديدٌ.. وسَمائي حديدٌ.. جِهَاتي حديدٌ.. بدأَ الصَّدَأُ يَغْزُونِي.. صَدَأُ الزَّنْزانةِ.. اَلجهاتُ كُلُّها صَدَأٌ.. عَقلي صَدَأٌ.. روحي صَدَأٌ.. كُلُّ شَيْءٍ صَدَأٌ.. الغرفةُ الحديديةُ قَوَّسَتْ ظَهْري.. وقطعتْ لِسَاني.. نَسِيتُ الكلامَ.. نَسِيتُ الحروفَ.. نَسِيتُ الوجوهَ الآدَمِيَّةَ.. أَوْهامٌ , صُوَرٌ وأَوْهامٌ.. الخَيَالُ يُطْلِقُ الْعَنَانَ.. كُلُّ الذِّكْرَياتِ والصُّوَرِ تَمَاهَتْ.. كُلُّ الأَلْوانِ اختَلَطَتْ.. فَقَدْتُ الْإِحْسَاسَ بِجَسَدي تماماً.. (صمت)

بَعْدَ الهزيمةِ علَى الأرضِ.. انْتَصَرنا على ذَواتِنَا..

بَعْدَ النَّصْرِ علَى الأرضِ… هُزِمْنَا في ذواتِنَا..

معادَلَةٌ غَيْرُ مَنْطِقِيَّةٍ.. ونحنُ الَّذينَ دَرَسْنَا الْمَنْطِقَ مِنْ أَرِسْطُو إِلَى هِيغِل.. وقَرَأْنَا عَنِ الرُّواقِيَّةِ, وأَيَّدْنَا القَرامِطَةَ.. ومَجَّدْنا سْبَارْتاكُوسَ وثَوْرَةَ الزَّنْجِ.. وتْشِي غِيفارا.. وأَعْلَنَّا الْحُسَيْنَ ثائِراً وشَهيداً.. وأَدَنَّا يَزيدَ بِنَ معاويةَ، وهِتْلِرَ ومُوسوليني وبينُوشِيتْ.. ورَكَضْنا وراءَ بْريخْتْ ومِيرخُولْدْ.. والمسرحِ التَّجْريبِيِّ.. صِرْنا نُجَرِّبُ في كُلِّ شَيْءٍ، عَسَى أنْ نَنْتَفِعَ بِما تَعَلَّمْنَا، وَنَتَعَلَّمَ مَا يَنْفَعُنا.. هَرْوَلْنَا إِلى الأُسْطورةِ والرَّمْزيَّةِ.. جَرَّبْنا السُّورْيالِيَّةَ والتكعيبيَّةَ والْمُثَلَّثِيَّةَ والتَّرْبيعِيَّةَ واللُّوغَاريتْمِيَّةَ.. دَرَسْنا صُورَةَ الفَنَّانِ في شَبَابِهِ وفي رُجُولَتِهِ وفي كُهُولَتِهِ.. وتسَاءَلْنَا: لِمَنْ تُقْرَعُ الأَجْراسُ؟؟ ومَا العَمَلُ؟؟ أَمْسَكْنَا بالشِّراعِ حينَ هَبَّتِ العاصِفةُ، صَرَخْنَا بِكُلِّ قُوَّةٍ: الفيلْ يا ملكَ الزَّمانْ، وقَرَّرْنا أنَّ الملكَ هوُ الملِكُ، وحَضَرْنا “حَفْلَةٌ علَى الخَازوقْ”، وحَفلةَ “عَريسْ لِبِنْتِ السُّلْطانْ”.. صَفَّقْنَا للتَّقَدُمِيِّ العظيمِ رُوجيهْ غَارودي.. ثم اعْتَمَرَ الرَّجُلُ وطافَ حَاجَّاً في الْبَيْتِ الْعَتيقِ.. سَمِعْنا كَلاسيكَ الموسيقَى، وكَارمينا بُورانا، وناسَ الْغِيوان.. وغَنَّيْنَا مَعَ الشيخِ إِمام: آه يا عَبْدِ الْوَدُود.. (يغني) يا مَصْرِ قُومي وْشُدِّي الْحِيلْ.. كُلِّ اللِّي تِتْمَنِّيهْ عَنْدِي..

(صمت.. يتفرّس في الجمهور)

في قبرِ الحديدِ.. عشتُ أنا والموتَ في حربٍ ضَرُوسٍ.. لكنَّنا كُنَّا عُقلاءَ جِدَّاً.. لمْ يتغلَّبْ أحدٌ مِنَّا على الآخَرِ، فقدْ حافظْنَا على صيغةِ: لا غالبَ ولا مغلوبَ.. وكأنَّنا أُمراءُ حربٍ بامتيازٍ. في مَثْوايَ الحديديِّ.. فقدتُ الإِحساسَ بجسدي تماماً.. بَرْدٌ.. بَرْدٌ شديدٌ.. تَكَوَّرْتُ على نَفْسِي.. أُلامِسُ أجزاءً مِنْ جسدي.. وأَعْجَبُ وأَسأَلُ نَفْسِي: لِمَ هاتانِ السَّاقانِ؟! ما فائدةُ اليَدَيْنِ؟! لا عَمَلَ للعيْنَيْنِ والأُذُنَيْنِ في عَدَمٍ مُظْلِمٍ.. (صمت قصير) أنا كَوْمَةُ لَحْمٍ تَخْتَرِقُها رُوحٌ صَدِئَةٌ.. أنا رُوح نازِفَةٌ في جسدٍ مُهْتَرِئٍ.. سأَبوحُ لكمْ بِشَيْءٍ فظيعٍ.. كنتُ أسألُ نفسي: أَيَّةُ فَتْحَةٍ مِنْ فَتْحَتَيْ جسدي للطَّعامِ؟!… وأيَّةُ؟؟.. لَقَدِ التَبَسَ علَيَّ الأمرُ. (صمت، ثم بصوت خافت، يتصاعد تدريجياً) بلادي.. بلادي.. بلادي لكِ حُبِّي وفُؤَادي.. وَعَقَدْنَا العَزْمَ أَنْ تَحْيَا الجزائرْ.. نُفُوسٌ أُبَاةٌ ومَاضٍ مَجيدْ..

وصارَ التَّيَّارُ القَوْمِيُّ تَيَّاراتٍ.. والحزبُ الاِشْتراكِيُّ أحزاباً.. والفِئَةُ الدينيَّةُ فِئَاتٍ.. ومازِلْنا في لُحْمَةٍ.. لُحْمَةْ.. لُحْ.. مَةْ.. مَةْ.. مَا.

جلسَ المحقِّقُ أمامي.. شَقراءُ بيضاءُ.. بِعُيونٍ زَرقاءَ..

  • حَدِّثْني عَنْ نَفْسِكَ.. لا تَعْتَبِرْني مُحَقِّقَاً.. أنا صديقةٌ.. بِإمكانِكَ أَنْ تَثِقَ بي.
  • نعمْ..أَسِقُ بكِ.. أَسِقُ.. سَوْقَاً.. سَاقْ..(ينفجر) ساقُوني إلى هُنا.. نعمْ، لماذا ساقُوني إلى هُنا؟؟ وتَتحدَّثينَ عن السِّقَة؟؟
  • لا عُيوني.. ليسَ عَنِ السِّقَةِ بلْ عَنِ الثِّقَةِ ( تلفظ بلكنة انكليزية)
  • عَنِ السِّكَةْ.. سِكَةْ.. سِكْ.. يَسِكُ.. سِكَا..مَسْكُوكاً.. هَلْ تَقْصُدينَ عَنِ السِّكَّةِ؟؟ عَنِ السِّكَكِ؟؟
  • تَعْرِفُ؟؟ أنتَ لطيفٌ جِدَّاً.. وإنسانٌ عاقلُ وتُحِبُّ الْمُزاحَ.
  • أنا لا أَمزحُ.

وحَمْلَقْتُ في صَدْرِهَا.. الْمُنْدَفِعِ.. أحسستُ ببراكينَ تَفُورُ بِداخلي.. مَسَحَتْ شَعْري.. ثمَّ مَسَحَتْ خَدِّي، وهي مُنْحَنِيَةٌ أَمامي.. مالَ الصدرُ الأبيضُ النَّاهِدُ إِلَيَّ.. يا عَفْوَ اللهِ.. يايْ.. أيُّ بياضٍ نَزَلَ مِنَ السماءِ!!.. صَدْرٌ بَضّْ.. يستأْهِلُ النَّهْشَ والْعَضّْ. صارَ وَجْهِي في صَدْرِ المُحقَقِّ.. تَمَرَّغْتُ بِه..أحسستُ بالدفءِ.. أحسستُ بصدرِ أُمَّي.. وصَدْرِ النساءِ اللَّواتي أَحْبَبْتُهُنَّ.. وصدرِ النساءِ اللَّواتي لَمْ أُحِبَّ.. ابْتَعَدَ المحققُ عنِّي لِلَحظاتٍ….

  • (بغنج وبنداء أنثوي) قُلْ لي حبيبي.. أنتَ مِنَ القاعدةِ؟؟
  • لا..
  • ماذا تعرفُ عَنِ القاعدةِ؟؟
  • أعرفُ أنَّكِ شَهِيَّةٌ جِدَّاً.. وحُلْوَةٌ جدَّاً.. خُذيني خَارجَ هذهِ الأَسْوارِ.
  • هلْ تعرِفُ أشخاصاً مِنَ القاعدةِ؟؟
  • لا أعرفُ إلَّا أُولئكَ الَّذينَ يَعْرِفُهُمُ الجميعُ من التلفزيون.
  • أنتَ.. أنتَ صادقٌ؟؟
  • صادقٌ.. صادقٌ جداً.. لا تُعَذِّبِيني.. أنا جِسْمٌ نَخِرَةٌ.

أخذَ المحققُ يفتحُ أزرارَ قميصِهِ الزَّهْرِيِّ.. في الداخلِ سُوتْيَانٌ أسْوَدُ.. يَحْضُنُ هَضَبَتَيْنِ مِنْ جَمْرٍ لاذِعٍ. وبدأَ الصدرُ الْمُكْتَنِزُ يَتَحَرَّرُ مِنْ ضِيْقِ القَميصِ والسُّوتْيَانِ.. فَكَّ المحققُ حَمَّالَةَ الصدرِ.. وأخذتْ تُلَوِّحُ بها يميناً ويساراً.. ثم لَوَّحَتْ لِلَحَظَاتٍ بِحَبَّتَيِ الْكَرَزِ الرَائِعَتَيْنِ.. يا إلهي…لماذا أنا هنا.. لماذا؟؟ أَخْرِجُوني باللهِ عليكُمْ.. تعالَ أيُّها المحققُ.. يا بْنَةَ العاهِرَةِ.. أيَّتُها الجميلةُ الرائعة.. تعالَيْ أَدْخُلْ فيكِ.. اِحْميني بَلِ احْمِليني إلى دُنْيا أُخْرَى مختلِفَةٍ.. إلى فضاءٍ آخرَ.. إلى مجموعةٍ شمسِيَّةٍ أُخْرَى.. إلى شَلَّالِ الضِّيَاءِ الَّذي أراهُ دائماً مَعَ كُلِّ امْرَأَةٍ لها الحضُورُ الأَقْصَى لِلْأُنْثَى.

  • (بتدلل) اِسْمَعْ.. إِنِ اعْتَرَفْتَ سوفَ أَدَعُهُمْ يَزيدونَ لكَ الطعامَ والهواءَ والضَّوْءَ.
  • أنتِ الطعامُ.. أنتِ الهواءُ.. أنتِ الضوءُ..

فَتَّشْتُ عن جَيْبٍ في سِرواليَ الْبُرْتُقُالِيِّ.. لمْ أَجِدْ لَهُ جَيْبَاً.. حَرَمُونا مِنَ الجُيُوبِ.. بَحَثْتُ لَمْ أَجِدْ جَيْبَاً لِأَدُسَّ يَدِي فيهِ وأُداعِبَ.. الْآدَمَيَّ.. الشيءَ الوحيدَ الَّذي بَقِيَ حَيَّاً في جَسَدي.. حَيَّاً حَسَّاسَاً.

  • هَهْ.. قُلْ حَبيبي.. تَعْرِفُ؟؟ أنتَ تُعْجِبُني.. وتُعْجِبُني جداً.. فيكَ الكثيرُ مِنَ الرُّجولَةِ.. الَّتي أُحِبُّها…

يا عَفْوَ اللهِ.. تَكَوَّرْتُ على نَفْسِي، وضَعْتُ يَدَيَّ الاِثْنَتَيْنِ على بَطْني.. وحِيْنَ انْطَوَيْتُ أَكْثَرَ أَمْسَكَتْ يدايَ الْعُضْوَ الوحيدَ الذي بَقِيَ يُحِبُّ الحياةَ مِنْ جَسَدي.. آه.. آه..

  • (أقصى الغنج والإثارة) هَهْ.. حبيبي.. قُلْ لي.. أنا أُعْجِبُكَ؟؟ هَاهْ؟؟ هَلْ صَدري جميلٌ؟؟ سَأُريك شيئْاً أجملَ….

آه.. أيُّها الأَلَمُ الجميلُ.. أيُّها الْجَمالُ الأَليمُ.. أيُّها الْقُبْحُ الرَّائِعُ.. أَيَّتُها الْبَهْجَةُ الْكَئيبَةُ.. خُذيني يا امْرَأةَ جِلْجَامِيشَ.. خُذي الْحَيوانَ الَّذي في داخِلِي.. شَذِّبِيني.. قُصِّي أَظَافِري وشَعْري.. خَلِّصِيني مِنْ عَصَا الْمَشَاعِيَّةِ.. حِبيبتي.. وتَنَاثَرَتْ حِمَمُ الرُّجُلِ الْحَيَوانِ.. (بسرعة)

  • حبيبتي.. حبيبتي.. حبيبتي (ببطء تدريجي ) حَبيبت.. حِبيب.. حَبي..حَبِ.. حَحْ.. حَ.. اُغْرُبي مِنْ هنا.. أيَّتُها العاهرةُ الأِمْريكِيَّةُ.. اَخْرِجُوني مِنْ هذا المكانِ.. أنا حيوانٌ..
  • أَلَسْتُ جميلةً؟؟
  • أنتِ قبيحةٌ.. أنتِ ساقِطَةٌ.. عاهِرَةٌ.. سافِلَةٌ.. قَذِرَةٌ.. دَنِيئَةٌ.. وَضِيعَةٌ.. أنتِ.. أَمْريكَا.. أَمْريكَا.. أَمْريكَا..

( يبكي بحرقة. سبوت إضاءة. إظلام)

( موسيقى.. إضاءة تدريجية)

أُمِّي الرَّمادِيَّةُ الْعَيْنَيْنْ

اَلْقُرْمُزِيَّةُ الشَّفَتَيْنْ

ذاتُ الْوَجْهِ الْمُتُغَضِّنْ..

حَكَتْ لَنَا عَنْ أَيَّامِ السَّفَرْ بَرْلِكْ…

كيفَ كانَ الْجُوعُ حِصَانَاً.. مُطْلَقَ الرَّغَبَاتْ..

وصَبَايا السُّلْطَانِ الْخَليفَةِ

تَتَزَيَّنَّ بِالْكُحْلِ الْهِنْدِيِّ.. وبِأَمْشَاطٍ عاجِيَّةْ..

أُمِّي كانِتْ تَعْرِفُ سِرَّاً..

اِسْتَحْلَفَتْنَا بِالدَّمِ الَّذي لا يَصِيرُ مَاءً..

وَبِلَبَنِ ثَدْيَيْهَا الْمُتْعَبَيْنِ الْمُجْهَدَيْن أَنْ نَنْسَى مَا سَتَقُولُهُ

أُمِّي قَالَتْ.. بَلْ مِنَّا اقْتَرَبَتْ.. ثُمَّ هَمَسَتْ:

السُّلْطَانُ لا حَوْلَ لَهُ ولا قُوَّةْ

اَلْبَاشَواتُ هُمْ أَصْحَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ

الَّذي يُخَالِفُ الْبَاشَا.. يُخَالِفُ السُّلْطَانَ

والَّذي يُخَالِفُ السُّلْطَانَ.. يُخَالِفُ الْمَشَايِخَ

والَّذي يُخَالِفُ الْمَشَايِخَ.. يُخَالِفُ اللهَ.. لا.. لا..

أَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظيمَ.. رَبَّنَا..

شاحِباً صارَ وَجْهُ أُمِّي مِثْلَ أَوراقِ الْخَريفِ..

خَفَّتْ.. تَوَضَّأَتْ.. صَلَّتِ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَ وأَكْثَرَ

بَيْدَ أَنَّ وَجْهَ أُمِّي

ظَلَّ شاحِباً.. مِثْلَ أَوراقِ الْخَريفِ (صمت)

اِعْتَقَدْتُ أَنَّ أُمِّي هيِ الضَّحِيَّةُ الوحيدةُ في هذا العالَمِ.. لَكِنِّي اكْتَشَفْتُ أَنَّ كُلَّ النِّسَاءِ ضَحايا.. نعمْ.. وَهُنَّ ضَحايا أَنْفُسِهِنَّ أيضاً.. النِّسَاءُ.. ومَا أَدْراكَ ما النِّسَاءُ. النِّسَاءُ قِمَّةُ الحبِّ والْحَنَانِ والرِّقَّةَ والإِخْلاصِ.. هُنَّ أَنْفُسُهُنَّ قِمَّةُ الْكُرْهِ والْقَسْوَةِ والْخِيَانَةِ.. اَلْمَرْأَةُ قِمَّةُ الْأَنَانِيَّةِ.. لأَنَّها تَسْعَى إِلَى التَّمَلُّكِ.. تُحِبُّ الْمُلْكِيَّةَ.. تَسْعَى لِتَمْتَلِكَ لُعْبَةً أَوَّلاً.. ثُمَّ مِرْآةً وَمِشْطاً.. أَدواتِ الزِّينَةِ والتَّجْميلِ.. حِذاءً وَثَوْباً وَأَزْياءَ لِتُنَاسِبَ لَحْظَةَ التَّباهِي الآنِيَّةَ الَيَوْمِيَّةَ الكَاذِبَةَ.. ثمَ تُريدُ أَنْ تَمْتَلِكَ رَجُلاً.. أَوْلاداً.. وكُلُّ ذلكَ باسِمِ الحُبِّ والْحُبِّ وحْدَهُ.. ومِنَ الحُبِّ ما قَتَلَ.. لا أعْرِفُ مَنِ الَّذي قالَ هذهِ الجُمْلَةَ الصغيرةَ.. لَكِنْ مِنَ الحُبِّ مَا قَتَلَ جُمْلَةٌ وَجِيهَةٌ بِشَكْلٍ مِنَ الأَشْكالِ.. قِمَّةُ الْحُبِّ.. قِمَةّ الْقَتْلِ.. قِمَّةُ الْفَضَائِلِ.. قِمَّةُ الْقَتْلِ.. قِمَّةُ الْوَضَاعَةِ والْوَسَاخَةِ.. قِمَّة الْقَتْلِ..

لا تَسْتَنْتِجُوا.. أَنا ضِدُّ الْمَرْأَةِ.. أَنا أَكْرَه الْمَرْأَةَ.. اَلْمَرْأَةُ تَتَعَامَلُ مَعَ الْمَرْأَةِ بِمُنْتَهَى الْوُدِّ والْحُبِّ واللُّطْفِ في الظَّاهِرِ… وفي الْبَاطِنِ الْكُرْهُ والْحَسَدُ والِانْتِقَادُ الدَّائِمُ.. كُلُّ امْرَأَةٍ فَوْقَ هَذِي الْأَرْضِ هيَ مَافْيَا.. والْمَافْيَا لها نُفُوذٌ مُحَدَّدٌ ونَشَاطٌ مُحَدَّدٌ.. والْوَيْلُ لِمَنْ يَخْتَرِقُ الْمَافِيَا.. كُلُّ امْرَأَةٍ فَوْقَ الَبَسِيطَةِ هِيَ أَزْعَرُ الْحَارَةِ.. والْوَيْلُ لِمَنْ يَتَحَرَّشُ بالْأَزْعَرِ.. والنِّسَاءُ يَتَعَامَلْنَ مَعَ بَعْضِهِنَّ عَلى أساسِ أَنَّ لِكُلِّ مَافْيَا نَشَاطَها ونُفُوذَهَا.. ولِكُلِّ مُعَلِّمَةٍ “تُوحَةْ.. أَوْ عَطِيَّاتْ”.. استقلالُها الإِداريُّ والْفَنِّيُّ.. وكُلُّهُنَّ يُنَادِينَ بالحُرِّيَّةِ والسِّيَادَةِ والاِسْتِقلالِ.. ولَيْسَ لِلْمَرْأَةِ عَدُوٌّ إِلَّا نَفْسُهَا.. ولا يَقْهَرُ المرأةَ إلَّا الْمَرْأَةُ..

(صمت.. خوف.. ذعر.. ترقّب)

يا إلهي متى يأتونَ؟؟ الرجالُ الَّذينَ سَيُحقِّقُونَ معي مِنْ جَديدٍ أينَ هُمْ؟؟

هلْ يأتُونَ في هذهِ اللَّحْظةِ؟؟ هلْ سَتَشْهَدُونَ لحظةَ اعْتِقَالي مِنْ جَديدٍ؟؟

هل سَتَبْقَى عُيُونُكُمْ مفتوحَةً؟؟ أَمْ سَتَتَجَاهلُونَ الأَمْرَ كما تَجَاهَلَهُ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ؟؟

(يخاطب الرجال الذين ينتظرهم) تَعَالَوْا.. لستُ خائفاً منكُمْ.. أنا لا أَخافُكُمْ.. لستُ جباناً.. عَرَفْتُ كلَّ أنواعِ التَّعذيبِ والْقَهْرِ والسَّحْقِ والاِغْتِصَابِ.. لا. بَلْ كُلَّ أنواعِ الْمَوْتِ.. نعمْ كلَّ أنواعِ الموتِ.. مِتُّ كثيراً.. وعشتُ كثيراً.. في غَوانْتَانامو, وفي الْمُعْتَقَلِ العرَبيِّ الَّذي لمْ أستطعْ حتَّى هذهِ اللَّحْظَةِ أنْ أعْرِفَ أينَ هُوَ.. في أَيَّةِ دولةٍ؟؟ في أيَّةِ أرضٍ عربيةٍ؟؟.. تَعَالَوْا خُذوني إِليكُمْ.. سِيَّانَ أَنْ أعيشَ هُنَا أو هُناكَ أو عِنْدَكُمْ.. لمْ أفعلْ شيئاً.. (يصرخ) لا لمْ أفعلْ شيئاً. لَفَّقْتُمْ ليَ التُّهَمَ.. وطَحَنْتُمْ كَرامتي وكُلَّ ما هو جميلٌ في حياتي.. (يصرخ) تَعالَوْا.. تَعالَوْا.. لا تتركُوني أعيشُ في قَذارةِ الاِنْتِظارِ.. (صمت)

سأبوحُ لكمْ ببعضِ أسرارِ صِراعِ الْمَافْيَاتِ.. أعرِفُ امرأةً قتلَتْ زَوْجَها – الْفَنَّانَ المُبْدِعَ – بِقَصْدِيَّةٍ بَحْتَةٍ.. والمرأةُ هذهِ طَبيبَةٌ.. طبيبةٌ. لَيْلَتَهَا كانَ الرَّجُلُ الْمِسكينُ مُتْعَباً مُرْهَقَاً مُجْهَداً.. وهِيَ تُنَاكِدُهُ لأَنَّهُ نَظَرَ إلى امْرَأَةٍ أُخْرَى بِإِيجَابِيَّةٍ مَا.. وإِزاءَ ذَلِكَ.. قامتِ الطَّبيبةُ بِوَصْلاتِ رَدْحٍ.. نَسِيَتْ ثَقافَتَهَا.. نَسِيَتْ عُلُومَهَا.. وتَصَرَّفَتْ كَمَافْيَا، وكَأَزْعَرِ الْحَارَةِ..

  • أنتَ مُعْجَبٌ بهذِهِ التَّافِهَةِ؟؟
  • عَمَّنْ تَتَحَدَّثِينَ؟؟
  • عَنْ دَلَعْ.. وِلَّا نْسِيتْ الدَّلَعْ مِنْ دَلَعْ؟؟
  • لا تَقُولي عنهَا هكذا. هيَ ليستْ كَذلِكَ.
  • وتُدافِعُ عَنْهَا؟؟؟
  • لا أُدافِعُ عنْهَا. هيَ ليستْ كذلِكَ.
  • هذهِ البشِعَةُ الَّتي تَتَصَنَّعُ الرِّقَّةَ والأُنُوثَةَ.. رائِحَةُ عادَتِهَا تَزْكُمُ الْأُنوفَ.. تُفَكِّرُ بطريقةٍ غَرائِبِيَّةٍ.. هيَ دُودَةٌ ليستْ أكْثَرَ ولا أَقَلَّ.. وأنتَ قليلُ الْعَقْلِ.. أَنْتُمُ الرِّجالُ كُلُّكُمْ قَليلو عَقْلٍ..
  • هيَ ليستْ كذلِكَ.. وأَنْتُنَّ كُلُّكُنَّ بِشَكْلٍ مَا تَتَصَنَّعْنَ الرِّقَّةَ.. ورائِحَتُكُنَّ تَزْكُمُ الْأُنُوفَ.. وَرَحِمَ اللهُ الْعَطَّارينَ..
  • اِخْرَسْ.. اِخْرَسْ.. هلْ تُحِبُّهَا؟؟
  • لا.. لا أُحِبُّهَا.. لَكِنَّ الْمَرْأَةَ.. قَصْدي الْفَتَاةَ.. طَيِّبَةٌ وَمُمَيَّزَةٌ.
  • اَلْمَرْأُةُ!! الْفَتَاةُ!! هلْ هيَ فَتَاةٌ أَمِ امْرَأَةٌ؟؟!! قُلْ هَا قُلْ..
  • لا أعرفُ.. وليسَ مُهِمَّاً.. اَلْمُهِمُّ أَنَّها إِنْسَانَةٌ.
  • مِنْ أيْنَ لَهَا الْإِنْسَانِيَّةُ..
  • تُصْبِحِينَ عَلَى خَيْرٍ..
  • لا.. لَنْ تَنَامَ اللَّيْلَةَ.. ولَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ خَيْرٌ.

وهُوَ لَمْ يَنَمْ فِعُلاً في تِلْكَ اللَّيْلَةِ.. إِلَّا في الصَّبَاحِ.. وعِنْدَها فقطْ.. نامَ نَوْمَتَهُ الْأَبَدِيَّةَ.. طَوالَ اللَّيْلِ كانَ يُعاني مِنْ أَزَمَةٍ قَلْبِيَّةٍ.. وهيَ الطَّبيبَةُ.. الزَّوْجَةُ الْمُحِبَّةُ.. صاحِبَةُ الْقَلْبِ الْإِنْسَانِيِّ الكبيرِ.. تَرَكَتْهُ كَذلِكَ.. حتَّى ماتَ.. نعمْ بِبَسَاطَةٍ.. ماتَ.. وحِينَ سُجِّيَ جُثْمَانُهُ لِوداعِهِ.. يا حَبيبي لِمَ تَرَكْتَنِي؟؟ وَلِمَنْ تَرَكْتَنِي؟؟ يا رَبُّ لِماذا؟؟ لِماذا زَوْجِي أنا بالذَّاتِ؟؟ يِقْبِرْ قَلْبِي. طُولْ عُمْرُهْ ما قالْ آه.. وأنا طُولْ عُمْري مَعَاهْ عَسَلْ وْسُكَّرْ.. لِيشْ ياربّْ لِيشْ؟؟ يا لَيْتَنِي أنا ولا أنتَ.. قُوم وِتْفَتَّلْ بْهَا الْبيتْ.. تُقْبُرْني.. لَوْ قَبَرْتُوني جَنْبُه.. اقْبِرونِي بْجَنْبُه..

وتَضْرِبُ وَجْهَهَا.. وتُمَزِّقُ ثِيَابَهَا.. وهِيَ تَتَطَلَّعُ إلى الآخرينَ والأُخْرَياتِ لِتُلاحِظَ تأثيرَ الْوَصْلَةِ الميلودرامِيِّةِ العالِيَةِ التي قامتْ بِهَا.. ولا تَنْسَى المرأَةُ أبداً.. حتَّى في تلكَ اللَّحَظاتِ.. الرِّجَالَ الَّذينَ غَازَلُوهَا مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرينَ.. ولا مَاذا تَلْبَسُ غَريماتُها مِنَ النِّسَاءِ..

هلْ مارسَ أحدُكُمْ مِتْعَةَ القَتْلِ؟؟ هذهِ المرأَةُ مارَسَتِ الْقَتْلَ عَنْ سابِقِ إصْرارٍ وتَصْميمٍ.. ودافِعَهَا الْحُبُّ .. وجميعُنَا لدينَا هذا الدَّافِعُ أو نَتُوقُ إليهِ..(صمت.. موسيقى)

نعمْ.. أنا أحْبَبْتُ أيضاً.. مِثْلَهَا.. مِثْلَكُمْ.. مِثْلَ الجميعِ.. أحْبَبْتُ.. وعَشِقْتُ.. وكُنْتُ مُغْرَماً.. ثائِراً.. أَرَدْتُ تَغْيِيرَ الْعَالَمِ بِالْحُبِّ.. كِدْتُ أَصيحُ يا مُحِبِّي الْعالَمِ اتَّحِدُوا.. أَحْبَبْتُ وكَتَبْتُ لِمَنْ أُحِبُّ:

وَأَعْلَمُ أَنَّ الشَّمْسَ تَطِيرُ بِجَنَاحَيْكِ

وَأَنَّ الْأَزْرَقَ في عَيْنَيْكِ

وَأَنَّ الْأَسْوَدَ يَمُوتُ حِيْنَ تُعْلِنِينَ الصُّبْحَ..

وَالصُّبْحُ يَعْقُبُهُ نَهَارْ

وَأَعْلَمُ أَنَّ لِرايَتِي

لَوْنَ دَمِكِ الْمَسْفُوكِ

في دَفَاتِرِ التَّحْقِيقِ

وَعَلَى جُدْرانِ الزَّنْزَانَاتِ

وَفِي حَانَاتِ التُّجَّارْ

أَعْلَمُ أَنَّ الْمَجْدَ فِي جَبِينِكِ

أَنَّ الْمَنْشُورَ الْأَوَّلَ

الطَّلْقَةَ الْأُوُلَى

بَيْنَ يَدَيْكِ

وَأَعْلَمُ أَنَّهُمْ حِيْنَ صَلَبُوكِ

صَلَبُوا الْحُبَّ.. الْخُبْزَ.. وَالْأَغَانِي

وَأَعْلَمُ أَنَهُمْ حِيْنَ صَلَبُوكِ..

وُزِّعَ الْمَنْشُورُ الْأَوَّلُ..

وَزَغْرَدَتِ الطَّلْقَةُ الْأُوُلَى..

تَبَسَّمَ ثَغْرُكِ..

تَدَفَّأَ الْعُراةُ بِأَنْفَاسِكِ

انْطَلَقَتِ الْجِيَادُ مِنْ أَهْدابِكِ..

وَكَانَ الضِّيَاءُ..

وَكَانَ الاِنْتِصَارْ..

يا عَلِيُّ.. يا إِمَامُ..

الْفَقْرُ فِي كُلِّ مَكَانْ..

اَلْفَقْرُ لَيْسَ رَجُلاً واحِدَاً لِنَقْتُلَهُ..

بلْ رِجَالٌ وَعُصْبَةٌ..

وَصُنَّاعُهُ طُغْمَةٌ..

وَلَا أَحَدَ يَقْتُلُ الْفَقْرَ.. وَلا الْعُصْبَةَ.. وَلَا الطُّغْمَةَ..

لا أَحَدَ فَكَّرْ..

لا أَحَدَ دَبَّرْ..

ضَيَّعْنَا سُيُوفَنَا.. ضَيَّعْنَا نُفُوسَنَا.. ضَيَّعْنَا.. ضَيَّعْنَا..

أَسْتَحِي أَنْ أَقُولَ يا إِمَامْ..

(صمت طويل.توقف الموسيقى)

أَمَّا أنا فَقَدْ أَحْبَبْتُ امْرَأَةً اعْتَقَدْتُ أَنَّها كُلُّ النِّسَاءِ.. جَمَالُ كُلِّ النِّسَاءِ.. وَفَهْمُ كُلِّ النِّسَاءِ.. وَأُنُوثَةُ كُلِّ النِّسَاءِ.. وحَيَوِيَّةُ كُلِّ النِّسَاءِ.. ولكِنَّهَا.. كَكُلِّ النِّسَاءِ.. وكُلُّ النِّسَاءِ.. كَكُلِّ النِّسَاِء.. رَحِمَ اللهُ نابِلْيُونَ بُونابِرْتَ.. رَحْمَةُ تُرابِكَ يا نابِلْيُون.. كُلُّ النِّسَاءِ.. كَكُلِّ النِّسَاءِ إِلَّا أُمِّي احْتِرَامَاً.. نعمْ أَنا أَكْرَهُ النِّسَاءَ.. وأَكْرَهُ الرِّجَالَ أيضاً.. نعمْ أنا أَكْرَهُ الرِّجَالَ.. (يتوتر إلى أقصى حدود التوتر) جَاءَ بَعْضُ الرِّجَالِ الَّذينَ فَعَلُوا بِيَ الْفَاحِشَةَ.. نعمْ.. عَنْوَةً واغْتِصَاباً.. ضَرْباً وسَادِيَّةً..

نَقَلُوني مِنِ غَوانتنامُو إلِى بَلَدٍ عَرَبِيٍّ.. نعمْ عَرَبِيٍّ وصِديقٍ لَهُمْ.. هناكَ كانتْ فُنُونُ التَّعْذيبِ عَلَى درجَةٍ عالِيَةٍ مِنَ الْحِرْفِيَّةِ والْقَسْوَةِ.. وَضَعُوني في دُولابٍ كَبيرٍ.. حَشَرُوني داخِلَهُ حَشْراً.. وانْهَالُوا عَلَيَّ ضَرْبَاً هِيسْتِيرِيَّاً مُبَرِّحَاً.. ضَربُوني بِعِصِيٍّ مِنْ خَيْزُرانٍ وَبِسَلاسِلَ حَديدِيَّةٍ, وقُضْبَانٍ كَهْرَبائِيَّةٍ.. نَزَفْتُ دَمَاً كَثيراً , لَمْ أَعْرِفْ مَصْدَرَهُ, بَالُوا وَبَرَّزُوا فَوْقَ وَجْهِي مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ, امْتَزَجَتْ قَذارَتُهُمْ بِدِمائي, صَارَتْ لَوْحَةً مُتَغَيِّرَةَ التَّشْكِيلِ.. لَوْحَةً تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ وِسَامَاً يُعَلَّقُ عَلَى صَدْرِ الْبَشَرِيَّةِ, لِيَزيدَ تاريخُ الْإِنْسَانِ نَصَاعَةً وبَياضَاً وإِشْراقاً وإِنْجَازاتٍ.. لا يَتَشَدَّقْ أَحَدُكُمْ وَيَقُولَ: ما هَذا الْقَرَفُ؟؟ الْقَرَفُ فِينا أَوَّلاً.. الْقَرَفُ في عُقُولِنَا أَوَّلاً.. هَلِّلُويَا.. أَعْطُوني صَليبَ الْمَسِيحِ.. وَصَخْرَةَ سِيزيفَ.. اِجْعَلُوا مِنِّي أُوديبَ الْعَصْرِ..

اَخْرَجُوني مِنَ الدُّولابِ.. غَسَلُوني بِالْمَاءِ الْبَارِدِ..

جَاءَ رَجُلٌ دَمِيمٌ ضَخْمُ الْجُثَّةِ. نَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةَ اشْتِهَاءٍ.. كانَتْ عَيْنَاهُ تَلْمَعَانِ.. بَلْ تَبْرُقَانِ, فَقَدْ وَجَدَ ضَالَّتَهُ الْمَنْشُودَةَ وَتَحَقَّقَ حُلُمُهُ.. ثُمَّ جَاءَ رَجُلانِ اثْنَانِ مَفُتُولَا الْعَضَلاتِ, أَمْسَكَاني بِقُوَّةٍ, بِقُوَّةِ الْجَبَابِرَةِ الْأَوْغَادِ, وأنا لا حَوْلَ لِي وَلا قُوَّةَ.. مَزَّقَا سِرْوالِيَ الدَّاخِلِيَّ.. صِرْتُ أُدَاري سَوْءَتِي.. بَطَحُوني أَرْضَاً.. وَخَلَعَ الرَّجُلُ الَّذي بَرَقَتْ عَيْنَاهُ سِرْوالَهُ بِسُرْعَةٍ وَبِفَرَحٍ أَبْلَهَ.. وَتَوَهَّجَ شَيْءٌ ما في وَسَطِهِ.. أَبْعَدا فَلْقَتَيَّ.. وَأَحْسَسْتُ بِأَنَّ الشَّيْءَ الحديديَّ في وَسَطِ الرَّجُلِ الَّذي لَمَعَتْ عَيْنَاهُ قَدِ اخْتَرَقَنِي.. أَلَمٌ حَادٌّ لا يُوصَفُ.. قَهْرٌ لا يُوصَفُ.. إِذْلالٌ بِلا بِدايَةٍ ولا نِهايَةٍ.. انْكِسَارٌ وتَلاشٍ.. أَحْسَسْتُ بِأَنَّنِي انْتُهِكْتُ.. كُلُّ شَيْءٍ فِيَّ قَدِ انْتُهِكَ.. جَسَدِي.. إِنْسَانِيَّتِي.. رُوحِي.. وَالنَّزْرُ الْيَسيرُ مِنْ رُجُولَتِي الْجَريحَةِ.. وَقَذَفَ الرَّجُلُ بِحِمَمِهِ فِيَّ.. صِرْتُ أِبْكِي وَأَصْرَخُ بِكُلِّ مَا أُوتِيتُ مِنْ قُوَّةٍ , لكِنْ دُونَ صَوْتٍ.. حتَّى صَوْتِي خَذَلَنِي.. تَمَنَّيْتُ لَوْ صَارَ السَّيِّدُ عِزرائِيلُ صَديقِي.. عَدُوُّ الْإِنْسَانِ عِزرائيلُ الْمُحْتَرَمُ تَمَنَّيْتُهُ صَديقَاً صَدُوقَاً مُخْلِصَاً وَفِيَّاً.. وَالزُّنَاةُ يَضْحَكُونَ.. يَضْحَكُونَ.. وَبَصَقُوا عَلَيَّ , ثُمَّ بَالُوا جَمَاعَةً, وَتَركُونِي في مَوْتٍ سَريرِيٍّ..

  • حَدِّثْنَا يا قَوَّادُ, ما عَلاقَتُكَ بالْقَاعِدَةِ؟؟
  • واللهِ لَيْسَ لِي أَيَّةُ عَلاقَةٍ.
  • مَنْ تَعْرِفُ مِنْهُمْ؟؟
  • واللهِ لا أَعْرِفُ أَحَدَاً.
  • لِمَاذا تَحَدَّثْتَ عَنْهُمْ بِالْحُسْنَى؟؟
  • واللهِ لَمْ أَقُلْ سِوَى أَنَّهُمْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَمَلَ الْأُمَّةِ.
  • أَمَلُ الْأُمَّةِ يا بْنَ الشَّرْ…؟؟
  • كنتُ قَدْ أَحْسَسْتُ بِأَنَّ كُلَّ مَا بُنِيَ عَلَى باطِلٍ هُوَ باطِلٌ.
  • كَيْفَ يا خَرَ…؟؟
  • أَيْقَنْتُ بِأَنَّ مشاريعَ الْوَحْدَةِ باطِلَةٌ.. وحُلُمَ الاِشْتراكِيَّةِ باطِلٌ.. ولَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوَهْمُ.. قُلْتُ عَسَى وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فيهمْ بعضُ الْخَيْرِ.
  • الْخَيْرُ وِلَّا الْخَرَ…؟
  • لَأْ.. الْخَيْرُ يا سَيِّدي.. فَهُمْ يُحَارِبُون أَمْريكَا.. وَيُعَادُونَ إسْرائيلَ.. ويَتَحَدَّثُون عَنِ الْعَدَالَةِ..
  • إِذَنْ أَنْتَ تُؤْمِنُ بِهِمْ..؟؟
  • لا واللهِ.. لا واللهِ.. لا واللهِ.
  • لَكَنْ شُو..؟؟
  • فَشُّوا خِلْقِي بِبَعْضِ أعمالِهِمْ.. هذا كلُّ ما هنالِكَ.
  • خُذوا ابْنَ الْقَحْــ.. فُشُّوا خِلْقَهُ.. ابْنُ الكلبِ يُحِبُ أَنْ يَفُشَّ خِلْقَهُ.. فَلْتَلْمَعْ عيونُكُمْ جميعاً.. فُشُّوا خِلْقَكُم وخِلْقَهُ.

(صمت طويل)

أحبَبْتُ كما أحبَبْتُمْ.. وخِبْتُ كما خِبْتُمْ.. ومَنْ لمْ يَخِبْ في الْحُبِّ.. هُوَ مازال يعيشُ وَهْمَ الْحُبِّ.. نعمْ وَهْمَ الْحُبِّ.. ونحنُ نعيشُ أَوْهاماً.. نَشْتَري الْأَوْهامَ.. ونَبيعُ الْأَوْهامَ.. والْبائِعُ فينا خاسِرٌ.. والْمُشْتَري خاسِرٌ.. أَوْهامٌ.. وَهْمُ الْأَمَلِ.. وَهْمُ الْعَدالَةِ.. وَهْمُ الْقُوَّةِ.. وَهْم الضَّعْفِ.. وَهْمُ الْحَضَارَةِ.. وَهْمُ الْقَتْلِ.. أَوْهامٌ.. كلُّ ما في العقلِ أَوْهامٌ.. كلُّ الواقِعِ أَوْهامٌ..(يتوتر) أَوَهامٌ بِهُيامٍ.. أَحْلامٌ.. وَأَوْهَامٌ بِخِيَامٍ.. كُلُّ الْحُبِّ أَوْهامٌ.. كلُّ الْكُرْهِ أَوْهامٌ.. (يتصاعد) العدالةُ وَهْمٌ.. الْحُرِّيَّةُ وَهْمٌ.. الإْنسانيَّةُ وَهْمٌ.. الحضارةُ وَهْمٌ.. المسرحُ وَهْمٌ.. الفَنُّ وَهْمٌ.. الجوعُ وَهْمٌ.. الشِّبَعُ وَهْمٌ.. التَّاريخُ وَهْمٌ.. الماضي وَهْمٌ.. الحاضرُ وَهْمٌ.. المستقبلُ وَهْمٌ.. وُجُودي أمامَكُمْ وَبَوْحِي وَهْمٌ.. وُجُودُكُمْ هُنا وَهْمٌ.. وَهْمٌ.. وَهْمٌ..(صمت طويل)..

حقيقتانِ فقطْ في هذهِ الحياةِ.. (يصرخ) حقيقتانِ فقطْ..(يتقدم من الجمهور، وينظر مليَّاً في عمق الصالة) حقيقتانِ فقطْ.. حقيقةُ الولادَةِ وحقيقةُ الموتِ.. حقيقتانِ مُطْلَقَتَانِ.. وكلُّ الحقائقِ الأُخْرى حقائقُ نِسْبِيَّةٌ..

نعمْ أَحْبَبْتُ.. قَبْرِيَ الْمَعْدِنِيَّ.. الْجَلَّادينَ.. المُحَقِّقَ الشَّقْراءَ البيضَاءَ الشَّهِيَّةَ.. أَحْبَبْتُ الْقَتَلَةَ.. ثمَّ بَدَأْتُ أَخافُهُمْ.. أنا خِفْتُ.. أنا خائِفٌ.. أنا سَأَخافُ.. (يتلفت مذعورا) نعمْ أنا خائِفٌ.. فَهُمْ سَيَأْتونَ لِيَأْخُذوني مَرَّةً أُخْرى.. سيأْتُونَ.. بَيْنَ لحظَةٍ وَأُخْرى سَيأتُونَ.. سَيأْخُذونَنِي أمَامَكُمْ.. ولنْ يَجْرُؤَ أحدٌ منكُمْ عَلى أَنْ يَتَفَوَّهَ بِحَرْفٍ واحدٍ.. لنْ يَجْرُؤَ أحدكُمْ على أنْ يُصَفِّقَ لَهُمْ, أو يَهْمِسَ في وَجُوهِهِمْ أَنِ اتْرُكُوهُ.

(أقصى التوتر) أنا عَدَمٌ.. مِنَ العَدَمِ جِئْتُ وعِشْتُ في الْعَدَمِ.. وَإِلى الْعَدَمِ سَأَنْتَهي.. وأنتمْ كذلِكَ.. لَسْتُمْ بِأَفْضَلَ حَالٍ مِنِّي.. نحنُ خَوَنَةٌ بِلَبُوسٍ وَطَنِيٍّ وَقَوْمِيٍّ.. نحنُ زُناةٌ بِلِبَاسِ الفضيلَةِ.. نَخْتَرِعُ الفضيلَةَ والْمُخْتَرِعُ الأَوَّلُ الْعَمُّ أَفلاطُونُ.. سَجَّلَهَا باسْمِهِ كَمارِكَةٍ مُسَجَّلَةٍ.. وَكَثُرَ المُخْتَرِعُونَ.. آخِرُهُمُ الْعَمُّ سام.. نحنُ ظُلْمَةٌ باسْمِ الْحُبِّ.. نحنُ نَكْرَهُ باسْمِ الْحُبِّ.. أنا أَكْرَهُ.. أنا كَريهٌ.. حياتِي كُرْهٌ في كُرْهٍ.. أكْرَهُ نَفْسِي.. أَكْرَهُ يَوْمِي.. أكْرَهُ أَمْسِي.. أكْرَهُ غَدِي.. أكْرَهُ كلَّ مَنْ كَلَّمَنِي عَنِ الأَمَلِ.. أكْرَهُ مَنْ دَلَّنِي عَلى الْعَمَلِ.. أكْرَهُهُمْ.. أكْرَهُكُمْ.. (يسقط.. موسيقى)

مَطَرْ.. مَطَرْ

سَيُزْهِرُ (سَيُعْشِبُ) الْعِراقُ بِالْمَطَرْ

ولمْ يُزْهِرِ العراقُ بالمطَرِ.. قُولُوا أنتمْ باللهِ علَيْكُمْ.. أَسْتَحْلِفُكُمْ بكُلِّ ما تُقَدِّسُونَهُ.. بِمَ أَزْهَرَ العراقُ؟؟.. أَزْهَرَ قَتْلَى وأَشْلاءً.. وفي مِصْرَ نَادَى الْمُنادي: يا مَصْرِ قُومي وْشُدِّي الْحِيْلْ.. هَلْ قامَتْ مِصْرُ وَشَدَّتِ الْحَيْلَ؟؟

نعمْ.. قامَتْ.. وشَدَّتِ الْحَيْلَ بِقِطَطِهَا السِّمَانِ.. شَدَّتِ الْحَيْلَ نَحْوَ الاِبْتِذَالِ وَالسُّوقِيَّةِ في كلِّ شَيْءٍ.. كلِّ شيءٍ.. وهنا فوقَ هذي الأَرْضِ صَرَخَ مَسْرَحِيٌّ في وَجْهِي أَنْ “لا تَرْهَبْ حَدَّ السَّيْفِ”.. (يصرخ).. لا تَرْهَبُوا حَدَّ السَّيْفِ يا سَادَةُ.. ونحنُ نَرْهَبُ حَدَّ التُّفَّاحَةِ.. التُّفَّاحَةُ الَّتي أَنْزَلَتْ والِدَنا الْمُبَجَّلَ الْمُحْتَرَمَ مِنْ الْجَنَّةِ إلى الأَرضِ.. وفي الأرضِ فوقَ كَوْكَبِكُمْ يا سادَةُ.. كانَ الحدَثُ الأَوَّلُ.. الأَبْرَزُ الأَبْهَى الجليلُ.. هوَ الْقَتْلُ.. أَخُونا.. أخُوكُمُ الأَكْبَرُ قَابيلُ قَتَلَ شقيقَنَا هابيلَ.. ليسَ صحيحاً أَنَّهُ في الْبَدْءِ كانتِ الْكَلِمَةُ.. لا.. في الْبَدْءِ كانَ القَتْلُ.. وفي الثانيةِ كانَ القَتْلُ.. وفي الثالثةِ والْمِائَةِ والأَلْفِ والْمِلْيُونِ والْمِلْيَارِ كانَ– ومازالَ- القَتْلُ.. قَتَلُوا كلَّ شيءٍ.. قتلُوا الهواءَ, وَسَّعُوا طبقَةَ الأُوزونَ.. قتلُوا الأرضَ بالسَّمادِ.. أَفْسَدُوا الطَّعامَ بالْهِرمُوناتِ.. قتلُوا الطِّيبَةَ فينا.. قتلُوا الإنسانَ باسِمِ التَّقَدُّمِ والحريةِ والْعِلْمِ وخَيْرِ البشريَّةِ.. سَرقُونا باسِمِ العدالَةِ.. أَلْقُوا القنابلَ الذريَّةَ على هيروشيما وناغازاكي بعدَ انتهاءِ الحربِ.. حُروبٌ.. حُروبٌ حُروبٌ.. تَوَسُّعٌ تَوَسُّعٌ تَوَسُّع.. باسْمِ الحضارةِ والقَوْمِيَّاتِ والْمُثُلِ الْعُلْيَا.. مِئَاتُ الْمَرَّاتِ رَسَمُوا خَرائِطَ الْبُلْدانِ.. قَتَلُوا وتَوَسَّعُوا.. انْتَصَروا وانْدَحَرُوا.. أَلَّفُوا الأَغانيَ والأَشْعَارَ.. رَفَعُوا خِرَقَاً مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى سَمَّوْهَا “أَعْلاماً”.. اقْتَطَعُوا “أَراضِيَ” واغْتَصَبُوها وسَمَّوْها أَوْطَانَاً.. كلٌّ يَخْتَرِعُ مَجْداً علَى هَواهُ.. يُفَصِّلُهُ على هُواهُ. ويُلْبِسُهُ بالْقُوَّةِ لِلْآخَرينَ.. أَوْهامٌ.. أوهامٌ.. أوهامٌ.. بلْ أَضْغَاثُ أحلامٍ.. ظلامٌ.. ظلامٌ.. ظُلْمٌ وَظَلامٌ.. (يخاطب عامل الإضاءة).. إِظلامٌ يا سَيِّدُ إظلامٌ.. لَوْ سَمَحْتَ إظلامٌ تامٌّ. (يظلم المسرح تماما.. ثم سْبُوتْ إضاءة على وجه الممثل فقط) مُلاحَظَة: هذهِ المسرحيةُ لا تَتَّهِمُ أحَداً.. ولا تَقْبَلُ أحَداً.. ولا تَرْفُضُ أحَداً.. وهِيَ ليستْ أكْثَرَ مِنْ بَوْحٍ لِإِنسانٍ مَظْلُومٍ.. عاشَ في الظَّلامِ.. ومَازالَ.. وسَيَنْتَهِي إلى الظَّلامِ..

(يخاطب عامل الإضاءة) إِظلامٌ.. إظْلامٌ لَوْ سَمَحْتَ.. يا أَخِي أقولُ لكَ إظلامٌ … إظلامٌ يا ظالِمُ.. إظلامٌ..

(يعم الظلام)

حمص 15/2/2007


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock