وجوه مسرحية

يوسف الشاروني يكتب: ألفريد فرج.. ثلاثة وجوه مسرحية


يوسف الشاروني
كاتب مصري

ـ

لألفريد فرج ثلاثة وجوه مسرحية: وجه تنظيري بدا واضحًا في كتابه المكثف (دليل المتفرج الذكي إلى المسرح), ووجه تأريخي أسفر عنه في آخر كتبه وهو (شارع عماد الدين: وحكايات الفن والنجوم) وقبيل مغادرته دنيانا في أوائل ديسمبر 2005, أما الوجه الثالث فهو وجهه الإبداعي الذي أنتج أكثر من ثلاثين مسرحية, وروايتين ومجموعة قصصية وعددًا من الترجمات

عرضت مسرحياته (صوت مصر) (1956), ثم سقوط فرعون (1957 – إخراج حمدي غيث) لمدة 11 يومًا فقط لمعارضتها سلبيات الحكم الناصري وقتئذ, كما كتب مسرحية بعنوان (بالإجماع + 1) وفيها يعرض للاستفتاء: هل توافق على جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية? ويوضح النص المسرحي أن حاكم البلاد يستحق أكثر من الإجماع, فحين أحصوا أصوات الموافقين, وجدوها تزيد صوتًا واحدًا. تلك هي الفكرة التي كانت تقوم عليها حبكة النص. فلا عجب أنه حين فتح النظام أبواب سجونه ومعتقلاته بعد عامين دخلها صاحب (سقوط فرعون) من عام 1959 إلى عام 1964. وفي المعتقل أبدع درته المسرحية (حلاق بغداد) كوميديا خيالية في حكايتين: يوسف وياسمينة, وزينة النساء, حيث كان ممثلوها وجمهورها من المعتقلين, وبعد إطلاق سراحه أخرجها فاروق الدمرداش. بعدها بعام (1965) عُرضت سليمان الحلبي, وفي 1966 عسكر وحرامية, وفي 1967 الزير سالم, وفي 1968 على جناح التبريزي, وتابعه قفة, وقد أوقفها نظام السادات الذي خلف نظام عبدالناصر بعد وفاته. وقد كتب الدكتور محمد عناني في أهرام 8 ديسمبر 2005, أنها تُرجمت إلى الإنجليزية باسم القافلة, وأنها تُدرّس حاليًا بأقسام الأدب المسرحي في معظم أنحاء العالم. وفي 1970 (النار والزيتون) عن المقاومة الفلسطينية بعدما عاش في غور الأردن بين الفلسطينيين بين عامي 68/69. وقد دفعته مصادرة مسرحيته (على جناح التبريزي) إلى الهجرة من مصر – مع من هاجروا من مثقفيها – ليقوم بالتدريس بضع سنوات في الجزائر, وبعدها ما بين العراق والكويت, فباريس فلندن التي أقام فيها سنواته الأخيرة مراوحة بينها وبين القاهرة,التي عاد إليها في الثمانينيات. وأذكر أنني أمضيت معه وقتًا جميلاً ما بين لندن وباريس حين دعاني الدكتور مصطفى بدوي لإلقاء محاضرة عن الدين والرواية المصرية المعاصرة في كلية سانت أنتوني بأكسفورد في مايو 1982, وسافرنا مع زوجتينا في سيارته من لندن إلى باريس عبر المانش عن طريق إحدى العبارات, وأمضينا ساعات لا تُنسى, وهو يقرأ لافتات الطريق الفرنسي قائلاً إن الطريق لا يكف عن الحديث معنا, ونستريح من حين إلى آخر في إحدى الاستراحات المبثوثة على جانبي الطريق والمعدة للطعام والشراب وقضاء الحاجة, وإطعام سيارتنا بالوقود أيضًا. وكان قد أبلغني أن وزارة الداخلية البريطانية, قد عرضت عليه التجنس بالجنسية البريطانية, لكنه اعتذر عن عدم قبول العرض.

في هذه المرحلة الثانية من حياته, كتب ألفريد فرج عددًا من المسرحيات منها (جواز على ورقة طلاق) (1973) ورسائل قاضي إشبيلية (1975) و(الحب لعبة) و(أغنياء وفقراء) (1985), وإن لم يقدمها المسرح, (غراميات عطوة أبو مطوه) (عُرضت عام 1994) و(الشرير والجميلة) (1988), وقد أغمض عينيه بينما كانت آخر مسرحياته (الأميرة والصعلوك) تمثيل وإخراج نور الشريف – تعرض على خشبة المسرح القومي بالقاهرة. وذلك إلى جانب دراما تلفزيونية رائعة هي (بقيق الكسلان) أذكر أنها كانت من تمثيل عبدالمنعم إبراهيم, إلى جانب مسرحياته التي اقترب فيها من عالم الطفولة وخيالها كما في (رحمة وأمير الغابة المسحورة)
وقد قامت هيئة الكتاب بالقاهرة بنشر أعماله الكاملة في عشرة مجلدات, ليس أعماله المسرحية فقط, بل مقالاته وترجماته كذلك. كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة عام 1992, ورأس لجنة المسرح به حتى وفاته وحصل كذلك على جائزة القدس من الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب. وكان صاحب مقال أسبوعي في الصحيفة القاهرية (الأهرام).

وعندما كنت أسأله إلى متى ستستمر في كتابة هذا المقال, كان يجيبني ضاحكًا: إلى أن يقولوا لي كفاية
ويتضح من إبداع ألفريد فرج المسرحي أنه استلهم التراث الفرعوني (كما فعل نجيب محفوظ في رواياته الأولى), ثم انتقل إلى تراث ألف ليلة وليلة السحري, وحكايات التراث العربي أو المسرح العالمي. وهو يعلن مصادره في مقدمات مسرحياته المطبوعة أو نهاياتها بل على المسرح أحيانًا كما كتب في مسرحيته (أغنياء وفقراء ظرفاء), فبعد أن يستمتع الجمهور بالعرض المسرحي يتقدم ممثل بالحديث معلنًا (سيداتي سادتي, عن المخرج فلان الفلاني, عن ألفريد فرج, عن الكاتب الإسباني فينافيتشي, عن بلياتشو مسرح السوق المسمى كوميديا ديلارتي أنه قال…), أما مسرحية (الحب لعبة) فقدمها ألفريد فرج بمقدمة حول المسرح والكوميديا عند العرب أنهاها قائلاً: أقدم لكم كوميديا مصرية أسستها على فكرة المسرح الشعبي الشائعة, سبقني إلى صياغتها الكاتب الفرنسي القديم ماريفو وسماها – كما سميتها – لعبة الحب.

ضد المنع

وفي حديث لألفريد فرج بصحيفة القاهرة بتاريخ 12 ديسمبر 2000, يذكر أن الدكتور طه حسين نصحه بكتابة القصة والرواية وتجنب المسرح قائلا له: (الدرما صدامية وأنت رجل طيب ولن تنجح في الكتابة للمسرح, وقد قرأت لك بعض القصص القصيرة الجيدة, فلا تنتقل من القصة إلى المسرح) لكن ألفريد لم يستمع إلى نصيحة عميد الأدب العربي معلنًا أن النخبة لا يضيرها النقد, والأذكياء لا يضيقون بالمعارضة, لكن المتاعب تأتي من غير هؤلاء, ممن لا يحبون المسرح ويزعجهم وتزعجهم الدعوة إلى التطور
ويعلن في الحديث نفسه أنه حوصر ومُنعت أعماله 14 عامًا من المسرح المصري, وأن الذي كسر هذا المنع هو ما كان يسمى بالمسرح المتجول الذي تعرض للحل بعد أن قدم في عام 1985 أولى مسرحياته بعد الغياب: رسائل قاضي إشبيلية.
وهو يقول: (العدل هو دافعي الأول للكتابة, والعدل هو قوام مسرحياتي, والعدل هو الرسالة التي أحملها للجميع, العدل هو مأربي وهدفي). كما يؤمن أن الكاتب ليس حالة نفسية فردية, لكنه بالأحرى حالة جدلية مع الواقع الذي يعيش فيه.
حبه لشكسبير كان يعادل غرامه بألف ليلة وليلة, لهذا كان نتاجًا مذهلاً من خليط حضارات مختلفة متنوعة قد تصل أحيانًا إلى درجة التناقض, وتتشكل أحيانا كخيوط الحرير. كان مصريًا حتى النخاع, عربي الانتماء, أوربي الفكر والمنهج, استمرارًا حقيقيًا لفكر طه حسين الذي جمع بين حضارة الغرب المترفة وأصالة الشرق العميقة

وإلى جانب مسرحياته وروايتيه: (حكايات الزمن الضائع في قرية مصرية), و(أيام وليالي السندباد), ومجموعتيه القصصيتين: (أيام عربية), ومجموعة قصص قصيرة, وترجماته من الإنجليزية إلى العربية, فقد ترك لنا ألفريد فرج كتابيه المهمين: أولهما في التنظير المسرحي, وثانيهما في التأريخ للحركة المسرحية المصرية منذ نشأتها في نهاية القرن التاسع عشر حتى المسرحية التلفزيونية في النصف الثاني من القرن العشرين
الوجه التنظيري

(دليل المتفرج الذكي إلى المسرح) نشره ألفريد فرج في فترة مبكرة من حياته – كان في السابعة والثلاثين من عمره, وكان قد نشر حوالي ست مسرحيات, مُثلت خمس منها على خشبة المسرح. مما يوضح أنه لم يكتب كتابه التنظيري من فراغ, كما أنه لم يبدع مسرحياته أيضًا من فراغ, مثبتا أن وراء إبداعه ثقافة مسرحية أفادته, وحاول أن يبلورها في هذا الكتاب, وأن يفيد بها جمهوره بمن فيهم من مبدعي المسرح. وهو يعلن في مقدمة كتابه صراحة دافعه إلى نشره هذا الكتاب بأن فن المسرح في بلادنا قد ارتفع أكثر من مرة في عشرات السنين إلى قمم باهرة, لكنه كل مرة لم يكن يمتلك القوة على الاستمرار والنمو…لأنه لم تكن تحيطه أو تحتضنه ثقافة مسرحية شعبية مناسبة, تغذيه بالجمهور وتقوده إلى العبقرية والخلود. كما يعلن في مقدمته أن مراجعه كانت مكتبته وخبرته المسرحية ومتابعته المتحمسة لقضايا الفنانين ومشاكلهم فوق المنصة, محاولاً تبسيط الأمور قدر الطاقة حتى يستوعبها الجمهور العادي ليحب من خلاله فن المسرح

ويتضمن كتابه ثلاثين فصلاً ابتداء من تقديم مفهومه أو تعريفه لفن المسرح إلى شرح وظائف مكونات العملية أو التجربة المسرحية ابتداء من وظيفة الديكور, فالممثل وأدواته, مع استعراض تيارات فن التمثيل مثل فن الضحك, وما يطلق عليه اسم الكوميديا ديلارتي, وهي مسرحيات مرتجلة انتقلت من إيطاليا إلى فرنسا في القرن السادس عشر, ثم سائر أنحاء أوربا الغربية, كان طابعها العام التهريج وارتجال الحوار, أي أن الممثل فوق المنصة يؤلف من الحوار ما يراه مناسبًا للموقف المتفق عليه سلفًا بين الممثلين, ولكل من الشخصيات ملامح الجسم والماكياج لا تتغير, فالعجوز دميم, والمعلم قصير النظر, والخادمة بدينة…إلخ
بعدها يتناول المسرحية وعناصرها, فإذا كان الممثل هو العنصر المادي الحي الوحيد فوق المنصة, فإن النص المسرحي هو الأساس الذي يرتكز عليه كل التكوين الفني الذي يستمتع به المتفرج…هو الهواء والماء لسائر الفنانين المسرحيين, وأهمية الممثل أنه في المسرح كمن رأى لا كمن سمع.

لهذا فإن للحوار المسرحي – إلى جانب الممثل – أهميته. وقد سبق أن ذكرنا أن ألفريد فرج يرى أن كل مسرحية هي التي تحدد لغتها, وأنه لذلك لا يلتزم لغة واحدة, في كل مسرحياته. فالتراجيديا مثلا تختلف لغتها عن الكوميديا, عن الفارس التي تقوم على افتراض كاريكاتوري غير معقول, عن الميلودراما التي تقوم على المبالغة في تصوير الكوارث, التي تحل بالبطل أو البطلة, عن الفودفيل, وهو نوع من الكوميديا, وإن كان أقل مستوى يقوم على سوء التفاهم…إلخ
أما العنصر الثالث بعد الممثل والنص المسرحي, فهو ما يسمّيه بالمواقف التي يجري فيها الحوار, وهو ما يسميه الغربيون الدراما أو الصراع بين غريمين أو عقدتين أو فكرتين أو جيلين, ولا يتحقق بكامل عنفه إلا في ذروة المسرحية وقمتها, ولا يصح أن تفتت هذه التناقضات وحدة الموضوع, فهي أقدس الوحدات الفنية للمسرح إلى اليوم

أما المونولوج فإن النظرة العابرة تغرينا بأنه ليس حوارًا, وبذلك فلا ينطوي على صراع لكل نظرة متأنية تثبت أنه لا يعدو أن يكون حوارًا داخليًا بين وازعين يتنازعان الشخصية. ينطوي على كل صفات الصراع المتصاعد إلى غاية المسرحية النهائية

ثم يعرج على ما يُعرف في المسرح بالحائط الرابع المفترض وجوده حيث يرتفع ستار المسرح عند الخط الفاصل بين أضواء المسرح الأمامية وظلام الصالة, فهو حائط وإن دمره المخرج من ناحية الشكل إلا أنه قائم من ناحية الموضوع. فالممثلون في حدودهم يتحركون والمشاهدون في حدودهم يستقبلون. ولا يفوت ألفريد فرج أن ينبه على أن مسرح بريخت قوض نظرية الإيهام المسرحي القديمة, فنسف الحائط الرابع الفاصل بين المنصة والصالة, بل نسف الكواليس بحوائطها الثلاثة التقليدية التي اجتهدت أجيال طويلة في إحكام ديكوراتها وإثقالها بالتفاصيل والحيل فحقق بذلك أسلوب تمثيل التمثيل. ومما تجدر الإشارة إليه أن ألفريد فرج ينبه إلى أن بريخت استقى مذهبه فيما استقى من مصادر من تقاليد مسرحين شرقيين عظيمين هما المسرح الياباني والمسرح الصيني القديمين

عنصر آخر من عناصر المسرح لا يفوت ألفريد فرج هو شكل المنصة وما دخل عليها من تطورات حرّكتها بعد ثبات, ونسفت حائطها الرابع لدمج الصالة بالمسرح

وإذا كان الممثل سيد المنصة فإن المخرج سيد العمل الفني كله, فما يُقدم على المسرح ليس النص إنما هو فهم المخرج للنص, وهذا ما يفسر إمكان عرض مسرحية واحدة في مسرحين بأوربا بتفسيرين مختلفين جدًا, وكأن إحداهما ليست الأخرى إطلاقا.

الوجه التأريخي

بعد تسعة وثلاثين عامًا من صدور كتاب (دليل المتفرج الذكي إلى المسرح) الذي قدم فيه مفهومه التنظيري للمسرح, نشر كتابه (شارع عماد الدين: حكايات الفن والنجوم) الصادر عن سلسلة كتاب الهلال نفسه يؤرخ فيه لمسار التمثيل في مصر منذ عشرينيات القرن العشرين حتى ظهور المسلسل التلفزيوني في النصف الثاني منه. وواضح أن ألفريد فرج يقدم في هذا الكتاب خلفيته التاريخية التي من خلالها ازدهرت مسرحياته بل الوعي المسرحي ككل, فبازدهار الكل يزدهر الواحد. فبهذا الكتاب يثبت ألفريد فرج أنه لم يكن نبتا شيطانيا بل واحدا من حركة مسرحية ازدهرت في مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, تمتد إلى جذور لم تكن بعيدة عن وعي كتّاب المسرح في منتصف القرن الماضي.
يقول ألفريد فرج في مقدمة كتابه الأخير (في شارع عماد الدين أضاء المسرح بإبداع يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسار, وبموسيقى سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم. وتألقت من النجوم منيرة المهدية والفنانة ملك وروزاليوسف وأمينة رزق وأحمد علام وحسين رياض واستيفان روستي.. إلى آخر عمالقة الفن.. وفي مقاهي عماد الدين دارت حوارات ونشأت خيوط الإبداع)
وفي الفصل الذي خصصه لنجيب الريحاني يقول إنه في سياق الحكاية من سوء الحظ إلى النهاية السعيدة ربما تتغير ملابسه وربما يتغير مكياجه.. لكن لاحظ قبل ذلك تغير شخصيته ونمط الحركة والنبرة, فهو ممثل قدير يسوق الشخصية من حال إلى حال بمهارة الربان
بعد دور الرجل في بواكير المسرح المصري يتناول ألفريد فرج دور المرأة من خلال بحث ألفته د.دينا أحمد أمين في ندوة عن قضايا المسرح المصري حضرها ألفريد في الولايات المتحدة الأمريكية, فذكر منيرة المهدية وفاطمة اليوسف وعزيزة أمير التي انتقلت من المسرح إلى السينما فأنتجت أول فيلم مصري في السينما الصامتة كانت هي بطلته هو فيلم (ليلى) عام 1927. ثم فاطمة رشدي (1908 – 1957) التي لقبتها الصحف بلقب (سارة برنار الشرق) والتقت بالمخرج عزيز عيد الذي دربها على تقنيات التمثيل ثم تزوجها. وكانت تقوم بأدوار الرجال مثل هاملت ومارك أنطونيو في مسرحيتي شكسبير, وقيس في مسرحية أحمد شوقي (مجنون ليلى). ويعلق ألفريد قائلا: وكان هذا التقليد يهدف إلى إثارة دهشة المتفرج فور الاطلاع على الإعلان عن المسرحية فيدفعه إلى معاودة مشاهدتها. وربما كانت هذه الجرأة من قبيل إظهار قدرة الممثلة ومداعبة مشاعر الجمهور. ثم يذكر أمثلة مشابهة في تاريخ المسرح الغربي
ولا يتسع المجال لتناول بقية نجوم تلك الفترة التي عرض لهم أو لهن ألفريد فرج مثل أمينة رزق التي يذكر أنها قدمت في إطار مهرجان الكويت المسرحي الرابع مع سناء يونس ومحمود عبدالغفار والطفل الموهوب ناصر مسرحية الأرنب الأسود التي كتبها عبدالله الطوخي وأخرجها عصام السيد من إنتاج مسرح الطليعة. وكان يرأس المهرجان الفنان والمخرج الكبير فؤاد الشطي
كما يخصص فصلاً ليوسف وهبي الذي أنشأ عام 1923 فرقة رمسيس وأحدث بها هزة في شارع الفن بأسلوبه الجديد الذي كان يختلف عن اللونين الشائعين آنذاك في المسرح الكوميدي الهزلي من جانب والغنائي من جانب آخر.ثم يتناول مسرح توفيق الحكيم الذي كان يوصف بأنه مسرح ذهني ينفر الجمهور منه, بينما هو المسرح الرائج في العالم الغربي في القرن العشرين
ثم يتناول مطرب الملوك والأمراء وفنان الشعب محمد عبدالوهاب ويصفه بأنه أول من التقى بالتكنولوجيا من عمالقة الغناء, وينبه إلى أنه عمد إلى تخليص الغناء من التلميحات الجنسية التي تحرج النساء في محضر الرجال. كما أنه زاوج بين التراث والجديد حين طور الألحان العربية بلمسات من اللون الأوربي في الموسيقى, وأن موسيقاه تنتظم في سياق التحديث في المنهج النقدي لطه حسين وإبداع المسرحية في الشعر العربي لأحمد شوقي, وإبداع فن القصة للدكتور محمد حسين هيكل, واللغة العربية الصحفية المجردة من الزخاف والتكلف والمعبرة تعبيرًا مباشرًا. كما كان من عناصر فلسفته تسجيل الأعمال الروائية في السينما وتحويل التخت الشرقي إلى أوركسترا على النظام العالمي
والحديث عن عبدالوهاب يفضي بالضرورة إلى الحديث عن أم كلثوم فهما ثنائيا القمة الغنائية المصرية بل والعربية إذا أضفنا إليهما فيروز اللبنانية. يقول ألفريد فرج إن أم كلثوم أسهمت في تطوير فن الغناء من الإنشاد بلا موسيقى إلى الغناء في إطار التخت الشرقي إلى الغناء في إطار الأوركسترا وأسهمت – كما فعل عبدالوهاب – في ترقية كلمات الغناء بانتقاء شعر الفصحى الراقي وشعر العامية الرفيع لأحمد رامي وبيرم التونسي. ويحرص ألفريد فرج – عن حق – على الربط بين هذا التوجه وتطورات السياسة والاقتصاد والفن والأدب. ويشير إلى مسلسل (أم كلثوم) الذي أبدعه محفوظ عبدالرحمن للتلفزيون المصري أخيرًا قائلاً إنه نال إعجاب الجمهور لإبرازه الروح العصامية لأم كلثوم, وهي ميزة لاتنفرد بها في عالم الفن والأدب في مصر في القرن العشرين فمثلها طه حسين والعقاد وبيرم التونسي… إلخ
ومن الغناء إلى السينما يحدثنا ألفريد فرج عن كمال سليم أول من حمل الكاميرا إلى الحارة الشعبية حين أنتج فيلم (العزيمة) في ستوديو مصر عام 1938 الذي كان قد أنشأه طلعت حرب عام 1935 وبطلاه حسين صدقي وفاطمة رشدي, ويعلن ألفريد فرج أنه إذا كان فيلم (ليلى) لعزيزة أمير وبدر لاما هو باكورة إنتاج السينما المصرية فإنني أعتبر (العزيمة) شهادة الميلاد للسينما المصرية. وكان يوسف وهبي قد أنشأ قبله ستوديو بمدينة رمسيس في إمبابة على طراز ستوديوهات السينما الصامتة سقفه وجوانبه من الزجاج ليغمره ضوء الشمس
كذلك لا يفوت ألفريد فرج وهو يؤرخ للحركة المسرحية أن يشير إلى بوفيه المسرح ومتعهده كوجه من وجوهها المكملة باعتباره أحد كواليس المسرح وإلا (فأين يذهب المؤلف المصاب بالقلق أثناء تمثيل مسرحيته بعد دخول الجمهور إلى الصالة إلا أن يقصد البوفيه ليعالج القلق ويشرب القهوة). ونجاح أي مسرحية معناه لصاحب البوفيه وعماله كثرة الزبائن والربح, والعكس صحيح أيضًا بينما يحصل المسئولون في الإدارة والفنانون على مرتباتهم وحوافزهم مهما كان الإقبال أو الإعراض
ولا ينسى ألفريد فرج أن يشير في ختام كتابه إلى المهمشين في دنيا المسرح فيفرد فصلاً عمن يسميها أمينة مخزن التأريخ المسرحي (التي لم تنعم بشهرة تخدم المسرح لكنها) أحبت المسرح وجلست على خزائنه وتاريخه وتراثه سنوات طويلة. هي السيدة فوزية الكسار وكانت عندي هي فوزية المسرحية كانت تحتفظ بمخزن في شارع عماد الدين هو أروقة وممرات وأجنحة في كل ناحية منه ملابس عصر أو أزياء حضارة أو أجواء مسرحية بعينها. وقد رأى بعين الفنان (هذه الملابس تمتلئ شخصياتها وتوحي لي وتفتح لي أبواب كل البلاد وكل الأزمنة) بل إن السيدة فوزية كانت تحتفظ في خزائنها بنصوص مسرحية ما بين تاريخية وكوميدية ومترجمة ومستوحاة من ألف ليلة وليلة مصنفة كل منها على حدة. إنها وإن لم تكن في شهرة الممثلات إلا أنها كانت في قامتهن قابضة في يدها على مفاتيح الخزائن المسرحية والتأريخ المسرحي, وإنها كالساحرة احتفظت بكل العمالقة في مخازنها التي اتسعت لهم كمااتسع قمقم سليمان للجني.

حياةٌ عناءٌ, وموتٌ عنا;
فليتَ بَعيدَ حِمامٍ دَنا
يدٌ صفرَتْ, ولَهاةٌ ذوَتْ,
ونفسٌ تمنّتْ, وطَرفٌ رَنا
ومَوقدُ نيرانه في الدجى,
يرومُ سناءً برفع السّنا
(أبو العلاء المعري)

ــــــــــــــــــــــ

مجلة العربي/ 2006


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock