مقالات ودراسات

د. علي خليفة يكتب: المواقف التي تعتمد على المفارقة في المسرح (1)


المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

د. علي خليفة

[1 ]
المواقف التي تعتمد على المفارقة
المفارقة تعني في أبسط تعريف لها التناقض والتضاد، والجمع بين الأشياء المتنافرة في موضع واحد، كما أن المفارقة تعني التغير في المواقف لعكس ما كانت عليه، وهي أيضًا تعني إظهار الشخص عكس ما
في نفسه، وكشف ما يدل على تناقضه بين القول والفعل.
وتعد المفارقات الكوميدية من أهم الوسائل التي يوظفها كتاب المسرحيات الكوميدية في مسرحياتهم، وكبار كتاب الكوميديا
في العالم منذ الإغريق لا يستغنون عن رسم المواقف الممتلئة بالمفارقات؛ لإضحاك الجمهور، ولإظهار التناقض في سلوكيات بعض الأشخاص، ومن أجل نقد مجتمعاتهم بما فيها من تناقضات ومخالفات، وكانت المفارقة وسيلة ناجعة في فضحها، وفضح من يسلكون هذه السبل المنحرفة.
ونرى أرسطوفان قد وَظَّفَ المفارقة في بعض مسرحياته الكوميدية، كما نرى في مسرحية “السلام”، ففي هذه المسرحية نرى أن تريجيوس بعد أن أنقذ ربة السلام الوثنية من الجب الذي دفنها فيه آرس إله الحرب الوثني – ينتشر السلام في بلاد الإغريق، وتختفي الحروب، وتكون المفارقة في أن صناع الأسلحة وتجارها الذين كانوا من أكثر الناس ثراء يتحول حالهم لشر حال، حيث لم يعد أحد يهتم بأسلحتهم، ولا يجدون من يشتريها منهم، ولو بأسعار زهيدة، وأيضًا لا يجدون من يرحب بهم؛ ليعملوا أعمالاً أخرى لديهم، وأيضًا يسخر أرسطوفان في هذه المسرحية من سدنة معابد الآلهة الوثنية الذين هجر الناس معابدهم بعد اختفاء الحروب وتحقق السلام، فلم يعد الناس يقصدونهم لإيقاف الحروب، وصار هؤلاء السدنة والكهان بلا عمل، وبعضهم صاروا متسولين بعد أن كانوا يعيشون
في رغد ونعيم.
وكذلك نرى موليير كثير التوظيف للمفارقة في مسرحياته، وعلى الرغم من أن موليير يعتمد في مسرحياته الكوميدية على توظيف أنماط متطرفة في سلوكياتها، فإنه كثيرًا ما يضع هذه الأنماط المتطرفة في مواقف تعتمد على المفارقة؛ ليظهر التناقض الذي تعيش فيه، وليظهر أيضًا ما كان يكتنف مجتمعه من تناقضات وادعاءات.
ومن المسرحيات التي نرى موليير يوظف فيها المفارقة في بعض المواقف فيها مسرحية “طرطيف”، فطرطيف شخص متناقض، فهو يدعي التدين والورع والعفة، ولكنه أبعد ما يكون عن التدين الصحيح، وينخدع بعض الناس بمظاهر التدين التي يدعيها، ومن هؤلاء الذين انخدعوا بمظاهر تدينه أورغون ووالدته، وانكشف لأورغون في الفصل الرابع من هذه المسرحية زيف تدينه حين رَآه يحاول أن يغري زوجته لتكون عشيقة له، ويسفسط لها ليقنعها بأنهما لن يكونا آثمين عند ذلك، ومن المفارقات الأخرى في هذه المسرحية أن نرى طرطيف يظهر ضيقه حين يرى الوصيفة دورين تكشف جزءًا من صدرها، ولكنه حين يرى زوجة أورغون التي يعشقها لا يتمالك نفسه، ويحاول أن يغريها بأن تسلم جسدها له.
وكذلك نرى في مسرحية “عدو البشر” لموليير عدة مواقف تقوم على المفارقات، ومن ذلك أننا نرى سيليمين الأرملة الشابة الجميلة تجمع حولها في مجلسها ببيتها عدة نبلاء، وتوهم كل واحد منهم على حدة أنها تحبه هو دون غيره، وتنتقد كل شخص تعرفه في غيابه، ولكنها تظهر محبته أمامه، ويكتشف هؤلاء النبلاء الذين كانت تخدعهم كلهم بميلها لكل واحد منهم أنها تسخر منهم هم أيضًا في غيابهم، فيتغير حالها، فيهجرها الجميع بما فيهم إلسيست نفسه الذي رأى فيها صورة واضحة للخداع الذي كان صفة كثير من نبلاء عصره.
ونرى أيضًا أن تشيكوف كان في مسرحياته الكوميدية القصيرة كثير توظيف المواقف التي تقوم على المفارقات بها، ومن ذلك أننا نرى مسرحية “الجلف” أو “الدب” تقوم على مفارقة واضحة، فالأرملة الشابة بها تظاهرت بأنها ستستمر في حداد بعد موت زوجها، وقالت: إنها لن ترى أحدًا حتى تظل تعيش في ذكرى هذا الزوج الراحل، ولكنها حين يأتيها أول شخص يدق باب بيتها ليطلب مستحقات مالية له عند زوجها المتوفى –تتحول سريعًا من عداوته لعشقه، وحين يأتي لوقا الخادم ببعض المساعدين؛ لينقذوا سيدتهم من ذلك الشخص الذي تهجم عليها إذا به مع من معه يَرَوْن سيدتهم تقبل ذلك الشخص عن رضا، وتطلب إلى لوقا ألا يعطي الحصان توبي شوفانًا بعد اليوم، خلاف ما كانت تفعله من قبل؛ فقد تحول قلبها عن صاحب توبي – وهو زوجها المتوفى – إلى ذلك المعشوق الجديد.
ونرى الموقف نفسه في مسرحية “الضيف الحجري” لبوشكين، ففي هذه المسرحية نرى دونا أَنَّا قد اعتزلت مباهج الحياة بعد أن قتل دون جوان زوجها، وكانت تزور قبره وتنظر إلى تمثاله الكبير؛ لتعيش على ذكرياتها معه، ولكنها بمجرد أن ترى دون جوان دون أن تعرف حقيقة شخصيته تعشقه سريعًا، بل إنها تغفر له قتله زوجها حين يخبرها بحقيقته.
وكذلك نرى الموقف نفسه في مسرحية “العنقاء كثيرة الظهور” لكريستوفر فراي، فبطلة هذه المسرحية نزلت لقبر زوجها؛ لتعيش معه فيه بعد موته، وهجرت كل مباهج الحياة، ولكنها بمجرد أن ترى جنديًّا يأتي لهذا القبر حين رأى نورًا ينبعث منه تقع في حبه، وأكثر من ذلك أنها تنقذ ذلك الجندي من المحاكمة التي كان سيتعرض لها لضياع جثة محكوم عليه بالإعدام كان يحرسها – بأن تقدم جثة زوجها بديلاً عن تلك الجثة المفقودة.
ولما كان برنارد شو كثير النقد لما في مجتمعه من تناقضات وسلوكيات منحرفة فإنه وَظَّفَ المفارقة في كثير من مسرحياته، كما نرى في مسرحية “بيوت الأرامل”، ففيها نرى الطبيب هاري وخطيبته بلانش يدعيان الفضيلة، وينتقد هاري بشدة تصرفات والد خطيبته في أنه يؤجر بيوتًا لا تصلح للسكنى للفقراء نظير أن يحصل على أموال منهم، ويواجه والد بلانش هاري بأنه مثله في تلك السبيل، فهو قد جمع أمواله الكثيرة عن طريق الربا في بناء هذه البيوت، ويحدث السلام والوفاق بين هاري وخطيبته ووالدها في النهاية حين يعرفون أنه من الأفضل لهم أن يستمروا على ما هم عليه من سلوك يتنافى مع الفضيلة؛ لأنهم يضمنون العيش الرغد من وراء ذلك، ولا بأس عليهم من أن ينتقدوا مواقف أخرى تنافي السلوك الحميد شريطة ألا تتعارض مع مصالحهم.
وكاتبنا العربي الكبير توفيق الحكيم وظف المفارقات في بعض المواقف في مسرحياته الكوميدية، كما نرى في مسرحية “العش الهادئ”، فبطلها الكاتب فكري اختار فتاة معينة وتزوجها؛ لأنه ظن أنها ستوفر له العش الهادئ الذي كان يبحث عنه ليكتب ويبدع، ولكنه يكتشف بعد زواجه أن هذه الفتاة التي تزوجها باعدت بينه وبين العش الهادئ، وظل العش الهادئ بالنسبة إليه حلمًا بعيد المنال.
وكذلك نرى في مسرحية “شمس النهار” لتوفيق الحكيم أن شمس النهار كانت تسخر من قمر الزمان، واعتبرته حفنة رمل في حاجة للتشكيل وبث الحياة فيها، وقالت: إنها ستحوله من مجرد بعض التراب إلى شخص له قيمة، ثم تكتشف بعد صحبتها له في عدة مواقف أنه هو الذي غيرها، وأعاد تشكيلها، حتى صارت جزءًا منه، فصارت تفكر مثله، وتشعر كشعوره أمام المواقف التي تواجهها.
وهكذا نرى أن المواقف التي تعتمد على المفارقة لا غنى عنها
في المسرحيات الكوميدية الجيدة التي لا تكتفي بمجرد بث الضحك فيها، بل إنها توحي بكثير من الأفكار والأهداف والنقد فيها.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock