قراءة نقدية في مسرحية ” أحجَار الجِنَّة” للكاتب الليبي.. “معتز بن حميد”

المسرح نيوز ـ ليبيا| رحاب زردقـ
لعل هذه هى ثاني تجربة في قراءة أعمال الكاتب المسرحي معتز بن حميد بعد مسرحيته الرائعة ((المُرّان)). والتي لاتقل إمتاعاً وتميزاً عن أحجار الجنة.

عادة أفضل الإبتعاد عن قراءة الأعمال ذات الطابع السياسي، خوفاً من تهميش الشكل الأدبي لصالح اللغة السياسية الحادة أو المتحيزة بتعصب أيدولوچي، فتشعر معها وكأن الكاتب يصرخ بك “هل جننت كيف تعارضني أيها الخائن”. لكن هذا أبعد ما يكون عن مسرحيات أ. معتز، حيث نجح بصورة بارعة في تقديم مسرحيته بلغة أدبية عالية المستوى، ومحكمة الأركان دون المساس بقيمتها ورسالتها السياسية التي تحملها بكل حرص، إلى أن تتأكد من وصولها بسلام وحيادية للمتلقي، الذي يرحب باستقبالها بكل حب، دون الشعور بضغط أو إلحاح من الكاتب، ليستميل موافقته، بل يكسبها بذكاء وسلاسة بدون عناء يذكر.

يدور الصراع الأساسي للمسرحية بالتوازي مع الصراع بين البطلين (رجل وزوجته)، حيث يتبنى الزوج فكرة أن “الأمل” يتمثل في البقاء في مكانهما المقدس والإصرار على المقاومة بشراسة
” أليست كل الولادات العظيمة في التاريخ بدأت من جوف المكان؟!” “قدسية المكان يصنعها صاحبه”.
بينما نجد الزوجة على النقيض حيث ترى أن أملهما يتمثل في المغادرة لعلهما يجدان فرصة للحياة في مكان آخر وإنجابهما أبناء، بعدما عمت الفوضى بلادهما بسبب من أطلقت عليهم “جماعات الإسلام السياسي”.
“هم ذرية تحمل رسالتك السامية… وحتى إن هُزمنا نحن اليوم؛ ربما ينتصروا هم فيما بعد.”

أستخدم الكاتب “الزوج” في تمثيل عدة شخصيات تمثل طوائف النزاع المختلفة، فيما كان دور الزوجة ثابت في كل الحالات وهو “الضحية”، أجد الرمزية هنا تعبر عن أنَّ المتصارعين أخوة أصلهم واحد، كما في واقع صراعتتا السياسية على مستوى البلد الواحد أو المنطقة الجغرافية الواحدة، فوحدة الأصل لم تنجح في نزع فتيل الخلاف بين الأفرع، والضحية دائماً ثابتة الأ وهي الشعب الواحد.

“أنتم تجعلون الغطاء رمزا للصراعات السياسية.. وهذا ما يرغبه العدو.. أن تنحصر خلافاتنا في رموز كاذبة!!”

لفت نظري في الفصل الثاني جدالهما حول رغبة الزوج في بيع رأس التمثال، وكأنهما تبادلا الأدوار والقناعات، فالزوج مصمم أن يبيع التمثال بالرغم مما يمثله من أرثهما الذي يدعي رغبته في البقاء والقتال من أجل حمايته، ومع ذلك تجده يختار بيعه كي يعيش ويستفيد من ثمنه عوضاً عن رؤيته يتحطم و يضيع هباءً. والزوجة المنادية برحيلهما، تستنكر بشدة بيع التمثال متهمة زوجها بالتخلي عن إرثهما بالرغم من أن رغبتها في الرحيل هي بالأساس قرار بالتخلي عن كل الآثار وليس مجرد رأس واحد.
وهنا ينهي الكاتب هذا الجزء من الحوار والجدال الفكري بينهما، بعبارة عميقة المعنى على لسان الزوج قائلاً:

“إن الفضائل والعيوب لدى البشر غير موزعة بشكل عادل.”

تمثل الزوجة في معظم فصول المسرحية -فيما عدا الفصول الأخيرة حيث تكشف وعي فكري وفهم عميق لدى الزوج – صوت العقل الفلسفي الذي يحلل بعمق كل التفاصيل والمواقف والشخصيات، ليستخلص أصل الأشياء وأسبابها، ولذلك نجدها تصف حياتهما في ظل تلك الظروف المؤلمة من حروب متتالية وخراب وظلم في البلاد، بعبارات جميلة جداً وتدعو للتفكر بها والوقوف عندها للاستمتاع بمعانيها. مثال:

“”لابد لنا من معرفة الوقت.. إذ لم نعرف الوقت ونضبط الزمن لا نستطيع تحديد موقفنا من الحياة… إننا نتحدى أهم عناصر الحياة.. نحن نُثبّت المكان، ونوقف الزمان.””
“” سنتكيف مع جميع الظروف المحيطة. فبين حرب وأخرى استطاع الإنسان أن يعيش، أن يتعلم، وأن ينجب أطفالا.. وأن يمارس كل ضروب الحياة…
هذا هو الموت الأبيض””

من العبارات الجميلة للكاتب، والمفسرة والمحللة لأسباب إنتشار الأعمال الإرهابية والمتعصبة بين الأخوة في الوطن الواحد، هذه الجملة:
“”لأننا تخلينا عنهم بعدائنا المباشر؛ فقدنا السيطرة عليهم””. هي تفسر لنا الموقف دون تحيز وبرؤية شمولية، مع تقبل الأخر مهما أختلف عنا، وهذه قمة الحكمة ومنتهى العدل الإنساني.

تحمل المسرحية على قصرها، تكثيفاً جميلاً للأفكار وتحليلاً منطقياً للأحداث التي نعيشها على أرض الواقع، وبلغة تقترب لكونها شعراً أو نثراً بديعاً، تدخل عقل القارئ من باب القلب، فجمال المفردات والتراكيب اللغوية، والتنسيق في توزيع الحوار، أشبه بصور ذات إيقاع فني يكاد يكون نابضاً بالحياة وملموساً بالأنامل. وأخص بالذكر خطاب الزوج في جنازة والده، حقيقة أكثر من رائع سلمت يداك أ.معتز على روعة الخطاب المشحون بكل تلك المشاعر القوية وكأن البطل يحاسب ويعاتب الشعوب كافة.

أختم قرائتي للمسرحية ببعض الاقتباسات التي جذبتني كثيراً لجمالها وقوة معناها:

“”كيف له أن يبيع شيئاً لا يمتلكه؛ فالإنسان لا يمتلك الأرض بل هي من تمتلكه!!””

“”علينا أن نطهر أفكارنا قبل أجسادنا..””

“” الغش يملأ حياتنا.. يجعل منها أعجوبة مُشوبة بطعم آسن.””

“” نحن نتعلق فقط بما نعرف، ولا نحب إلا الأشياء التي نعلمها.. تعودنا أن نفهم أن هذا هو ما يمنحنا السعادة.””

“” الأهم من الذكاء هو الصدق.. إن القلب والعقل دلوان صغيران في بئر الصدق..””

“”تعرف ما الذي علينا أن نتعلمه ونعمله؟ الابتكار… يجب الأ ندمج القيم القديمة؛ علينا أن نبتكر. هذا ما ينقصنا.. أن نبتكر حتى في فضائلنا وقيمنا.””

“”عذوبة المجد أقوى من عظمة الموت؛ لهذا تجدنا نستبدل بحقيقة الحياة خديعة النهضة الزائفة!””

“”لا ندرك بغبائنا المطبق أن أحجار الجنة التي استبدلناها بأحجار الحداثة المشوّهة؛ هي نفسها من أصابت ثقافتنا باللعنة الأبدية.””

مع خالص تحياتي ومودتي للكاتب المتميز معتز بن حميد، وأشكره على تلك المتعة الأدبية التي قدمها لنا من خلال مسرحيته الرائعة “أحجار الجنة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock