مقالات ودراسات

د. محمد سيف يكتب: عن مسرحية “صولو” من عروض طنجة المشهدية لمحمد الحر.. والكشف عن الحقيقة المشوهة في الكذبة المعلنة


 

المسرح نيوز ـ مقالات ودراسات| محمد سيف*

*باريس

ـ

 

وحيدة كانت الزهرة، تعزف لحن محنتها الحزين، وحيدة تشق عباب البحر بقارب مليء بالثقوب، بالعيوب، والألغاز والأحاجي القديمةفي تيه المدينة المعتم؛ وحيدة تحاول كشف الغطاء عن أسرار، وأقدار، عالم لا يزال يشعر بالعار من أصل الوجود، وخصب الأرض، وملحها، وترابها المعفر بالحناء؛ وحيدة تواجه مصيرها المأساوي، مثل اليكترا معاصرةتلتحف بالسواد، لكن الزهرة لم يقتل أباها لكي تحزن عليه، وإنما العكس،أباها قد وأدها بالحياة، أعاد تركيبها، طبيعتها، منتجتها،طمس معالمها في جسد ذكر، وجعل من ظاهرها بمثابة القناع الأكثر انحرافا للحقيقة، لدرجة تزويجها بابنة عمها،لمجرد شعوره بالعار من أنوثتها، ليحافظ على المجد الذي أحاله إلى عدم، مرعوبا من النظرة الشائكة للمجتمع.

لكن الزهرة اليوم، في مسرحية “صولو” لمحمد الحر، لم تعد بإمكانها السير على خطى ما كان يريد لها أبيها الموقر اجتماعيا ودينيا أن تكون؛ لم تعد قادرة على إخفاء الجزء المظلم والجميل من كيانها الذي اخفي عن عمد. لذلك، لا بد لها من نبش الماضي، ونحته من جديد، بفضح المسكوت عنه، وتسليط الضوء على الذكريات الثقيلة المتناثرةفي أروقة ودهاليز جرارات ذاكرتها.إن أباها أثناء احتضاره في ليلة القدر- الليلة السابعة والعشرون من شهر رمضان- الليلة التي تُكتَبُ فيها أقدار الكائنات،يطلب منها بعد عشرين سنة من التخفي والكذب والنفاق، أن تعود إلى نفسها، إلى أنوثتها التي دفنها منذ الصغر، وغطاها بأتربةغبار الروح؛ ان تترك الدار، وتنزع عنها رداء الذكر وتعيش حياتها كأنثى. وهنا تكمن مأساة العرض، وبدايته.

 

  • الأسئلة وفن المسرحة

إن نص “صولو” لمحمد الحر وهاجر الحاميدي- التي لعبت دور الزهرة بنفسها بتفوق عال- بمثابة رجع صدى لعالم الأمس وربما لعالم اليوم أيضا.إنهما يتساءلان من خلاله عن كيفية إعادة بناء هوية شخصية لم تعد تعرف فيما إذا كانت رجلا أو امرأة، في مواجهة الإرث الثقيل الذي خلفته التقاليد؟؛ كيف يمكن الكشف عن الحقيقة المشوهة في الكذبة المعلنة؟؛ كيف التخلص من ذلك الجلد الذي لم يكن سوى قناع ووهم معد لخداع مجتمع بلا حشمة؟؛ كيف يمكن تعرية هذا المجتمع، القائم على النفاق والمعتقدات الدينية التي تم تأويلها وتفريغها من روحانيتها؟؛كيف التخلص من خديعة أب مهووس بالعار الذي يتحكم في مقدراته مجتمع مريض ومليء بالأوبئة؟؛وكيف يمكن للمرء ان يتحرر من أدران بيئة لا يمكن ان تعيش وتتنفس إلا هواء سجونها الذاتية؟؛وهل بالإماكن إعادة كتابة حياة شخصية اسمها الزهرة ينادونها أحمد، لبناء حكاية، تساءل الحاضر؟.

أسئلة كثيرة يطرحها هذا العرض ويناقشها ضمنيا من خلال فن المسرحة، والغموض الذي يستقر في قلبها، مثلما عرفها رولان بارتفي مقاله الشهير “محاولات نقدية: ” إذن إننا على صلة بتعدد صوتي معلوماتي حقيقي، وهذه هي المسرحة: “كثافة من العلامات”. أين تتموقع المسرحة التي سُميِّت هكذا ؟ وهل يجب إقصاءها من النص والحفاظ عليها في العرض فحسب ؟ وهل سيكون النص إذن مجرد عمل كتابي محكوم بقراءة “أدبية”، في حين تكون المسرحة هي فعل العرض ؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن سيميائية النص المسرحي ليس لها أي معنى، وإن كل سيميائية للعمل المسرحي يجب أن تكون هي سيميائية العرض. بالمقابل، يمكننا دائما قراءة النص كعمل غير مسرحي، ولا شيء فيه يمنع من قراءته كرواية، واعتبار حواراته كحوارات روائية، وإشاراته المسرحية كوصف؛ مثلما بإمكاننا تحويل مسرحية إلى رواية، وبالعكس، ( نستطيع صنع مسرح من كل شيء) كما يقول انتوان فيتيز.وهذا يعني، بإمكاننا أن نجري على النص الروائي عملية تحويل نصيمشابه ولكن بشكل مغاير لهذا الذي ننفذه ببنائنا للحكاية كنوع من السرد الروائي[1]، بعيدا عن التمسرح.

  • التكييف وإعادة الكتابة

من خلال التكيّيف وإعادة كتابةرواية “ليلة القدر” لطاهر بن جلون، قدم المخرج ” محمد الحر”عرضا مسرحيا شائكا، مليء بالفخاخ الموقوتة، والمفاجأتاللامعقولة التي تستنكر، في شكلها ومضمونها، عدم التسامح والرياء في عالم الأمس واليوم؛ قدم قراءة مسرحية وفية لنوايا المؤلف وأسلوبه السردي، بصوت مسموع ومرئي رغم الخفايا التي غمرت حياة بطلة الرواية؛ قدم عرضايتقاطع مع الرواية من خلال لغة المسرح، خاصة عندما جعل منالسرد فعلا والفعل سردا والصورة حاضرة. إن التكييف وإعادة الكتابة شكلان من أشكال الكتابة المسرحية، اللذان يؤديان بمرورهما من لغة إلى أخرى إلى البحث عن طرق تعبير جديدة وأشكال أخرى من السرد. حيث أعادّ التكييف رسم منعطفاتالرواية، وأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المسرح، وهذا ما جعله يطرق أبواب التجريب، ويلجأإلى مكونات وتقنيات مسرحية جديدة تسمح بإعطاء رؤية خاصةلمنظومة العرض، من خلال صور مختلفة لتسلسل ومراحل الرواية، ووضع الوصف في مقاطع منطوقة، ورسم مشاهد متوازية تسمح بلعب عدة لحظات في وقت واحد، واستخدام خلفية المسرح التي تفتح المشهد على العالم الخارجي والداخلي للشخصيات والأحداث.

تبدأ المسرحية بفعل البوح، في مشهد يجمع الأب وأبنته، نعم أبنته وليس أبنه، فبعد عشرين عاما من التخفي، يناديها بكلمة ” أبنتي”، وتكون شاهدة على هذا الاعتراف المتأخر،صورة موته التي تتجسد في خلفية المسرح، حيث نشاهد بالتوازي، مراسيم غسل جسده المتشحبالسواد وليس البياض، كما في العادة في مثل هذه المراسيم.ولكن الموت ليس بقصيدة للعرض، مثلما انه ليس بموضوع شعر، وإنما الصورة، التي تقول كل شيء دون كلام أو تفسير. تتقدم الصورة على هيئة تابوت محمول نحو وسط المسرح، لتفرق ما بين الزهرة وأبيها، وكلما تقدم النعش نحو الوسط كلما تراجعت خطوات الأب نحو العمق حتى يصل إلى فتحةضيقة،تنشأ من انفصال الإطارين الكبيرين اللذان كانا خلفية للمشهد، ليسمحا له بالتواري في ظلمة القبر، بشكل متوازي مع وصول واستقرار التابوت في وسط المسرح. تسحب الزهرة جاثية على ركبتيها الوشاح الأسود الذي راح يستطيل بالفضاء مثل شراع قارب يستعد للرحيل، لكي يشكل طقسا جنائزيا بكل اقتصاد واقتضاب.وعلى عكس جميع التوقعات، كان الطقس لا يخلو من الفرح والزغاريد والتبرج بإفراط. ” كان الدفن بالنسبة للعائلة تحريرا وحفلا”. الجثة المتشحة بالسواد لازالت تتوسط المسرح، الزهرة تتنحى عن المشهد لتذهب نحو طاولة البوح تاركة المجال لأمها التي ملئت المكان بالزغاريد، فهاهي أمنيتها تتحقق، يموت الزوج لكي تتنفس الصعداءأخيرا.ويتم هذا المشهد وفقا منتجة مشهدية بين فعل السرد الذي تقوم به الزهرة، وأداء الأم في ذات الوقت، وحضور شبح الأب الميت الذي يظل يطوف المكان كشاهد على خسته وجبروته.

 

  • بشائر التحرر

هذه أولى بشائر التحرر بالنسبة للزهرة. ولكن الفرح ليس بمهنة لها، كما يقول الشاعر محمد الماغوط، فالطريق طويل وعليها قطعه، والماضي ليس بخطوط رمال يمكن ان يمسحها هبوب الريح، وإنما جبال من الكوابيس التي يصعب زحزحتها من مكانها. ولكي تنتقل الزهرة من مرحلة لأخرى،تاركة خلفها كل ترسبات قهر الماضي، وتتشكل من جديد في جسد آخر، اكتفى محمد الحر، بجعلها تعبر فوق جثة الأب المسجاة وسط المسرح، لتبدأ رحلة البحث عن نفسها، وتحرير أنوثتها من هيئة الذكر الذي ظلت سجينة فيه. وبدلا من البكاءوالحزن، ترقص فرحا وهي تخلع الرباط الطويل الذي كان يدفع صدرها الناهد نحو الداخل كي لا يبان وتفتضح عورته؛ فرحة باكتشاف جسدها أخيرا، تتحسسه، تعرضه للهواء الطلق، تشعر برغباته، وتلبيهاحتى وإن كانبفعل الاغتصاب. كل هذا يحدث وسط مساحة ضيقة، كثيفة بالمشاعر الممزوجة بالمخاوف وفعل الغواية،مساحة يؤثثها الضوء وفتحتي الإطارين الخلفيين، برسمهمالحدود ظلمةوسطها أشباح سوداء تبحث عن متعة، أشباح تؤطرهم الظلمة، يرتدون السواد، تنبعث من احدهماتهدجات دينية ممزوجة بالتأوهات والحشرجات الجنسية الحيوانية، تتقدم الزهرة نحو طاولة البوح لكي تؤدي أمامنا، بشكل إيحائي، حالة الاغتصاب. ففي المسرح لا نحتاج بالضرورة إلى التجسيد الفوتوغرافي، لهذا يكتفي محمد الحر، بالإيحاء، والصوت، والصورة البانتوميميه التي تم تشكيلها في خلفية المسرح. ومثل بندقية تشيكوف المعلقة على الحائط التي لابد من سماع صوت اطلاق نارها في نهاية المشهد، تسكب الممثلة الماء الذي كان موجودا مسبقا على الطاولة، للإشارة إلى انتهاء عملية الاغتصاب وفض غشاء بكارتها، دون رؤية وجههمغتصبها.

” لم أكن أحس بنفسي قذرة أو دنسه، ففي ذهني وهبت جسدي للدغل والأرض، ارتديت ملابسي من جديد وتابعت طريقي. هكذا كان رجلي الأول عديم الوجه”.

  • كل شيء يحدث في العتمة والظلام الدامس

تهجر الزهرة منزل العائلة في جنح الظلام، تخبئ ملابس احمد الذي كانت، وكل ما يتعلق بماضيها التعيس في ظلمة قبر أبيها مع جثته، تدخل الغابة لكي تغتصب في الليل، تلتقي في الجلاّسة في الليل، تعبر طرق المدينة بأزقتها الضيقة في حلكة الليل، تدخل بيت الجلاّسة فتلتقي بليل ” القنصل” الأبدي، تعتلي السطح معه ليلا، تمارس الحب معه في بيت الدعارة خلسة عن نور عينه الضريرتين، تشعل النار بجسد عمها الجشع الذي حتى مخاط أنفه سما، وفقا لطاهر بن جلود، في لحظة عضب وثورة سوداء، فتدخل عتمة السجن، تختنها خواتها الست عنوة، بتواطؤ مع السجانة التي تغطي وجهها بقناعغراب رمزا للموت والفناء، في احدى دهاليز السجن المعتمة، طاولة البوح، ملابس الممثلين والمانكاناتسوداء، كل شيء كان أسودا سوى الوردة البيضاء والماء، والشمعة التي ظلت مشتعلة طيلة العرض، والطربوش الأحمر الذي وضع على رأس دمية مبتورة الذرعين رمزا للابن المنتظر، والإطارين المتحركين كذلك، وضوء المساقط الضوئية الكاشفة.كان الليل واللون الأسود، والظلام، عناصر رئيسية في هذا العرض؛ دلالات سيميائية تنحتغموض العالم، وسوداوية الحياة، والحداد، والاكتئاب والموت والشر، وانطواء الشخصيات على نفسها، وعزلتها في سجونها السرية، مثل العلاقة الملتبسة للقنصل بأخته الجلاّسة؛ استخدمت هذه المفردات، كحواجز للإخفاء وتعزيز الظهور، فالأسود كلون، استخدم من قبل المخرج، للتعبير عن نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة، في انتقالاته من مشهد لأخر، ومن مرحلة لثانية، وبنى من خلاله خلفيات مشهدية كثفت الأحداث، وقوضت السرد، وقضت على الكثير من التفاصيل الموجودة في الرواية، باختصاره للزمكان، وزجنافي قلب القصة مباشرة.

 

فقد تحول اللون الأسود عند محمد الحر من رؤية بصرية إلى عنصر هام في تشكيل الصور الفنية لعمله، غالبا ما يشير من خلالها إلى دلالات غائبة عن النص الأصلي، أو إلى مقاطع لا يمكن فهمها إلا بالتعمق بنسق العرض.أصبح السواد عنده كفعل مقاومة لسجوننا الذاتية، وكجزء غير منفصل من البيئة التي تحيطنا، ووسيلة هامة من وسائل التعبير والفهم،بحيث أن كثرة استعماله جعلنا نشعر بالحزن وعمق إحساسنا بذواتنا، وبمسؤوليتنا إزاء ما يحدث أمامنا؛رمز من خلاله للموت، والخوف، والظلمة، والشؤم، والحزن، واليأس ومقارعة طواحين الماضي السحيق. وباختصار شديد، شكلاللون الأسود في العرضطاقة إيجابية، أعطت سائر الألوان، على ندرتها فيه، فرصة البروز والجاذبية.

فنحن إزاء مسرحة بريشتية بامتياز، حيث الكلام الجانبي لا يسمعه إلا المتلقي الموجه إليه كلام، والذي يصبح هذا الأخير، في مثل هذه الحالة، شريكا حقيقيا للشخصية.الجمهور مستودع أسرار وبوح الزهرة، هو الملك شهريار وهي شهرزاده.هذا بالإضافة إلى امتزاج الروي بالأداء في اكثر من مشهد، بلقاء الزهرة بالجلاّسة لأول مرة بالحمام، وبوجودها إلى جانب شخصية ” القنصل” في اكثر من حالة. كان هناك دخولوخروج من الدور واللعب دون حدوث انقطاع أو إرباك أو تعثر في سير الأحداث، فالدخول والخروج بالنسبة للزهرة، جزء لا يتجزأ من اللعب الذي أسسه محمد الحر مع هاجر الحاميدي، في تعامله مع الفرجة المسرحية، كما لو أننا في ساحة الفناء في مدينة مراكش الحمراء وأمام راو ومؤدي في ذات الوقت. وقد صور المخرج هذه التحولات السريعة، من خلال مشاهد متنوعة، ذات إيقاعات مختلفة، لعبت فيها سينوغرافيا “هدى زبيد” دورا رئيسيا، حيث المجسمات المتحركة للمانكات التي تمثل الحضور السلطوي الخانق للعائلة وللمجتمع، والإطارينالرمادينالشاهقيناللذينيتحولان بشكل انسيابي مجازي إلى أبواب، جدران منزل، حمام،ممرات، زاوية دينية صوفية، وجدران زنزانة كونكريتة محكمة،بحركة بطيئة أضفت قدسية على الأحدث وشاعرية ملفتة للنظر. مثلما في مشهد تحركهما بشكل متوازي ومتعاكس في مشهد اختلاف وجهات النظر بين الجلاّسة واخاها القنصل، حيث يستند كل واحد منهما بظهره على نهايتيهما وهما يتحركان بشكل عكسي، ومشهد عبور الجلاّسة والزهرة أزقة المدينة، حيث نشاهد الإطارينوهمايمشيان أيضا، خالقين حركة دينامية، توحي لحركة الزمن، حتى تصل الجلاّسة والزهرة ” درب واحد”، وهو اسم على مسمى، لأنه من الضيق بحيث لا يسمح إلا بمرور شخص واحد، وقد رسمته الإنارة من خلال ممر ضوئي ضيق.تتواصل حركة الإطارين الخلفين مع إيقاع مشي الشخصيتين،بحيث شكلا بحركتهما معا امتدادا زمكانيالا يخلو من الانسجام والهارمونية، وقبل ان يصلامنزل الجلاّسة الذي تلتقي فيه الزهرة بـ “القنصل”، تتوقف حركة الإطارين لتأثيث جدران المنزل، وهنا، يتحول الحدث من خارجي إلى داخلي وكأننا في سيناريو فيلم سينمائي حيث المشاهد الخارجية والداخلية.

  • الأناقة والأسلبة

كل شيء في هذا العرض كان أنيقا ودقيقا ومرسوما بأسلوب فني محكم منسجم مع نفسه. فحتى عندما تنقلب الأمور رأسا على عقب، ويصبح الأسود أبيض، وتكتشف الجلاّسة ماضي الزهرة وتأتي بعمها الذي تحرقه هذه الأخيرة، بمشهد في غاية الجمال والحرفية، وتتغير فجأة، واجهة الإطارين أمام أعيننا بعصاالمخرجالسحرية، من خلال عملية اقتحام عمال المسرح للحدث وهم يكشفون لنا عن قفا الإطارين الأنيقين، وعن جانب آخر من مفردات الديكور، الذي يصبح في هذا المشهد خشنا، مغلقا،ويحيل إلى جدران السجون الإسمنتية التي عادة ما ينسى المسجون خلفها حتى موتهم، يبقى الأسلوب الفني للعرض أنيقا ومعبرا في ذات الوقت، عن مغزاه. فالجمال مفردة لم يتخلى عنها محمد الحر حتى في أحلك المشاهد ظلمة وقهرا.وقد ساعدته في ذلك الإضاءة التي قامتبنحت الفضاء بالمربعات الضوئية، والدائرية، والمستطيلة، والبقع العازلة أحيانا. فالزمكان المسرحي لدى محمد الحر كان لئيما ومتعجرفا لا يقبل الجدل، كل شيء فيه كان محسوبا ومؤسلبا بشكل مدروس. الزيادة فيه نقصان والنقصان عوز، لهذا انحصر العرض في مدة زمنية طولها 60 دقيقة تقريبا، مرّ خلالها وعبرها زمن طويل وعريض، بشكل غير تقليدي أو خطي، تقاطعت وتداخلت فيه الأزمنة بالأمكنة، والشخصيات بالروي، والماضي بالحاضر والمستقبل، لدرجة ان صار يصعب على المتفرج التفريق بينهم. الحدود الغيت بينهم، ومزقت جوازات سفرها، مثلما انصهر المسرح بالسينما وبالعكس، والرواية بالمسرحة، والبانتوميم بالسرد، والحوار الجانبي الموجه للمتلقي بشكل خاص بحوارات الممثلين فيما بينهم. كل ما في هذا العرض كان يحيل إلى الدهشة ويدعو للتعجب. لقد حاول المخرج أن يشعرنا دائما وابدأ أننا داخل مسرح، يقدم أحداثه شيئا فشيئا دون توتر وانفعال يؤثر على عاطفتنا، لأنه وبكل بساطة يزدري غيبوبة التنويم المغناطيسي الذي ينتجه المسرح الميت، وفقا لبيتر بروك في كتابة “الفضاء الخالي”.

  • الابتعاد والاقتراب ثانية

إن محمد الحر كمخرج، من النوع الذي يمارس عملية إعادة الكتابة والتكييف ربما من باب التشكيك والمساءلة في نفس الوقت، لأزمة الإخراج التوضيحي للنص، لهذا يلجأ إلى إمكانيات مسرحية من أجل اختراع أشكال جديدة في عروضه. وهذا ما لمسناه، على سبيل المثال، في إخراجه لمسرحية تيرياحين، المعدةعن مسرحية مهاجر بريسبا لجورج شحادة. إنهينتمي إلى نوع المخرجين الذين يبتعدون عن النص لكي يقتربوا منه في نهاية الأمر،ولكن من خلال طرق مختلفة،ووسائل تفرضها عليه الكتابة الركحية، وليس المتن الأدبي. بحيث يصبح التكييف وإعادة الكتابة بالنسبة له، شكلان من أشكال الكتابة التي تطعن أو بالأحرى تحتج على الفكر والثقافة التي يجب تجاوزهما، بقدر تجاوز الشكل الدرامي الذي لم يعد يتلاءم مع التحولات في المجتمع.وهما في هذا المعنى ليس بخيانة، أو مصادرة، كما يعتقد أولئك الذين ما زالوا يتشبثون بمعالجة المسرح باعتباره فعلا أدبيا، أو تحويرللمعنى الأصليله، أو تبسيطه والحد منه، وإنما تأكيدا على موقف جمالي،سياسي، اجتماعي، أو فلسفي، إنه فعل خلق مستقل بذاته،وتحرر من ضرورة أي ولاء للعمل الأولي، من خلال تأسيس حوار وصدى مع الفضاء المتناص، من اجل موضعةالكلام الخاص والتمكن من نقله. إن الفضاء التناصي، الذي اشتغل فيه وعليه محمد الحر، هو فضاء مفتوح، تعاقبيا وتزامنيا، على عوالم المسرح وجمالياته. فهو يفكر بالمسرح على أساس إنه أداء وعرض، وهذا ما يجعل من الإضاءة والديكور والأزياءوالموسيقى وجسد الممثلين وصوتهم جوهر الكل وأصله.

  • الممثلون

كان الممثل في هذا العرض مفردة أساسية في الكتابة الركحية للمخرج. فالممثلون الثلاثة – هاجر الحاميدي، بدور الزهرة والراوية، أمال بن حدو، بدور الجلاّسة، السجانة، الأم، وأخوات الزهرة الست، سعيد هراسي، بدور الأب وشخصية القنصل- الذين أدوا أدوارهم أمامنا لم يكونوا سوى شخصيات حقيقة تنمو وتتبلور من خلال تشخيصهم للواقع الاجتماعي المعيش والمتخيل في آنواحد. شخصيات على الرغم من خضوعها لرؤية المخرج وحساباته الدقيقة في رسم رؤيته الإخراجية، كانوا أحرارا كممثلين. التمثيل بالنسبة لهم، بمثابة رغبة، ومشيئة وحاجة. وهذا ما لمسناه منذ الوهلة الأولى للعرض. لم نلمس في أدائهم شكوى من سلطة المخرج الذي اسلب عرضه بكليته، بحيث لم نسمع من خلاله نغمة واحدة نشاز؛ لم نشعر باختناق حريتهم وهم يؤدون أدواهم بتفوق عال. كانوا كممثلين غائبين/ حاضرين، في ذات الوقت، يتجولون بشخصياتهم من فضاء لأخر، وينتقلون من شخصية لأخرى، بأصوات وهيئات وحركات مختلفة، بنوع من السيطرة والاستقرار والثبات الذي جعلنا نتماهى معهم، نحلق في أعالي أدائهم، بمتعة لا يمكن الحصول عليها إلا في العروض الكبيرة. كانوا بمثابة امرأة في حالة مخاض حقيقي، وقد ساعدهم المخرج على وضع طفلهم المشترك بشكل طبيعي وجميل. كانوا يغيبون عندما يلبسون جلد شخصياتهم، ويحضرون من خلال تجسيدهم لها، معطين إياها كل كينونتهم ووجودهم الإنساني. أليس الممثل، كما يقول سيمون كالو: هو نموذج للشرط الإنساني؟.

ملاحظة لا بد منها: كانت الممثلة هاجر الحاميدي حاملا بطفلهاأثناءأداء دوريها في مهرجان طنجة المشهدية، وهذا يعني ان الطفل الذي كان في شهوره الأخير في بطنها يمثل معها، يعيش كل توترها واسترخائها وعظيم أدائها. وقد استبدلت بسبب ظروف الولادة، في عرض أيام قرطاج المسرحية بالممثلة القديرة والمتألقة دوما “جميلة الهوني”.

[1]– في البرنامج الذي رافق عرض مسرحية (حفلة عرس لدى  البرجوازيين الصغار) تأليف بريشت وإخراج فانسون وجوردي، كل اسم لشخصية من الشخصيات كانت ترافقه سيرة روائية.

 


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock