نصوص

ننشر النص المسرحي “سلطان إبراهيم” للكاتب السوري الكبير عبد الفتاح رواس قلعه جي


المسرح نيوز ـ القاهرة| نصوص

ـ

عبد الفتاح رواس قلعه جي

سلطان إبراهيم

 

 

مسرحية

 

الشخصيات

 

محتفلون في ساحة المدينة، نسوة، امرأة تهنهن، شاب وفتاة بدويان، امرأتان

تبارك:   فتاة الحلم وسيدة الحمام

الأم:     والدة إبراهيم

إبراهيم:  السلطان

راعي أغنام

أصوات:  الوزير-قائد الجيش- قائد الشرطة

قاطع طريق

فتاتان وأبوهما العجوز

فتاة

صياد بائع السمك

الحارس : حارس باب المدينة

 

 

 

    المشهد الأول
     
    (المسرح خال، في عمق المسرح شاشة سيكلودراما على امتداد جدار خلفية المسرح، ستكون هناك مناظر تُنفَّذ حسب رؤيتي النص والمخرج بالتناوب أو التوازي معاً ما بين فضاءي المسرح والشاشة.

*    *    *

ساحة عامة

احتفالات تنصيب السلطان إبراهيم على العرش وتمتد سبعة أيام قبل التنصيب وسبعة أيام بعده.

الساحة تغص بالمحتفلين والمتفرجين، وتعلو أصوات التشجيع، والفرقة الموسيقية تعزف ألحاناً مرحة مرقِّصة، وبعض الشباب والفتيات يرقصون حيث تنعقد حلقة الدبكة ويهزجون بالشدّيات)

    (قائد مجموعة الدبكة وفي يده منديل يلوح به يهزج وبعد كل بيت من الشدية تردد مجموعة الدبكة البيت بعده)
القائد والمجموعة : غنى البلبل مع الطير** الله يمسّيكن بالخير

الله يتمِّم الأفراح ** وِيّاكم آضا المصباح

الله يمسيكم بالخير ** يا عُمار العَمارة

جينا نفرح بالسلطان ** من حارة لحارة

(تنسحب مجموعة الدبكة)

    (تنبري امرأة بين مجموعة نساء وتهنهن).
المرأة : هاها.. يا سلطان ابراهيم* يا مختار

هاها.. نحنا اخترناك، ليش نحتار

هاها.. جيت تنصف المظلوم وتلاحق الأشرار

بالله عليك لا تنس الفقير ولا الغلبان الجار

مجموعة النساء : لي..لي..ليش
    (تعبر الساحة فرقة موسيقى القرب، أو الموسيقى النحاسية وهي تعزف لحناً حماسياً ثم تخرج.

تعبر فرقة الخيّالة (الفرسان) بثيابهم المزركشة على أحصنتهم وهم يلعبون ويلوحون وبأيديهم السيوف ثم تخرج.

يدخل الساحة لاعب سانتور* يقوم باستعراضٍ راقصٍ بالسيف ثم يخرج.

تحلق في السماء طائرات تحترق جدار الصوت في استعراض راعب والناس يصيبهم الفزع.

تقترب امرأتان من الشيخ العارف وتسألانه)

امرأة1 : ما هذه أيها الشيخ العارف.. أهي طيور أم ملائكة.
امرأة2 : الملائكة لا تُفزعِ الناس.. لعلها آلهة صغار غاضبة؟
الشيخ العارف : هذه طائرات لم تخترع بعد، جاءت من الأبد لتشاركنا الفرحة. الملوك يخترقون جدار الزمن ويحتفلون بهذه المناسبة.
امرأة1 : وهل سيأتي يوم يصنع الناس آلهة كهذه؟
العارف : لابد أن يأتي.
امرأة1 : وهل هي آلهة أشرار أم أخيار؟
امرأة2 : حسب صانعها.
العارف : بل حسب صانعها وحسب مستعمِلها.
امرأة1 : إذا لم تكن آلهة ولا ملائكة فهذه طيور أبابيل، طيور مدمِّرة.
امرأة 2 : طيور غبية كهؤلاء الذين يهتفون ويهزجون لصانع شقائهم.
امرأة 1 : مدمِّرة والناس يهزجون له فرحين..! هه.. القطة بتفرح بخنّاقها**.
العارف : اسكتي يا امرأة، الحيطان لها آذان (يبتعد عنهما خائفاً من بصّاص قد يكون قريباً منهم)
امرأة2 : هل سيوزعون علينا الطعام بمناسبة التتويج أم يَمدّون الموائد وعليها أصناف المأكولات؟ منذ ثلاثة أيام لم أتناول وأولادي غير رغيفين من الخبز، وحالك ليس أفضل من حالي؟
امرأة1 : لا هذا ولا ذاك، في الانتخابات يدعون الناس إلى ولائم لكسب أصواتهم، أما في التتويج فالأصوات في الخزائن محفوظة تحت العرش، يفتحونها ويغرفون منها النسبة التي يريدون.
امرأة2 : إذن فما بقاؤنا هنا، هيا ولنغادر.
امرأة : كلا.. يقول المثل الشعبي: إذا فاتك اللحم عليك بالمَرَقة. سنبقى ونتفرج، فاحتفالات التنصيب لا تتكرر دائماً.
    (يتقدم وسط الحلبة شاب وفتاة قادمان من البادية بلباسهما التقيلدي البدوي، يؤديان مشهداً حوارياً غنائياً راقصاً، الشاب متقلدٌ سيفَه يخرجه من غمده ويلوح به أثناء الرقص بين الحين والآخر ثم يعيده إلى غمده والفتاة في يدها عود تذب به الشاب عن نفسها فيبتعد ثم يقترب، والفرقة الموسيقية ترافق المشهد الحواري ).
الفتاة : يا راعي الذّود ** أِقْهر ذودَك ** أشوف اليوم تناحيني
الفتى : شِفْت نهودِكْ ** تحت عضودِك ** غدا قلبي قَطْعيني
الفتاة : أنا حَبّارة ** بأرض قْفارة ** حس الرعيان مجزيني
الفتى : أنا صقْرك ** مذكور لك ** مدعوج العين بلا نيلي
الفتاة : أنا حيّة ** تحت صْفيَّة ** يقتلك السم ما تجيني
الفتى : أنا القرّاي ** ابن القرّاي ** أقهر سمّك ما يسيني*
    (يصل الرقص بينهما إلى أوجه ثم ينسحبان وسط تصفيق واستحسان جمهور المحتفلين)
    (إظلام)
     
    المشهد الثاني
     
    (إنارة زرقاء بلون زرقة السماء تغمر المسرح، في الجانب الأيسر ظُلّة زرقاء من قماش الغربول الناعم الشفيف ينام تحتها إبراهيم متدثراً بلحاف أزرق وجسمه لا يكاد يبين.

على شاشة السيكلودراما في عمق المسرح بحر ساكن الأمواج وسفينة على النمط الفينيقي تلوح في أفقه البعيد.

تخرح من قلب الماء فتاة رائعة الجمال ، في ثوبها الأزرق المتماوج وشعرها مسبل على كتفيها وتتقدم في خطوات ثابتة وبطيئة نحو الشاطئ، وعندما تلامس قدماها رمال الشاطئ تتبدل الإنارة وتصبح زهرية، ويتبدل المنظر على شاشة السيكلودراما فيكون ليل ونجوم تسطع وثمة مهرجان من الشهب المتساقطة، ثم يظهر القمر ويرسل ضياءه الفضي فيختلط باللون الزهري حتى يسود اللون الفضي وتسمع موسيقى كونية بعيدة ناعمة.

تتقدم الفتاة إلى منتصف المسرح وتلتفت نحو النائم تحت الظلّة)  

تبارك : (صوتها مع الصدى) أيها النائم تحت الظلة، كيف يمكن أن تكون ملكاً وقلبك خال من العشق!؟ أنا تبارك سيدة الحمام، لو كنت تحبني لبحثت عني، ولو بحثت عني لوجدتني في ترنيمة طائر، في همسات غصن مورق، في تهويمة نسمة حانية.

(يتقلب النائم في فراشه كأنه يريد أن يستيقظ فلا يستطيع، والفتاة تقترب خطوة من النائم)

أيها النائم تحت الظلة كيف يمكن أن تكون ملكاً وأنت لا تحبني ولا تبحث عني، ولو بحثت عني لوجدتني بين أفراد شعبك، في بكاء طفل جائع، في عرَق عامل مُتعَب، في كف فلاح يستولد أرضه، في الحارات الخلفية من المدينة.

(تقترب من النائم خطوة)

أيها النائم تحت الظلة وأنت غِرٌ مغرور ينقصك الشوق والمعرفة، لو كنت عاشقاً لهاجرت في طلب المعشوق، وعلَّمَتْك الأسفار أسرار الألحان، وكففت عن صيد الحباري والغزلان، واصطدت في الطريق آلاف المناظر والمعارف والشقاء والأحزان، لتعود مؤهلاً للعشق والملْك والسياسة.

(تقترب من النائم خطوة وتقف أمام الظلة مباشرة)

أيها النائم تحت الظلة، أفق واتبعني، أنا شمسك وأنت قمري, والشمس لا تشرق مرتين في اليوم الواحد.

(يتقلب بصعوبة، يحاول أن يستيقظ وينهض من نومه وأن يحرك يديه فلا يستطيع كأن جاثوماً يجثم فوق صدره.

الفتاة تستدير وتبتعد عنه إلى شاطئ البحر، تسير في المياه حتى تختفى تحت الموج)

    *   *   *
    (إظلام سريع وبقعة ضوء مركزة على إبراهيم ووالدته في الجانب الأيمن من المسرح)
إبراهيم : أماه.
الأم : ما بك يا بني؟ أراك قلقاً.
إبراهيم : حقاً.. أنا قلق.
الأم : ما الذي يقلقك؟
إبراهيم : حلم يتردد كل ليلة.
الأم : دع عنك الأحلام، الحلم الأكبر قد تحقق ولم يبق لحفل التنصيب غير يومين، وسيحضر كثيرون من رؤساء الدول والسفراء من مختلف الأزمنة والأمكنة  وعليك أن تحسن استقبالهم بما يليق، بثقة الحاكم ووجه باسم.
إبراهيم : أخشى أن لا يكون ذلك.
الأم : ما هذا الذي تقول؟
إبراهيم : هل ترينني مؤهلاً للحكم يا أماه؟
الأم : وكيف لا تكون مؤهلاً وقد وضع لك أبوك أفضل المعلمين من العلماء والأدباء والساسة، وأفضل المدربين على السلاح والقتال.
إبراهيم : وهل هذا يكفي؟ تقول لي فتاة الحلم : ثمة علوم لا يعطيها المعلمون  وإنما تُكتسَب بالعشق والأسفار.
الأم : ومن فتاة الحلم هذه؟
إبراهيم : تبارك سيدة الحمام..هكذا اسمها، عندما طلعت من البحر من بين الأمواج وقد أرْخَت جداول شعرِها على كتفيها ولامست قدماها الشاطئ ازدانت السماء بالنجوم، وطلع القمر، وعزفت الطبيعة موسيقى الحضور.
الأم : انت أغرب عاشق! تعشق فتاة في الحلم؟ لديك في مملكتك غوانٍ نبيلات، وأمامك بنات الملوك، تستطيع أن تخطب واحدة منهن، ثم أراك تعشق فتاة من وَهْم تذوب إذا ما استيقظت، هذا يثير فيَّ العجب!
إبراهيم : يا أمي، آليتُ على نفسي ألا أتزوَّج،  لو أمكنني أن أطلِّق نفسي لفعلت.
أما هذه فإنها فتاة من نور، وذراتُ جسمها الشفيف لا تذوب في يقظة أو منام. يجب أن أبحث عنها، لا بد أن لها وجوداً في الواقع، إنها تدعوني لأبحث عنها وألتقيها، هي شمسي وأننا قمرها.
الأم : اسمع يا ولدي، بقي يومان لحفل التنصيب، حاول أن تخرج من حلمك، أسرج حصانك واخرج للصيد، وهو هوايتك المفضلة، إن هذا ينسيك ما أنت فيه ويردُّ إليك نفسَك.
    (إظلام)
     
    المشهد الثالث
     
    (بين فضاء المسرح وفضاء السيكلودراما وبين الظلمة والنور يقف إبراهيم مستغرقاً في المنظر البديع ومتطلعاً إلى الفضاء المحيط، وهو في ملابس الصيد وقوسه على كتفه، وكنانته مليئة بالسهام ونجمة الصباح تتلامع في السماء مودعة الأرض الرحيبة، وتسمع زقزقات الطيور والعصافير وهي ما تزال في أكنانها. 

على شاشة السيكلودراما يزحف النور قبيل الشروق والكون يخلع عباءة ظلمة الفجر، وإبراهيم على ربوة وارفة، يحط طائر على غصن ويرنق بجناحيه، يتنبه إبراهيم فيتناول قوسه وسهماً من كنانته، يجثو على ركبته استعداداً، ثم يوتر القوس لاصطياد الطائر، يفر الطائر من الغصن محلقاً، ثم تحط حمامة على الغصن، وفجأة يسمع هاتفاً كأنه آت من الشجرة التي حطت عليها الحمامة)

الهاتف : ( صوت تبارك مع الصدى) ما هذا العبث يا إبراهيم؟ ما لهذا خُلقت ولا بذا أُمرت.
إبراهيم : (يقف متحيراً متفكراً) ما هذا الصوت، ومن أين جاء؟ (بتلفت حواليه) ما من أحد، هل تتكلم الأشجار والطيور؟

(يعيد القوس والسهم إلى مكانيهما ويتابع المسير)

    *   *    *
    (الشمس وقد أشرقت، وغمر نور الصباح السهل الممتد على مساحة النظر والذي تتخلله بعض الربى الممرعة والتي تتوزع فيها بعض الشجيرات، وإبراهيم يبحث عن طريدة يصطادها. يلوح له عن بعد غزال يقف في ظل شجرة، يقترب منه بحذر مسافة السهم، ثم يجثو ويوتر قوسه، ينفر الغزال مبتعداً عن مسافة الرمي ثم يلتفت نحو الصياد وكأنه يخاطبه، فجأة يسمع الصياد هاتفاً، يُصيخ إبراهيم ويدقق فيه فيتأكد أنه آت من جهة الغزال)
الهاتف : (صوت تبارك مع الصدى) ما لهذا خُلقت ولا بذا أُمرت أيها النائم تحت الظلَّة، أنت غِرٌ مغرور ينقصك الشوق والمعرفة ومخالطة الناس وأحوالهم في الشوارع التي لا تطلع عليها الشمس، هم الكتاب المفتوح الذي لا يقرؤه الأثرياء والحاكمون بأمرهم.

أيها النائم تحت الظلة قلت لك اتبعني فجئت تصطادني!؟

(يعدو الغزال مبتعداً. يتحير، يسير خطوات مفكراً، يتوقف وقد عزم أمراً)

إبراهيم : إنه صوت تبارك..سيدة الحمام. تبارك أنا قادم يا سيدتي.
    (يخلع عنه القوس والكنانة، يطيح بهما بعيداً، ثم يواصل السير)
    *   *   *
    (الوقت ظهيرة، إبراهيم يسير بين الروابي وقد تخفف من عدة الصيد)
إبراهيم : ما يحدث معي أمر عجيب، لعله هاتف من السماء أو صوتٌ كائنٌ في  أعماقي. منذ أيام أسمع أصواتاً لا يسمعها الآخرون، وأرى رؤى لا يرونها، حرت بين الوهم والحقيقة، يجب أن أتخلص مما أنا فيه، ولكن كيف والملْك يكبلني بالأغلال؟ يجب أن أفعل شيئاً يستحق المغامرة لأخلص إلى راحة النفس.

(يسمع عزف ناي وغناء راع من وراء الربوة، يتوقف ويستمع)

صوت الغناء : سوقوا القطيع إلى المراعي، وامضي إلى خضر البقاعِ

ملأ الضحى عينيك بالأطياف من رقص الشعاع

وتناثرت خصلات  شعرك للنسيمات   السراع

سمراء يا أنشودة الغابات يا حلم  المراعي*

إبراهيم : إوه.. كم أراحني هذا العزف والغناء، سأقصد صاحبه.

(يعتلي الربوة ويطل على راع يجلس على صخرة وأمامه قطيع من الأغنام وهو يعزف على الناي فيتجه نحوه)

    *   *   *
إبراهيم : (انتقال إلى فضاء المسرح)

(إبراهيم وهو جالس على الصخرة بجانب الراعي)

أوه.. أنت تجيد العزف على الناي، عزفك جميل كغنائك.

الراعي : الرعيان يجيدون العزف على الناي، الشياه تألَف وتستجيب لصوت الناي والغناء.
إبراهيم : لمن هذه الأغنام؟
الراعي : هذا قطيع السلطان إبراهيم وأنا أرعى أغنامه.
إبراهيم : هل رأيت السلطان إبراهيم؟
الراعي : كلا.. لم أره، وأنّى لراع فقير مثلي أن يرى السلطان وهو لا يغادر قصره إلا للصيد؟
إبراهيم : إذن أنت لا تعرفه.
الراعي : نعم ..لا أعرفه.
إبراهيم : وترعى أغنامه.
الراعي : أجل.
إبراهيم : يمكن أن تتعرف عليه من ثيابه.
الراعي : وماذا يلبس؟
إبراهيم : إنه يلبس ثياباً مثلي..هكذا.
الراعي : هذه ثياب فخمة جداً.
إبراهيم : هل تريدها؟
الراعي : لا تسخر مني يا سيدي.
إبراهيم : أنا لا أسخر، سأعطيك ثيابي مقابل ثيابك ومئة دينار.
الراعي : ومن أين لي مئة دينار أدفعها لك؟
إبراهيم : أنا الذي سأعطيك مئة دينار مع ثيابي هذه.
الراعي : انصرف يا سيدي ودعني في حالي، صحيح أنا راع ولكن لم يسخر مني أحد من قبل.
إبراهيم : قلت لك أنا لا أسخر ومئة الدينار لقاء نايك تعطيني إياه.
الراعي : إذن لماذا تفعل ذلك إن كنت صادقاً؟
إبراهيم : القصة هي أني أهوى فتاة تصر عليَّ أن ألقاها في ثياب الرعيان وأعزف لها على الناي كي تتراءى لي وتواصلني.
الراعي : فتاتك ذوقها سليم، ثياب الراعي هذه لها نكهتها ورائحتها، لعلها رائحة الشياه والعمل، لكنها ثياب تكاد تنطق. أما ثيابك هذه فهي جميلة لكنها صماء بكماء لا نكهة لها ولا رائحة.
إبراهيم : إذن أنت موافق على التبادل.
الراعي : أجل، وبإمكاني أن أبيع هذه الثياب الغالية وأشتري غيرها ثياباً بسيطة لها نكهتها ورائحتها صالحةً للرعي.
إبراهيم : إذن هيا ولنتبادل الثياب.

(يبدأان بخلع ثيابهما)

الراعي : أرجو يا سيدي أن تطمئن فثيابي نظيفة غسَلَتها زوجتي البارحة.

(إظلام)

     
    المشهد الرابع
     
    (تحت بقعة ضوء والمسرح معتم الأم تجلس على سجادة للصلاة وقد فرغت للتو من صلاتها وأمامها صرة قماش فيها ثياب ابنها التي خرج بها للصيد، وهي في وضع أقرب ما يكون إلى التأمل القلِق الحزين وإلى الابتهال. تفتح الصرة ترفعها إلى أنفها وتشم رائحتها، وتنداح دمعتين من عينيها)
الأم : إنها ثيابه ورائحة جسده ما تزال فيها. اليوم أحضروها لي، اشتروها من السوق ولم يتعرفوا على البائع.

خرج إلى الصيد ولم يعد، احتفالات التنصيب توقفت وذهبت هباء، زعماء الدول وسفراؤهم عادوا من حيث أتوا.. كانت فضيحة كبيرة.

(تستعرض الثياب) بيعت مرات عديدة حتى وصلت إليّ (تشمها ثانية مدققة في رائحتها) من الغريب أنه لم يلبسها أحد بعده، لا رائحة أخرى مع رائحة جسده، لعل الثياب الملكية لها هيبتها ولا مَساسُها.

(صمت)

يأتيني الوزير الأول ويقول لي:

صوت الوزير : يا مولاتي السلطان إبراهيم اختفى ولعله غرق في البحر أو أكلته وحوش البرية، وهاهي ثيابه تدل على موته، والناس قد بدؤوا يضجون ويثيرون الفتن، أرى أن نعلن الحداد شهراً كاملاً وننكس الأعلام ثم نعين سلطاناً آخر.. كنتُ ساعده الأيمن وأنا أدرى من الجميع بإدارة المملكة.
الأم : إنه طامع في الملك، وكان أذلَّ وأضعف من بعوضة أمامه، وأعلم أنه ينسج المؤامرات ويثير الفتن ليصل إلى غايته فيجلس على العرش.

(تفتش في جيوب الثوب)

خاتمه غير موجود، لا شك أنه ما زال في إصبعه، يرى الوزير الأول أن نصنع بدلاً منه خاتماً جديداً، ولكنني مصرة على أن نعثر على الخاتم الملكي الموروث أباً عن جدٍّ أولاً حتى أتأكد من الإشاعات التي ينسجها الوزير حوله. الوزير يزعجني ويشتد في طلباته المبطنة بالتهديد حتى إنني استدعيت قائد الجيش وطلبت منه إيقافه عند حده ولكنه قال:

صوت قائد الجيش : يا مولاتي يؤسفني ما يحدث الآن في البلاد، ولكن الجيش لا يستطيع أن يتدخل، الجيش لا يتدخل في السياسة  ومهمته هي الحفاظ على حدود البلاد من الأعداء، مهمةُ الأمنِ وملاحقةُ الفتن الداخلية والفساد هي مهمة قائد الشرطة.
الأم : في عهده لم يكن لأحد أن يتآمر على الدولة أو يخل بالأمن، كان ذراعَ أبيه الأيمن، وكان شاباً قوياً مثالياً مؤهلاً للحكم، بل ويمارس مهمات الدولة حتى في عهد أبيه، وكان محبوباً من شعبه، ثم بدأت أحواله تتغير منذ صارت تلك الفتاة تتراءى له في المنام فمال إلى الزهد، وأصبح قلقاً، كثير الشرود، وكأنه يعيش في عالم آخر.

(صمت)

منذ أيام جاءني قائد الشرطة وقال:

صوت قائد الشرطة : يا مولاتي، لقد طالت غيبة السلطان إبراهيم، وأخشى أن يكون قد حدث له حادث فاجع وبفعل فاعل. ويحزنني أنني أرى حزنك وقلقك عليه، والبلاد تسير بعده إلى ما لا يسر، والوزير الأول يتآمر ويهيئ نفسه لاستلام الحكم وصار له أنصاره وقوته، وأنا أخشى من العاقبة.

مولاتي إنني مستعد لأن أسوق الناس جميعاً إلى السجن وأحقق معهم حتى أتبين الخبر عنه، فهل تأمرين بذلك؟

الأم : بالطبع رفضت ذلك، فما كنا لنسجن الناس على الشبهة أو نعذبهم، وأنا أكره الظلم فهو ظلمات يوم القيامة.
    (تطوي الثياب ثانية بعناية)
الأم : لقد أرسلتُ رسلاً للبحث عنه في البلاد، أنا متأكدة من أنه حي ويجب أن يعود.

(تعيد الثياب إلى الصرة وتربطها)

سأضعها أمامي عند كل صلاة، وأجعلها وسادة تحت رأسي، أشم رائحتها حتى يعود، لعل تلك الفتاة التي خلبت لبه تتراءى لي في الحلم وتدلني عليه، أنا متأكدة أنه راح يتبع الصوت في داخله باحثاً عنها في أنحاء الكون الكبير، مازلت أذكر قوله:

صوت إبراهيم : أماه..إنها فتاة من نور، وذرات جسمها الشفيف لا تذوب في يقظة أو منام. يجب أن أبحث عنها، لا بد أن لها وجوداً في الواقع، إنها تدعوني لأبحث عنها وألتقيها، هي شمسي وأنا قمرها.
    (إظلام)
     
    المشهد الخامس
     
    (فضاء السيكلودراما.

 غابة كثيفة الأشجار ممتدة حتى الأفق، نهر جار وعلى ضفتيه أشجار القصب والريح تمر من خلالها فيصدر القصب نغمات متباينة.

إبراهيم يحمل ربطة من الحطب احتطبها من الغابة ليبيعها في السوق، يشعر بالتعب فيضع ربطة الحطب على الأرض على ضفة النهر ويجلس، يأخذ من عُبِّه النّايَ ويعزف)

إبراهيم : تباركُ الحسان

سيدةَ الزمان

سيدةَ الحمام*

فلتأذني

لعاشقٍ وَلهان

أن يرتوي

من وجهكِ الفتّان؟

    (يتابع العزف ثم يتوقف، تهب الريح بين أشجار القصب فتميس وتصدر أصواتاً  كأنها ترجيع لعزفه، أشعة الشمس تتلامع بين شجيرات القصب، وإبراهيم مستغرق في المنظر، وفجأة يتلامع ويختفي وجه تبارك ثم يظهر ويختفي) 
إبراهيم : آه..كنت متأكداً أنها ستتراءى لي.. يا لسعادتي.
تبارك : (وجهها يتلامع بين القصب) أنت تقترب مني، ولكن الطريق ما زالت طويلة (تختفي)
إبراهيم : (بعد فترة صمت وتفكير ينهض ويحمل حزمة الحطب والفأس) فلأتابع السير، أعلم بأن الطريق ستكون طويلة.

(يسير ثم يخرج من فضاء الشاشة إلى فضاء المسرح)

    *   *   *
    (فضاء المسرح

إبراهيم يدخل حاملاً حزمة الحطب والفأس، يبرز فجأة رجل ملثم في يده خنجر يبدو أنه قاطع طريق ولكنه غير محترف، يعترض إبراهيم)

قاطع الطريق : مكانك.
إبراهيم : (غير خائف) هه.. ومن أنت؟
قاطع الطريق : ضع حزمة الحطب على الأرض وارفع يديك.
إبراهيم : (يضع الحزمة على الأرض) تترك القوافل التجارية والأغنياء وتقطع الطريق على حطاب فقير!؟ أنت غير محترف.
قاطع الطريق : هذا ما تيسر لي. ضع نقودك أمامي.
إبراهيم : ليس معي نقود، ما زال في جعبتي رغيفان، إن كنتَ جائعاً أعطيتهما لك.
قاطع الطريق : (يغمد خنجره) أنا جائع حقا. ملعون هذا الزمان.

(يميط اللثام عن وجهه)

صدقت،أنا غير محترف، وهذه ليست مهنتي.

(يجلسان ويأخذ إبراهيم الرغيفين من جعبته ويعطيهما للرجل، يأخذهما ولكنه لا يأكل)

ولكنه طعامك.

إبراهيم : أنا صائم، كل.. ألست جائعاً، لماذا لا تأكل؟
قاطع الطريق : (يضعه في عبِّه) سآخذ الخبز إلى الأولاد، هم جائعون.
إبراهيم : كم عندك من الأولاد؟
قاطع الطريق : ثلاثة وأمهم.
إبراهيم : ولماذا لا تشتغل ؟
قاطع الطريق : كنت أشتغل في البناء ولكن رب العمل صرفَنا، هذه الحرب أكلت الأخضر واليابس، توقفت أعمال البناء، وسادت البطالة، ودُمرت المصانع، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وانتشر الجراد والفساد فلم يترك زرعاً ولا ضرعاً، وهكذا لم نعد قادرين على إطعام عيالنا.

(يصمت ويشعر بالحزن)

يبدو أنك وافد جديد على هذه المدينة.

إبراهيم : أجل.
قاطع الطريق : ومن أين أنت قادم؟
إبراهيم : من بلاد بعيدة.
قاطع الطريق : وما الذي دعاك إلى السفر وتَرْك وطنك.
إبراهيم : تلك قصة طويلة. وأرض الله كلها وطني.
قاطع الطريق : أ هنالك جوع عندكم؟
إبراهيم : في كل البلاد جوع وغنى، لكن الجائعين والمتخمين لا يلتقون، تفصل ما بينهما أسوار وجبال. والجوع إلى الحب والمعرفة أفضل أنواع الجوع.
قاطع الطريق : يبدو أنك مثقف متعلم.
إبراهيم : بل أنا طالب علم.
قاطع الطريق : (يمسك بكفيه) كفاك ناعمتان، ليستا بكفي حطاب.
إبراهيم : ستخشِّنهما الطريق الطويلة.
قاطع الطريق : يبدو أنك لم تعرف الجوع.. أكنت غنياً؟
إبراهيم : لم أكن جائع بطن، وكان لدي كل ما يشتهي المطعَمون، ولكنني كنت فقيراً، وأنا الآن أسافر في البلاد لأعرِف الناس والجوع فأصبح غنياً.
قاطع الطريق : (ينهض ليغادر) كلامك يا صاحبي غامض مُعمّى لا أفهمه، يجب أن أعود إلى البيت..وداعاً
إبراهيم : (ينهض) تمهل، سأعرض عليك أمراً.
قاطع الطريق : وما هذا الأمر؟
إبراهيم : تذهب معي إلى السوق فأبيع الحطب وأعطيك ثمنه.
قاطع الطريق : لم أكن لأطلب منك ذلك، ولكن لا بأس، أنت رجل طيب وأمرك غريب.
    (يسيران معاً ويخرجان)
     
    المشهد السادس
     
    (لم يعثر إبراهيم في سوق المدينة ولا في أحيائها على تلك الفتاة التي طالعه وجهها بين أشجار القصب، وظل حائراً فيها بين الحقيقة والخيال، وكان ما يشده إليها تكرار دعوتها له للسفر ولقائها، فقرر مغادرة المدينة والارتحال إلى بلدة أخرى وراح يعمل فيها سقاء للماء لعله يطالع في بيوتاتها وجه حبيبته.

*   *   *

فضاء السيكلودراما.

أناس كثيرون رجال ونساء وأطفال يتزاحمون حول نبع ماء ليس بالغزير في منحدر جبل وهم يحملون الأواني والجرار ليملؤوها. مياه النبع سيقت بوساطة أنبوب طويل من مصدر الماء في بطن الجبل إلى ساحة المورد فهو يرسل الماء باستمرار ولكن بشكل ضعيف والناس يحيطون به متزاحمين، يُلمح إبراهيم في الساحة وهو يحمل صفيحتين من الماء.

 بعيداً عن الناس تجلس فتاتان ومعهما جرتان تنتظران أن يخف الزحام لتصلا إلى الماء، إنهما أختان والثانية أكبر من الأولى بسنتين. 

فتاة1 : ألا ننهض ونملأ جرّتينا؟
فتاة2 : مازال الزحام شديدا.
فتاة1 : سينقضي النهار ويفوتنا الماء.
فتاة2 : فليفتنا أفضل من أن ندخل الزحام ويلامسنا الرجال. بعضهم مرضى القلوب يتحرشون بأي فتاة.
فتاة1 : أعرف ذلك، ولكن سيحل الليل، وأبونا شيخ كبير وبحاجة إلى الماء.
فتاة2 : فلننتظر قليلاً وإذا لم ينفضَّ الناس سنعود إلى البيت ونعود في الغد مع الفجر.
    (تراقبان جمهرة الناس وفجأة تنشب صراعات وسباب وشتائم واشتباك في الأيدي حول الدور في الماء. الفتاتان ترعبان وتنهضان)
فتاة2 : هيا ولنعد إلى البيت
    (تخرجان من فضاء الشاشة إلى فضاء المسرح، وتعتم الشاشة)
    *    *    *
    (الفتاتان تدخلان فضاء المسرح وهما تسيران، تتوقفان)
فتاة1 : وهكذا نعود بخفي حنين، أما كان من الأفضل لو حاولنا الحصول على الماء، كان من الممكن أن يفسح لنا الشباب المجال.
فتاة2 : أعرفك، تريدين أن تحتكي بالرجال، كان عيناك متعلقتان الشباب في هذا العرس المائي.
فتاة1 : (ساخرة) هه .. وهل هؤلاء شباب، لم ينظر إلينا أحد منهم، حتى ولم يرموننا بكلمة إعجاب.
    (الفتاتان وقد أحستا بخطوات قادمة، يدخل إبراهيم وكأنه يتبعهما ويريد أن يلحق بالفتاتين وهو يحمل صفيحتين من الماء معلقتين على عارضة خشبية يحملها على كتفيه، كل صفيحة في جهة، كما يفعل السقاؤون الذين يحملون الماء إلى المنازل.
فتاة2 : هل أنت سقاء الحارة أيها الشاب؟
إبراهيم : السقاية ليست مهنتي ولكنها كسب عيش.
فتاة2 : وكيف استطعت أن تحصل على الماء؟
إبراهيم : بعد انتظار طويل ومجهود كبير.
فتاة1 : نحن لم نستطع مزاحمة الناس والحصول على الماء.
فتاة2 : وإلى أين تحمله؟
إبراهيم : هناك أناس يحتاجونه أبيعه لهم.
قتاة2 : نحن نحتاجه، هل تبيعه لنا؟ أبونا شيخ كبير وقد أضرَّ به العطش.
إبراهيم : هو لكما، رأيتكما تجلسان عن بعد وتنتظران فقلت فليكن هذا الماء من نصيبكما.
فتاة1 : أنت شاب جميل وطيب حقاً.
فتاة2 : إذن، فلنذهب إلى الدار، سيفرح أبي كثيراً ويعطيك أجْرَ ما سقيت.
    (يسيرون باتجاه الدار )
    *   *   *
    (أمام الدار إبراهيم ينتظر والفتاتان تخرجان من الدار لتعيدا إليه الصفيحتين الفارغتين)
فتاة2 : انتظر قليلا ليعطيك أبي ثمن الماء.
إبراهيم : الماء كالسماء والهواء لا يباع يا آنسة.
فتاة2 : أقصد أتعابك في الحصول عليه وحمله إلينا.
    (فتاة1 تتظاهر بسقوط عفوي لمنديلها على الأرض فينحني إبراهيم ويلتقطه ويعيده لها، تلمس يده يدها، ويتبادلان النظرات)
فتاة1 : أوه..شكراً (تلاحظ خاتمه) لديك خاتم جميل.
إبراهيم : ولديك يد رقيقة ناعمة.
فتاة2 : (وهي تلاحظ أختها) تأخر أبوك، اذهبي وناديه.
فتاة1 : أنا ذاهبة.
    (تهم بالذهاب فيظهر الأب في الباب وهو عجوز يسير بعكاز)
العجوز : أهلا بك يا ولدي، شكراً لحسن صنيعك.
إبراهيم : لا شكر على واجب، كان الزحام اليومَ شديداً على الماء، وحصلت شجارات عديدة، وكان من الصعب على الفتاتين الحصول على الماء.
العجوز : النبع هذه السنة ضعيف بسب قلة الأمطار.

(العجوز يتملّى وجه الشاب طويلاً)

أنت لست من أهل هذه البلدة، من أين قادم؟

إبراهيم : من بلاد بعيدة في الشرق. أراك تطيل النظر في وجهي.
العجوز : منذ أيام جاءني اثنان قادمان من الشرق البعيد يبحثان عن شاب غادر المملكة ومضى ، وكانا يذْكرانه بكل مهابة وتبجيل واحترام كأنه ملكهم، أعطوني أوصافه وأروني رسماً له، وعلى الرغم من أنني ضعيف النظر إلا أنه يشبهك إلى حد بعيد، غير أنك تلبس ثياب عامل سقّاء وهو في ثياب ملكية.
إبراهيم : لعله من خداع النظر يا سيدي.
العجوز : ربما، نظري ضعيف وذاكرتي ثمانينية، لكنهم قالوا إن في إصبعه خاتماً ثميناً وصفوه لي بدقّة، أرني يدك يا بني (يريه يده) إنه يشبه خاتمك كما وصفوه.
إبراهيم : بالتأكيد لست أنا، فأنا مجرد سقّاء فقير.
العجوز : إيلا غابال* عمل سقاء على بئر وكان إمبراطور روما.
إبراهيم : كان ذلك من قِبَل الدعابة والتظرُّف.
العجوز : فليكن كما قلت لكنه عمِل سقاءً يبيع الماء، ثم إن موسى النبي عمل راعياً وسقاء أيضاً ثم صار نبياً.
إبراهيم : (يشعر بأنه محاصر بالأسئلة) اسمح لي يا سيدي أن أذهب فقد تأخرت.
العجوز : لحظة من فضلك لأعطيك أجر ما سقيت.

(يناوله كيس الدراهم يفتحه إبراهيم ويتناول قطعتين من النقود ويعيده له)

ولكنَّ ما في الكيس هو أجرتك أيها الشاب.

إبراهيم : شكراً لك، هذا كثير، يكفيني درهمين فقط ثمن الخبز. اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا.
    (فتاة1 تهمس في أذن أبيها كلمات فيهز رأسه موافقاً)
العجوز : اسمع أيها الشاب، أنت رجل فاضل وهاتان ابنتاي، أعرض عليك بأن أزوجك إحداهما إن أحببت ولك الاختيار.
إبراهيم : يشرفني ذلك، حفظهما الله، ولكنني على سفر دائم.
العجوز : إذن وداعاً وفي رعاية الله.

(العجوز يدخل مع ابنتيه إلى الدار)

إبراهيم : (يحمل الصفيحتين) آن أن أرحل عن هذه المدينة وقد اشتد الطلب (يخرج)
    (إظلام)
     
    المشهد السابع
     
    (كان إبراهيم يعلم أن أمه هي التي ترسل الرسل للبحث عنه وإعادته إلى المملكة التي بقيت بلا حاكم وكثر فيها الطامعون في الحكم وبخاصة الوزير الذي كان يعلم بنواياه منذ عهد أبيه، ولما رأى أن أمره انكشف، واشتد الطلب،  قرر أن يرحل إلى مدينة أخرى، ولما وصل إليها جلس متعباً وأسند ظهره إلى جدار بستان في ظاهرها ليستريح من تعب الطريق. ومر صاحب البستان فرآه ولما حاوره توسم فيه الخير واستعمله في حراسة البستان والعمل فيه.

*   *   *

فضاء السيكلودراما

بستان فيه أنواع من الأشجار زيتون وأشجار مثمرة ودوالي عنب وأشجار أخرى للزينة وللظل،  تحت إحداها مقعد للراحة وأخرى ثبت في أحد أغصانها أرجوحة للأطفال.

 إبراهيم منهمك في العمل، يعزق التربة حول الأشجار وينظفها من الأعشاب الضارة، يشعر بالتعب، يجلس على المقعد في ظل الشجرة.

تحط حمامة على الشجرة ويسمع من جهتها هاتفاً*.

الهاتف : (صوت تبارك مع الصدى) أنت تقترب مني أكثر، الملوك الذين لا يعيشون معاناة شعوبهم لا يستحقون تاج السلطان. إن تاج السلطان هو الإنسان.
إبراهيم : من ؟ تبارك! إنه صوتك سيدةَ الحَمام.. يا لسعادتي.

(تطير الحمامة وتبتعد)

يا لهذا الطائر المقدس، هذه هي الحمامة التي تحمل إلي الهواتف من تبارك سيدة الحمام.

لقد استرحت قليلاً، يجب أن أعود إلى العمل، لا أدري إن كنت قد وفَّيت صاحب البستان حقه من العمل لقاء أجري.

(يتناول من جانب المقعد بعض الأصص الفارغة التي هيّأها والتي تستنبت فيها المزروعات وأشجار الزينة، يضعها داخل بعضها ليسهل عليه حملها حين انصرافه)

سأحمل هذه الأصص إلى كوخي على جدار البستان لأعمل فيها وأستنبت بعض المزروعات التي يمكن أن أضعها في البستان أو على الشرفة.

يتناول المعزق ويستأنف العمل.

    *   *   *
    (فضاء المسرح

قبيل المغرب إبراهيم أمام الكوخ وقد ملأ بعض الأصص بالتراب وهو يغرس فيها شتلات النباتات الخضر ويسقيها . يسمع عواء كلب جائع، يدخل الكلب وهو يتشمم الأرض، يمسح رأسه بثوب إبراهيم كأنه يطلب شيئاً)

إبراهيم : لا شك أنك جائع، عندي رغيف لإفطاري سأعطيك إياه وأنا أستطيع أن أواصل صيامي يوماً آخر.

(يدخل إلى الكوخ ويحضر رغيف الخبز ، الكلب يتناول الرغيف بفمه ويهز ذيله كأنه يشكره ثم يخرج، ويتابع إبراهيم عمله.

تدخل فتاة في السادسة عشرة تحمل صينية عليها فطائر)

الفتاة : مساء الخير عم إبراهيم.
إبراهيم : مساء الخير يا ابنتي.
الفتاة : نحن جيرانك هناك، وهذه فطائر أرسلتها لك أمي.
إبراهيم : ولكني صائم.
الفتاة : أمي تعرف ذلك فهي تلاحظك كل يوم وقد رأتك اليوم تعطي رغيفك للكلب الجائع فأرسلت لك إفطارك.
إبراهيم : (يتناول الصينية) شكراً يا آنسة.
الفتاة : إنها فطائر من اللحم والجبن، وهذه زجاجة لبن رائب.
إبراهيم : أوه.. هذا كثير، ستفسدون عليَّ حلاوة الجوع.
الفتاة : وهل للجوع حلاوة!؟
إبراهيم : للجوع حلاوة لا يتذوقها إلا المتغرِّبون عن بطونهم.
الفتاة : ولماذا تجوع وتصوم كل يوم . لسنا في رمضان؟
إبراهيم : لأتذكر دائماً أن هناك جياعاً لا يملكون ما يأكلون.
الفتاة : ما هذه التي تغرسها؟
إبراهيم : هذه نبتات أغلبها للزينة، ومنها ما أنقله إلى البستان. أنا أرعاها وعندما تنمو تصبح منظراً جميلاً، أنا أهوى الجمال، والله جميل يحب الجمال.هل تريدين واحدة منها؟
الفتاة : أتمنى ذلك، سأدفع لك ثمنها.
إبراهيم : الجمال لا يباع يا فتاتي، عندي واحدة جاهزة أورقت وأزهرت، وردة جورية سأهديها لك.

(ينهض ويعطيها أصيص الورد)

الفتاة : شكراً لك. ولكن أنا مصرة على أن أدفع لك ثمنها.
إبراهيم : من عاداتنا أن السكبة* بين الجيران تُردُّ بمثلها في الصحن نفسه وأنا ليس لدي ما أرد لكم سكبتكم سوى هذه.

 (يشير إلى أصيص الورد)

الفتاة : آه.. إنها جميلة حقاً. أجمل سكبة.
إبراهيم : أنا أرى الله في كل جميل، أراه في وردة جورية، وأراه في شروق الشمس وغروبها، وأراه في ضياء القمر. وأراه في قطرات المطر وفي الثلج المتراكم على سطوح البيوت والأبواب.
الفتاة : تراه في الطبيعة فقط؟
إبراهيم : أراه أيضاً في عملٍ خيّرٍ أو كلمة طيبة، بل إني أراه في كل مخلوقاته الله، في وجه طفل يلعب، في وجه فتاة جميلة مثلك.
الفتاة : وهل أنا جميلة حقاً؟
إبراهيم : بل أنت رائعة الجمال، وكل ما قد خلق الله جميل، الله جميل ولا يصدر عنه إلا الجمال.
الفتاة : أنت لست من هذا البلد، هل ستبقى هنا طويلاً.
إبراهيم : حتى يأتيني هاتف فأرحل.
الفتاة : هاتف؟ أيُّ هاتف؟ وممن؟
إبراهيم : أوه.. دعك من ذلك، فلهذا قصة طويلة.
لفتاة : لعله من صاحبة هذا الخاتم.. هل أنت خاطب؟
إبراهيم : كلا.. أنت كثيرة الأسئلة.
الفتاة : أريد أن أتعرف على الأشياء بالأسئلة.
إبراهيم : أصبت، هذه هي طريقة جيدة للمعرفة، والأفضل منها السفر في البلاد.
الفتاة : أنا فتاة ولست مثلك أستطيع أن أسافر.
إبراهيم : كنت أريد أن أقول: السفر في البلاد أو في داخل النفس. السفر الداخلي لا يقل أهمية عن الخارجي.
الفتاة : من يسمعك يا عم إبراهيم لا يقول إنك عامل في بستان وإنما فيلسوف.. أنت تقول كلاما لا أفهمه إلا بصعوبة..
إبراهيم : لا عليك..ستكبرين وتتعلمين، وستجيدين أحسن القول. (يناولها الصينية بعد أن يفرِغ الطعام منها) خذي يا آنسة، واشكري لي والدتك.
الفتاة : (تحمل الصينية وتهم بالمغادرة) إفطاراً هنيئاً عم إبراهيم. (تخرج)

(إبراهيم يتابعها وهي تخرج، ترتسم على وجهه بسمة عذبة وهو يشعر براحة  نفسية من حلاوة اللقاء والحوار)

(إظلام)

     
    المشهد الثامن
     
    (تنقَّل إبراهيم من مكان إلى آخر، ومن بلدة إلى بلدة، ومارس أعمالاً عديدة، وكان كلما أحس بأن الرسل تكاد تدركه انتقل إلى مدينة أخرى حتى كف الطلب تماماً، ولكنه لاحظ تغير الناس والأحوال والسلوك  والأشياء كلما أوغل في رحلته هذه، حتى ما عاد يتعرف على جديد ما يراه،  ولم يدرك تفسيراً لذلك، وتساءل: هل هو الوهم أم الحقيقة، وأخذ يحن شوقاً للعودة إلى بلده وإلى أمه التي تركها وحيدة فقد طال السفر. وهكذا .. حتى أقلّه السفر الطويل إلى حاضرة البحر.

*   *   *

فضاء السيكلودراما

على الشاطئ الرملي والبحر هادئ الموج والشمس وقت الأصيل وأشعتها تتلامع بين الأشجار في الغابة الممتدة من ساحل البحر إلى أعالي الجبل المطل، يتوزع بعض المستجمين ومنهم من يتبرَّد في الماء. يُسمع صوت باخرة مما يشير إلى أن الميناء قريب. بعض الشباب والشابات في ثياب البحر وبعضهم يضع السماعات في أذنيه ليستمع إلى الأغاني من هاتفه المحمول، أو يسير وهو يتحدث بالهاتف.

بائع سمك  وقد بسط شبكة الصيد على الأرض وعليها أسماكه التي اصطادها خلال الليل ليبيعها للمنتجعين.

يسير إبراهيم على طول الشاطئ وهو يدفع أمامه عربة صغيرة وفي يده مقشة طويلة الذراع يقوم بتنظيف الشاطئ من بعض الطحالب والأكياس وما يتركه المصطافون وراءهم.

الشمس بدأت تميل إلى الغروب وروّاد الشاطئ يخلون المكان ويبقى الصياد بائع السمك وهو يهم بجمع أسماكه تأهباً للمغادرة، يقترب منه إبراهيم بعربته.

(يخبو ضوء الشاشة تدريجياً)

    *   *   *
    (فضاء المسرح

متابعة للمشهد السابق، الصياد وأسماكه معروضة على الأرض، يبدأ بوضعها في السلة، يقترب منه إبراهيم)

إبراهيم : مساء الخير.
الصياد : مساء الخير.
إبراهيم : هل كان البيع جيداً اليوم؟
الصياد : لا بأس، وما تبقى أبيعه للتجار في سوق السمك بالمدينة. هذا صيد ليلة واحدة، البحر هنا لا يجود كثيراً بالسمك.
إبراهيم : بورك الكسب كسبك أيها الصياد العامل، هذا كسب حلال.

(يتفحص الأسماك)

 خبرتي بالسمك ضعيفة.

الصياد : أنت لست من سكان البحر.
إبراهيم : نعم، جئت من الشرق من بلد بعيد لا بحرَ فيه.

(يمد يده نحو سمكة كبيرة)

الصياد : احذر، أبعد يدك، قد تقضم أصابعك.
إبراهيم : ولكنها هامدة وميتة.
الصياد : هذه سمكة قرش وقد يكون سكونها خادعاً.
إبراهيم : (يبعد يده)، وهذه؟
الصياد : هذه أسماك سردين، طعمها لذيذ، هل تريد شيئاً منها؟
إبراهيم : كلا.. وهذه.. ؟ سمكة جميلة.
الصياد : هذه اسمها سلطان ابراهيم، وهي أفخر أنواع السمك.
إبراهيم : سلطان ابراهيم! ولماذا سميت بذلك؟
الصياد : هناك قصة يتناقلها الناس لعلها أسطورة، والبحارة يسافرون في البحر ويحملون معهم كثيراً من الحكايات.
إبراهيم : ما هذه القصة، شوقتني لسماعها.
الصياد : يروى أنه في قديم الزمان كان هنالك ملك في الشرق تخلى عن مملكته ليلة تنصيبه، لبس لباس الفقراء، وتزهَّد وساح في البلاد يبحث عن محبوبة رآها في المنام، وهم يروون عنه القصص والكرامات، وقد سموا هذا النوع من الأسماك باسمه سلطان ابراهيم تكريماً له.. هه.. الملوك اليوم يلصقون بكرسي الحكم فلا ينزلون عنه إلا بمنشار.
إبراهيم : كل ملك لا يكون عادلا، فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيا فهو والذئب سواء، وكل من ذَلَّ لغير الله ، فهو والكلب سواء.*

 (متفكراً ومتحيّرا) تقول في قديم الزمان..!

الصياد : هكذا يروون الحكاية : كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هنالك ملك اسمه إبراهيم، أصابته لوثة الزهد والتنسك فتزهد ولبس لباس الفقراء وساح في البلاد.
إبراهيم : أيها الصياد الطيب الزهد ليس بلوثة، الزهد أنواع: زهد فرض ، وهو الزهد في الحرام . وزهد سلامة ، وهو : الزهد في الشبهات . وزهد فضل ، وهو : الزهد في الحلال.** 
الصياد : يبدو أنك عالم بهذه الأمور، لعلك زاهد أيضاً.

وكان الناس يروون عن سلطان إبراهيم أنه كان يدعو إلى العمل والجد فيه وإتقانه، ليكون كسباً حلالاً. ولذلك أعرض عن ثروة أبيه الواسعة، وعما كان يصيبه من غنائم الحرب وآثر العيش من كسب يده.

(يصمت ثم يرفع السمكة بيده أمام إبراهيم)

هل تشتريها لا يوجد غيرها، وأراعيك بالسعر؟

إبراهيم : شكراً.. المرء لا يأكل نفسه (الصياد يدهش، وإبراهيم يبتسم) أنا أمزح، اسمي إبراهيم، وليس عندي ما أطبخ به طعاماً كهذه السمكة.
الصياد : (يضع السمكة في السلة) سأعطيك بعض القواقع البحرية مجاناً، تفتح القوقعة وتمتص ما فيها نيئاً..(يتناول واحدة ويمتصها)  إنها لذيذة.. هذه لا تحتاج إلى طبخ ولا إلى نفخ.

(يعطيه كيساً فيه بعض القواقع)

إبراهيم : شكراً.. أنت صياد ماهر وبائع كريم.
الصياد : هو البحر أكبر معلم للجود.
إبراهيم : بالنسبة لي الفقر أجود، أتعلم ماذا أنعم الله على الفقراء والمساكين من النعيم والراحة ، لا يسألهم يوم القيامة عن زكاة ، ولا حج ، ولا صدقة ، ولا صلة رحم ! فلا تغتم، ورزق الله سيأتيك ، نحن -والله- الملوك الأغنياء،*عندما تكون فقيراً فأنت غير مكلّف.
الصياد : أنا لا أحب الفقر، وأهوى أطايب الطعام.
إبراهيم : وهذا أيضا نوع من الطاعة وشكر الله، أطِب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا تصوم النهار. أما بالنسبة لي فإنَّ رغيفاً واحداً من الخبز يكفيني كفاف يومي. الفقر مخزون في السماء، يعدل الشهادة عند الله، لا يعطيه إلا لمن أحبه.
الصياد : منطق غريب، لعلك أنت سلطان ابراهيم نفسه الذي تزهَّد وتنسك.
إبراهيم : دعك من هذا يا رجل ومن أقوال العامة ومعتقداتهم، وعلى الرغم من أن اسمي إبراهيم فهذا مجرد صدفة، وأنا مجرد رجل غريب.
الصياد : ومتى وصلت إلى حاضرة البحر هذه؟
إبراهيم : منذ أيام عِدّة، وقد استأجرَتني البلدية لتنظيف الشاطئ.
الصياد : وهل تنوي الإقامة فيها، إنها مدينة حسنة وأهلها طيبون.
إبراهيم : لا أدري، فأنا على سفر دائم وأنتظر هاتفاً فأرحل.
الصياد : إذا أحببت اصطحبتك معي في ليلة صيد.
إبراهيم : ربما أفعل إذا بقيت هنا، البحر معلم كبير لمن يقرؤه.
الصياد : (ينهي جمع أسماكه في السلة) ليلة سعيدة يا شيخ إبراهيم.
إبراهيم : بوركت ليلتك أيها الصياد الطيب (يسير مبتعداً).

(تخبو الأضواء)

     
    المشهد التاسع
     
    (فضاءا المسرح والشاشة معاً.

على شاطئ البحر، بعد الغروب والليل يزحف في الأفق، وخيوط الظلام تختلط بآخر خيوط الضوء. وتُسمع أصوات تكسر الأمواج على الشاطئ، وظلال الغابة الممتدة حتى أعالي الجبال تعطي منظراً مهيباً وجليلاً.

شاطئ البحر خلا من جميع الرواد، وإبراهيم يجلس وحده على سيف البحر مستغرقاً في تأملاته)

إبراهيم : وكان عرشه على الماء.

يا لهذه الأمواج التي لا تهدأ، وهكذا العاشق لا بد أن يعيش في اضطرام وحركة دائبة باحثاً عن محبوبه.

يا لهذه الظلمة التي تخالط النور في المساء، ويا للنور الذي يخالط الظلمة في تباشير الفجر.

كنت في عماء ثم جاءت تبارك سيدة الزمان فأرشدتني إلى الطريق، وشاقني السفر بين الناس والبلدان والأزمان حتى ما عدت أعرف في أيِّ الأزمان أكون الآن.

لم يكن عرشي الذي كنت سأجلس عليه في مملكتي غير وهم خادع وسراب، ولولا الحب ما اهتديت.

علمتني تبارك أن عرش الإنسان لا يكون إلا على الماء، وأنه لا بد أن أبحر في البحر المحيط من الخليقة لأكون مؤهلاً لاعتلاء العرش الذي هو على الماء.

الماء هو المعرفة والعدل والرحمة والحب والخير والبحث عن الحقيقة.

قالت لي تبارك:

إذا كنت باحثاً عن العدل والحقيقة فعليك أن تعرف الإنسان، وتخالط الإنسان، وتتخلى عن الحياة الرغدة السهلة؛ فالإنسان هو تاج السلطان.

سيدة الأسرار تبارك خرجت من البحر، أزاحت عن وجهها النقاب، ما كان خافياً قد كشف، وبان وجه الإنسان، لا طاغيةَ متجبراً يستطيع أن يطال الأسرار الإنسانية.

شاقني وجه تبارك، ومنذ مدة طويلة لم تواصلني وما أخشاه أن تكون قد شغلت عني بحبيب آخر. وإذا لم تتجلَّ عليَّ الآن وتأذن لي بالعودة فسأظل في حيرة واضطراب، ولن أؤوب من سفري الطويل هذا أبداً.

تبارك

يا شجرة طوبى

أيتها الصنوبرة النحيلة القد

أيتها الحقيقة الجوهرية

هلاّ تطلعين عليّ وتأذنين بالعودة؟

لقد تعبت، وأريد أن أعود إلى وطني

فقد أرمضني السفر الطويل

    (تطلع تبارك من بين الأمواج وظلمة مياه البحر، تحيط بها هالة من النور، تتقدم حتى تطأ قدماها رمال الشاطئ ثم تقف على بعد من إبراهيم)
إبراهيم : آه.. سيدة الأسرار أزاحت عن وجهها النقاب

ما كان خافياً قد كُشف

وها أنت تطلعين من البحر

مليكة الجمال

يا من شفتاها الزهريتان برد سلام

يا من عيناها الساحرتان خمر وكلام

تباركُ الرحمن

لقد وصلت إلى نهاية الطريق فهل تأذنين لي بالعودة.

تبارك : أيها السالك وحده

من حقيقة الله جاءت حقيقة الطريق

والإنسان

في بؤسه ونعمائه

في قوته وضعفه

في حياته وموته

هو الطريق

وها..قد عرفت في رحلتك الإنسان

وآن لك أن تعود

ألق خاتمك في البحر

فخاتمك الذي تتزين به، وشارةُ ملكك

هو الإنسان

أيها السالك في الدرب إلى نفسه

الإنسان هو خاتم الوجود وجوهرة الرحمن

واعلم أن نعمة الله

وسيد الكون

وذروة الخلق

هو الإنسان

    (تعود تبارك إلى البحر راجعة، تسير فيه وتغوص حتى تتلاشى تحت الموج، إبراهيم يراقب المشهد، ثم ينهض، يخلع خاتمه ويقذفه في البحر  ويسير مبتعداً)
    (إظلام)
     
    المشهد العاشر والأخير
     
    (عاد سلطان ابراهيم إلى مملكته بعد أن طال سفره واكتسب المعرفة بالحياة والناس، واطلع على أحوالهم وأفراحهم وأحزانهم، وأصبح مؤهّلاً لأن يكون حاكما عادلاً رحيماً محبوباً يضع في قلبه الله والإنسان، مؤمناً بأن الإنسان هو جوهرة الحق وقرآن الوجود.

عاد فوجد المدينة مسورة بأسوار عالية وبابها مغلق، وعلى الباب صنج كبير ومطرقة وأمام الباب طاولة وكرسي ومصباح لجلوس الحارس ولافتة كتب عليها: الأمن السياسي. نقطة تفتيش الدخول).

*   *   *

إبراهيم : (يتطلع فاحصاً الأسوار والباب)

لا شك أنها مدينتي، عاصمة ملكي، والناس في داخلها محاصرون بهذه الأسوار، وكانت مدينة مفتوحة على الجنائن والرياض، بلا أسوار ولا باب يدخلها القادمون ويخرج منها المغادرون بكل حرية وأمان. (يتفحص الباب) ليس عليه سقّاطة للقرع، لا شك أن من يريد الدخول عليه أن يقرع هذا الصنج بالمطرقة. (يطرق الصنج طرقتين متباعدتين وينتظر أن يفتح الباب) لم يَفتح أحد، سأطرق الثالثة (يطرق، يفتح الباب ويبرز حارس الباب وفي يده حاسب محمول في محفظة.

الحارس : نعم ماذا تريد؟
إبراهيم : أريد الدخول.
الحارس : المدينة مغلقة كما ترى، منع تجول من الرابعة ظهرا وحتى الثامنة صباحاً.
إبراهيم : ولكني وصلت الآن وأريد الدخول.
الحارس : هل أنت من الحمر أم الصفر؟
إبراهيم : لم أفهم.
الحارس : المدينة مقسّمة إلى قسمين: شرقي يسيطر عليه حزب الصفر، وغربي يسيطر عليه حزب الخضر وهذا هو، ولها بابان إن كنت من الصفر تدخل من الباب الآخر.
إبراهيم : وماذا يفعل الحزبان في المدينة؟
الحارس : يتقاتلان، اسمع (تسمع طلقات رصاص وأصوات انفجارات).
إبراهيم : لم تكن هكذا من قبل.
الحارس : ماذا تقصد من قبل؟ منذ خمس عشرة سنة والوضع هكذا، منذ متى لم تزر المدينة؟
إبراهيم : منذ مدة لا أعرف أهي طويلة أم قصيرة، ثم ما هذا الذي أسمعه، هذا ليس صوت صليل السيوف.
الحارس : يا هذا.. في أي عصر أنت تعيش؟ زمن السيوف ولّى، هذا صوت رصاص وقنابل متفجرة، هل أنت مصر على الدخول بعد هذا؟
إبراهيم : أجل.. إنها مدينتي.
    (يجلس الحارس وراء الطاولة ويفتح الحاسب)
الحارس : أعطني اسمك الثلاثي كاملاً.
إبراهيم : ولماذا؟
الحارس : سأضرب “فيشَك” إن كنت معارضاً سياسياً أخذنك إلى السجن، وإن كنت مطلوباً للخدمة العسكرية سقناك إلى جبهة القتال.
إبراهيم : وإذا أردت الدخول من الباب الثاني؟
الحارس : المعاملة نفسها.
إبراهيم : إذن اكتب إبراهيم بن أدهم.
الحارس : (يسجل وينتظر النتيجة) لا يوجد لك اسم عندنا.
إبراهيم : أنا سلطان هذه المدينة لا يوجد لي اسم عندكم! من أنتم بحق الله؟
الحارس : بل من أنت؟ وأين كنت؟ وكيف جئت؟
إبراهيم : أنا هو السلطان إبراهيم، سلطان هذه المدينة، تخليت عن الحكم ليلة تنصيبي ملكاً، ولبست لباس الفقراء لأتعرف على معاناة شعبي وما يحتاج إليه ليعيش حياة حرةً كريمة، وها أنذا قد عدت إلى شعبي ، وأريد أن أرى أمي أيضاً (يتحسس إصبعه) لو كان معي الخاتم الملكي لتعرفتَ عليّ ولكن للأسف رميته في البحر.
الحارس : لم يعد للملوك اليوم خواتم في أصابعهم، بين أصابعهم اليوم جميع محلات الجواهر وحقول النفط والغاز والفوسفات.
إبراهيم : (يشير إلى الحاسب) ما هذا الذي بين يديك؟
الحارس : هذا هو الحاسب، مخزن المعلومات، كأنك قادم من البدو لا تعرف شيئاً، هذا الحاسب الآلي تسأله فيجيب.
إبراهيم : وهل استبدلتم به  سجلات الحكومة ودفاترها وأوراقها الملوّنة.
الحارس : نعم، وتجد كل شيء هنا، عليك فقط أن تسأله فيجيبك.
إبراهيم : يعني مثل الجني..حسن، اسأل جنيك هذا عن السلطان إبراهيم بن أدهم.
الحارس : (لا بأس) سأضعه على محرك البحث (يكتب وينتظر) هذه هو.. السلطان إبراهيم بن أدهم رجل عاش في القرن الثاني للهجرة أي منذ أكثر من ألف ومئتي سنة، تخلى عن الحكم وتزهّد وساح في البلاد وكان يأكل من عمل يده. أما المملكة فقد استولى الوزير الطامع على الحكم فيها بعد رحيله، وحكم البلاد بالحديد والنار، وماتت أم السلطان إبراهيم من الحزن والقهر على ولدها.

قصته تشبه قصتك، كنت أظنك مخرّفاً، إن كنت صادقاً فإنك هو نفسه، فمن أي عصر جئت يا رجل؟

إبراهيم : هذا لا يهم، لقد جئت وكفى، وأريد أن أدخل المدينة.
الحارس : تريد أن تستعيد عرشك. دعك من هذا، انظر ما كتبوا عنك: لقد بنوا لك ضريحاً يزار، ومسجداً سموه باسمك، جامع السلطان إبراهيم، وسموا أفخر أنواع السمك باسمك، سمك سلطان ابراهيم، وهناك شوارع باسمك في أنحاء البلاد، وأقاموا لك تمثالاً في مدخل المدينة. ماذا تريد أكثر من ذلك أيها الغريب (يغلق الحاسب وينهض) عد من حيث أتيت يا رجل، هذا العصر ليس بعصرك.

(يدير له ظهره ويدخل الباب ويغلقه بقوة خلفه)

إبراهيم : (يقف إبراهيم متحيّرا) حقاً.. هذا العصر ليس بعصري.

(تعلو فجأة أصوات اشتباك ناري بالرصاص، تخبو الأنوار في المسرح وتتلامع في فضائه طلقات الرصاص المضيئة الخطاطية.

يقفل إبراهيم عائداً وظهره إلى الجمهور، يعلو قاعدة حجرية في عمق المسرح ويتجمد تحت بقعة ضوء قوية متحولاً إلى تمثال كنصب تذكاري وسط تلامع طلقات الرصاص الكثيفة في فضاء المسرح.

     

– ستارة النهاية –

 

حلب-سورية

 27 صفر 1442

14/10/2020

* إبراهيم بهمزة قطع، في بعض الأماكن أثبتها خلافا لذلك درجاً على ما يلفظه العامة ولضرورة الإلقاء في العبارة المسرحية.

* السانتور كائن خرافي نصفه إنسان ونصفه حصان.

** مثل شعبي

  • من غناء الحماشي البدوي والمعنى: : تحذر الفتاة الفتى من الاقتراب منها، فيقول: إنه لا يستطيع بعد أن رأى نهديها، فتقول: إنها كطائر الحبارى بالحس تهرب، فيقول: وأنا الصقر الذي يصطادك فتقول: إنها حية تحت حجر، فيقول: إنه عراف ابن عراف لديه رقية لقهر السم.
  • والذود : هي المجموعة من الإبل من عشرين فما فوق، وما أقل يقال عنه (نوق) أو (نياق) أو (منايح)

* الأغنية لفيروز شعر وألحان الأخوين رحباني

* سيدة الحمام في الأسطورة هي الأميرة سمير أميس

* امبراطور روما حمصي من العائلة السورية الحاكمة.

* يشكل الحمام في الأساطير هاتفاً لأمر ما مقدساً كبناء معبد.

* السكبة هدايا الطعام بين الجيران.

* من أقوال الزاهد المتصوف إبراهيم بن أدهم.

** من أقوال إبراهيم بن أدهم.

* من أقوال إبراهيم بن أدهم.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock