د. علي خليفة يكتب عن.. مسرحية وفاة بائع متجول لآرثر ميلر

المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات

ـ

 

د. علي خليفة

 

تعد هذه المسرحية هي أشهر مسرحية لأرثر ميلر، وهي في الوقت نفسه من روائع المسرح العالمي، وقد كتبها ميلر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مصورا فيها جانبا من حياة المجتمع الأمريكي آنذاك، فقد كان فيه كثير من الفئات الفقيرة، وهي تتطلع للفئة الغنية القليلة، وترى أنها يمكن أن تحقق هذا الحلم، وهذا هو الجانب السياسي والاجتماعي الذي تعكسه هذه المسرحية، ولكن هذه المسرحية لا تعود قيمتها الكبيرة لهذا فقط، بل إنها تعود قبل كل شيء لتصوير الشخصيات التي فيها، واستكناه أعماقها، وإظهار ما فيها من رغبات عجزت عن تحقيقها، ومن ثم كانت مأساتها.
وبطل هذه المسرحية هو ويلي لومان الذي يبلغ من العمر نحو ثلاثا وستين عاما، وهو يعمل بائعا متجولا في إحدى الشركات، وكان شديد الطموح في نفسه وفي أولاده، وكان يتصور أنه كان بإمكانه في الماضي أن يكون صاحب شركة أو بائعا كبير، وكذلك كان ينظر لولديه بيف وهابي على أنهما لهما قدرات كبيرة يتميزان بها على قرنائهما.
ولكن حقيقة الأمر غير ذلك تماما، فويلي لومان شخص لا تتناسب تطلعاته مع قدراته، فهو ليس كبير الذكاء، كما أنه لم يحسّن استغلال بعض الفرص التي أتيحت له في شبابه لتحقيق الثراء، كأن يقبل دعوة أخيه بن ليعمل معه في بعض غابات إفريقيا التي أصبح مالكا لها، وصار ثريا من خلالها.
ويحاول ويلي في شيخوخته أن يتجاهل فشله، واعتلال صحته؛ مما أدى به لأن يصبح بائعا باليومية في الشركة التي يعمل بها، بعد أن كان له من قبل مرتب ثابت كل شهر.
وكذلك لا يرضى ويلّي بأن يقتنع بأن ولديه هما مثله لهما قدرات عادية، ومن المستحيل أن يحققا النجاح الكبير في الحياة بالصورة التي يتطلع بها لهما، ومن ثم فإنه يصطدم مع ولديه كثيرا خاصة مع ابنه الكبير بيف.
ولومان هو أيضا شخص شديد الكبرياء، وهو حين يرى صديقه وجاره تشارلي ستطاع أن يحقق ثروة، ويؤسس شركة فإنه يغار منه، ويرفض أن يعمل عنده بأجر طيب عرضه عليه في الوقت الذي فصل فيه من عمله تماما؛ وذلك ليس إلا بسبب كبريائه وشعوره بالغيرة من تشارلي الذي بدأ معه صغيرا في العمل، ولكنه نجح بعد ذلك وصار على قدر طيب من الثراء، ولا يكتفي لومان بغيرته من تشارلي، بل إنه يغار أيضا من بيرنارد بن تشارلي الذي صار محاميا ناجحا، وهو لا يخفي حقده عليهما حين يراهما في مكتب تشارلي حين يذهب إلى تشارلي؛ ليستدين نقودا منه، وتشارلي مع علمه بحقد ويلّي عليه فإنه يقف بجانبه، ويعطيه أي مال يطلبه، ولا ينتظر سداده له، بل إنه تعاطف معه حين انتحر؛ ليجعل أسرته تحصل على مبلغ عشرين ألف دولار بوليصة تأمين، ولكنها لن تحصل عليها؛ لأنه من الواضح أنه انتحر، وكان قد حاول الانتحار من قبل.
وكما نرى فويلي لومان شخص محدود القدرات، وتطلعاته لا تتناسب مع قدراته، وحين رأى فشله وفشل ولديه صار مريضا نفسيا، وأصبح كثير الكلام لنفسه، ويتخيل أشخاصا يكلمهم، وهو بهذا يستحضر لحظات فشله المهمة في حياته.
والجديد في هذه المسرحية أن هذه المواقف التي يتذكرها ويلي يتم تجسيدها على المسرح، حتى كأنها حاضرة هي أيضا في نفس اللحظة؛ مما يجعلنا نستشعر أن حالة ويلّي الحاضرة هي ليست إلا نتيجة أسلوب حياته السابق، وتطلعاته الكبيرة التي لا تتناسب مع قدراته.
وقد يتعاطف بعض المشاهدين مع ويلي؛ لأنهم يَرَوْن فيه شخصا مكافحا متطلعا، ولكن الحياة داست أحلامه وتطلعاته، فاستسلم للموت الذي رأى فيه خلاصه من تلك الحياة الصعبة التي صار يحياها، وخلاص أسرته من الفقر بحصولهم على بوليسية التأمين على حياته.
ولكن هناك فريقا آخر من الجمهور لن يتعاطف مع لومان؛ لأنه شخص يعيش حياته كلها في كذب، فليس هو الشخص الناجح في عمله ولا المثالي في أخلاقه، وقد اكتشف ابنه بيف هذه الحقائق، فتحول حبه له لكراهية.
ويضاف لهذا أن ويلي هو شخص صاحب كبرياء كبيرة، وهو أيضا حقود.
أما عن الابن الأكبر بيف لومان فإنه كان يظن في والده الشخص المثالي والناجح في عمله، حتى وصوله للمرحلة الثانوية في تعليمه، كما كان والده يذكر له ذلك كثيرا، ولكن بيف اكتشف أن والده يخون أمه مع عاملة استقبال في أحد الفنادق في بوسطن، وكانت هذه العاملة تعينه في عمله بأن تعرفه على بعض العملاء؛ ليشتروا منه بعض البضائع التي يبيعها.
وحين تتحطم صورة ويلّي المثالية أمام بيف فإنه يهمل في دراسته، ويفشل، ولا يدخل الجامعة، كما أنه يتعثر في كل عمل يعمله؛ لأن والده كان قد نفخ فيه طموحا كبيرا لا يتناسب مع قدراته، فكان يستهين بكل عمل بسيط يعمل فيه؛ لأنه لا يتناسب مع الطموح الذي زرعه والده فيه، وحصره به، ومن ثم فشل في كل عمل، وصار يتدنى في الأعمال حتى عمل راعيا لبعض الماشية في إحدى المزارع بالغرب الأمريكي، وازداد حاله سوءا، فسرق وسجن، وعاد بعد هذ ذلك لبيت والده؛ ليتشاجر معه؛ لأنه ببثه هذا الكبرياء فيه والتطلع غير المتناسب مع قدراته – قد جعله فاشلا في الحياة، كما أنه برؤيته لخيانته قد كسر صورة المثل الأعلى لديه فصار ينحدر إلى الهاوية.
والأخ الأصغر هابي يجاري والده في أنه سيكون شخصا عظيما يوما ما في عمله، وهو بهذا يكذب على والده وعلى كل من حوله، وهو خلال كذبه هذا لا يهمه سوى أن يكون حوله عدد كبير من الفتيات، وهو يستقطبهن إليه بكذبه عليهن وادعاءاته أنه شخص عظيم الأهمية.
وفي نهاية هذه المسرحية بعد انتحار ويلي لومان يقرر بيف أن يعيش واقعه بقدراته المحدودة، في حين يصر هابي لومان على أن يحقق حلم أبيه في نفسه وفيه وفي أخيه بقوله: إنه لا بد من أن يكون شخصا عظيما في عمله في بوم من الأيام، ونحن ندرك أنه بذلك يواصل الكذب؛ لأن حياته كلها عبارة عن أكاذيب، وهو يجد فيها راحة؛ لأنه بها يستطيع أن يتعايش مع الواقع الافتراضي الذي كان والده ينظر إليه من خلاله، ورأى هابي أنه لا يستطيع أن يحققه في الواقع، ولكنه يستطيع أن يحققه في الحلم، لا سيما في أحلام اليقظة، وخلال خداع نفسه ومن حوله بأنه صار – أو في طريقه لأن يصير – في هذه الصورة البراقة التي رَآه والده من خلالها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock