المسرح نيوز ـ القاهرة | متابعات
ـ
هذا الحوار أجراه الإعلامي أحمد جبار غربنشر وتم نشره في طنجة الأدبية يوم 10 – 08 – 2012
نعيد نشر الحوار في موقع المسرح نيوز لأهميته
الفنان عزيز خيون هو أحد فرسان المسرح العراقي الذي صال وجال على خشباته في إعمال خلاقة ومتميزة لاتهملها الذاكرة وقد نال الجوائز والتكريم أينما حل تثمينا لانجازاته الثرة وهو احد رهاناتنا المسرحية للمرحلة المقبلة في التطلع نحو واقع مسرحي أكثر تطورا ومواكبة لحاجات الناس واستيعاب مشكلاتهم بخطاب لغته الجمال والحب والإبداع ..التقيته وهو مثقل بالأفكار والهموم الفنية التي لاتبارح خيالاته وتأملاته من اجل مسرح عراقي معافى يتوق للقمة لإثبات ريادته في الخلق والإبداع في إرجاء المعمورة وقد طرحت عليه سيل من الأسئلة الجدليةاالتي تناقش جوانب مهمة من واقع مسرحنا الحالي اجاب عليها بروح الشفافية والفهم العالي ودقة التصويب في تشخيص مكامن الخلل ومعالجته .
س1) في مسرحنا العراقي هناك خلق متفرّد وإنجاز متصاعد ، رغم البيئة المضطربة ، لمن تعزو ذلك؟
ج) أقول – هكذا أدعي – أن من يعيش جدول حياتنا المتغيّر الفصول ، العنيف الهبوب ، الذي ما أن تضع عواصفه أسلحتها المدمرّة ، التي تقضم ظهر المنجز الحضاري والثقافي لعراقنا المبدع معنىً ومبنى ، تقضم روح العراقي وحلمه الوثاب ، حتى يهبُّ هذا العاصف المجنون ثانية ، ليأتي على ما بُني وعُمرِّ وأزهر .. من يعيش تجربة حياتنا ، عمقها التراجيدي ، لا اعتقد أنه بقادرٍ أن يُثمر شيئاً ، وإن صادف وأثمر ، فلا يمكن لحاصل الثمر هذا أن يكون بقوة وجاذبية ما أسسنا له وربحناه .. لذا فإن ما أنجزه العقل العراقي الخلاق في مجال المسرح ، وعلى مدى عقود من السنين ، ما هو إلا تحصيل لعقل مركب ، ومبدع ، شهد له من شهد منذ أن خاطر عقل ذاك العراقي القديم وخطَّ السطور الأولى ، لأول ظاهرة مسرحية حين أبدع أول ملحمة في الكون ألا وهي “ملحمة كلكامش” .. وبرغم أن عمر المسرح العراقي الحديث قارب القرنين من الزمان ، إلا أن العقل العراقي المبتكر استطاع أن يسير جوار إبداع هاته الظاهرة المسرحية الجديدة .. المسرح ، وأن يقدّم أطروحات هامة كتابة وتمثيلاً وإخراجاً ، نقداً ، وبحثاً برغم تحديات الزمن ، ألاعيبه التي لا تنتهي ، وتغير إيقاعات الظروف من صعب إلى أصعب ، استثني من هذا الحساب الفترات التي تميزّت بهامش من الهدوء.
السبب الآخر في صعود الظاهرة المسرحية في العراق وتطّور ألوانها ، أن هذا الفن وأعني به المسرح قد نما وسط رعاية متميزة من لدن الحركة الوطنية ، حيث كان بمثابة السلاح لها ، تنكبته لإيصال رسائل الكفاح والنضال لتنوير الجماهير العراقية وتثويرها من أجل طرد كل مستعمرٍ وغازٍ .. سبب آخر لهذا التطور والتميّز ، هو أن مركب هاته الظاهرة المسرحية المهمة ، توّفر له وبقصد تحركّه الفاعل نخبة من المسرحيين العراقيين الأفذاذ وضمن فترات مختلفة ، ممن اتخذ من فن المسرح منهجاً وطريقة حياة ، ومنحه من وقته وروحه الكثير كي ينتعش ويُعطي …
لكن العامل الأهم بتقديري في خاصية تطور المسرح العراقي وخارج إرادة الظروف التي يتعرض لها الوطن هي الطبيعة العراقية ، هاته الطبيعة العنيدة المخاطرة والمبتكرة هذا العراقي التوّاق أبداً لإنجاز ما يُثير ويُدهش ويخدم ، العراقي الذي يرفض الإقامة في المناطق المعلومة ، بل هو دائم التحليق والتطواف بحثاً عن موقع قدم غير مأهول يفلح به إبداع وثراء عقله الخلاق..
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت من فن المسرح فناً عراقياً يتطور ، توفرّ الإرادة لتشييد صرحين لدراسة هذا الفن وضمن اشتراطاته العلمية ألا وهما “معهد الفنون الجميلة” و “أكاديمية الفنون الجميلة” والفضاء الآخر لهذا التطور هو دراسة المسرح في الدول التي أشرّ لها الحظ في الاستقرار والأعمار ، فحققّت فيه قفزات نوعية في طريق التطورّ وعلى الصعد كافة .. والذي يضاف لهاته الأسباب مجتمعة سبب لا يقل أهمية ألا وهو وجود فنانين ينطلقون من ثوابت اجتماعية ووطنية خاصة ، وأعراف وتقاليد راسخة ، فنانون تشبثوا بهذه الأرض .. طينها وماءها ، رمادها وذهبها ، جنتها ونارها ، ربيعها وخريفها ، سلمها وحربها ، أقول تشبثوا بهذه الأرض الذهب ، وانطقوها بكل ما هو لافت ومدهش ، دون أن تضيق بهم دائرة الاعتذار أو الشكوى أو يتنازلوا عن شرف المهمة …
هذه الأمور وغيرها ، جعلت من الظاهرة المسرحية في العراق معملاً دائماً لإنتاج الجديد والمتطور ، على الرغم من تحدّيات الدهرّ أنىّ كان لونها …
س2) هل هناك ضرورة ملّحة لمسرحة واقعنا السياسي المرتبك واقتحامه بشكل فنّي من خلال صور مسرحية نقدية مباشرة أو مشفرّة في استخلاص هذه التجربة الوليدة ونقدها وإيجاد الحلول والرؤى والمعالجات البناءة إليها؟
ج) يطيب لي أن أقول أن المسرح مسارح ، ألوان واتجاهات وتجربة تتجدّد ، لا ولن تعرف التوقف والجمود ، وإن حصل وتوقفت ، فهذا يعني نهايةُ الإنسان ، لأن التجربة المسرحية تتطوّر بتحرّك وتطوّر الإنسان ، آلياته ، منظومات عمله ، حاجاته ، تحدياته .. لذا فإن من مميزات هذا اللون الإبداعي قدرته الفذّة في التعامل مع أية ظاهرة إنسانية ، ولكن هناك شرط ينبغي توافره ألا وهو الشرط الإبداعي ، وهذا ما يُميز المسرح عن غيره ، أو هو ما يميز أيّ نشاط فني ، ما أريد قوله أنه من الممكن جداً ، أقول من الممكن ، في حالة تمكّن المسرحي من تأشير الزاوية المحددة للتعامل مع المشكلة السياسية المطروحة وبشكل ينتمي إلى الجمال ،.
أي أن هاته المشكلة في حالة ولوجها بوابة التجربة المسرحية ، كيف يتم التعامل معها نقداً ومعالجة إن أمكن ، أو أن يتم عرضها بطريقة جمالية تنأى بها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي، ودون الدخول في منطقة الحلول ، كأن ينجح المسرحي في توفير حالة الاستفزاز جهة المتلّقي الذي تعب من هذه المشكلة ، وملَّ الدخول في عتمة دهاليزها ، بسبب الفترة الزمنية التي استغرقتها ، والتضحيات الجسام ، المادية والبشرية .. إذن أيّ سحرٍ تمتلك هذه الرؤية المسرحية للمشكلة السياسية المطروحة بحيث أنها قادرة على أن تُدير رقاب الجماهير العريضة صوب ضفتها ، هذا جانب ، الجانب الآخر ويحكم طبيعة المسرح التأملية بقصد استخلاص دروس التجربة وتقديم العِبرة ، أو الدواء الشافي إذا جاز لي التعبير ، فإن المسرح في العادة لا يدخل فضاء المشكلة أيّاً كان نوعها إلا بعد أن تتوّضح آفاقها ، أي أنه لا يقترب منها أبّان صيرورتها المتحركة ومناخاتها المتغيرّة القلقة ، لأن الواقع السياسي وفي المراحل المتأزمة واقع يتحرّك بسرعة ، حتى لا يستطيع الخبر الصحفي ، أو التحقيق التلفازي اللحاق به ، وتقديم الإجابات والفوز بالنتائج ، فكيف الحال بالمسرح .
ثم إن المسرح وفي واحدٍ من تجلياته العديدة يرغب أن يكون فناً خالداً ، لا أن يتعرض لموضوع ما ، يناقشه اليوم وينقضه غداً … ولكن عودة لاستهلال إجابتي من أن المسرح مسارح وهو بحكم كونه فناً حراً ، فأن هذا العنصر التعبيري الفعّال يستطيع أن يدخل المعترك السياسي ضمن رؤية ما تجعله مقبولاً دون أن يقدّم خسارات كبيرة في هذا المجال قد تكلفه الندم لاحقاً ، بحيث أنه من الممكن جداً الاستفادة من لون مسرحي ، سبق وأن انتشر في بعض الدول الأوربية في مرحلة العشرينات والثلاثينات ألا وهو “مسرح الصحف الحيّة” ، وهو تجربة كانت تستفيد مما ينشر من أحداث ووقائع سياسية في الصحف اليومية ، ويتم إعدادها بطريقة ممسرحة ومن ثم طرحها إلى الجمهور .. والعرض يتطوّر بتطور المشكلة صوب التعقيد وصوب الحل ، بحيث يضاف أليه ما يستجد ، ويحذف منه ما يخفت أواره ، ويضعف بريقه …
أما على المستوى الشخصي فأنا لا أُجيز لفن المسرح أن يدخل ميدان مشكلة مازالت في طور الخصومة وعدم الوضوح ، ممكن تتّم الإشارة لهذه المشكلة أو تلك بشكل أو بآخر في أي عمل مسرحي يتناول المشكلات والقضايا الكبرى .. أما إذا توفرنا على تجربة تُناقش المشهد السياسي دون الوقوع في سذاجة التسرّع وبساطة المتداول وفضيحة اليومي ، بل تأخذ بأيدينا جهة الجمال ، فمرحباً بهذه التجربة .. لأن المسرح من شأنه أن لا يغلق الأبواب ، بل يجعلها مشرعة على الدوام ، فتلك مزيته ، وتلك طبيعته الحرّة ..
س3) من أفضل برأيك الشخصي في خلق التأثير الحسّي والذوقي لدى المتّلقي ، المسرح الشعبي أو مسرح النخبة الذي يعتمد النص العربي غير الدراج؟
ج) قد يحتاج الدرس الأكاديمي ، أو المنّظر المسرحي في سعيه لأن يُقرّب الصورة لجمهور المتلقين طلبة وقراء ، أن يلجأ إلى تسميات عديدة وتوصيفات معينة ، ولكن بالنسبة لي كرجل مسرح ، أجد أن الواجب يدفعني لأن أقول أن ليس هناك مسرحاً شعبياً بالرغم من وجوده ، وليس هناك مسرحاً تجارياً ، وليس هناك مسرحاً للنخبة أيضاً على الرغم من وجوده ، إنما هناك مسرح أو لا مسرح .. مسرح ينتمي إلى جمهورية الإبداع ، وينتمي إلى الجمال ، بحيث يستطيع أن يخاطب الإنسان البسيط والمثقف على السواء ، لأنه إذا حدث وأن أخطأت الأذن في استقبال بعض الأشياء ، فأنا لا أشكُ أبداً في طاقة التلّقي العظمى التي تمتلكها العين والروح ، ثم أن وظيفة المسرح وضرورته الاجتماعية هي التعليم والتثقيف المسلفن بالإمتاع والفائدة ، وهذا الهدف الجمالي لا يفرّق في سعيه ونشاطه بين عامة الناس والشريحة المثقفة ، فالتعليم والتثقيف والإمتاع ، حاجة لا حدود لها ، وتهم الجميع .. فالجمهور وبعامة شرائحه ، حتى الأميّة منه يشاهد أفلام على درجة عالية من التعقيد ، ويستطيع أن يتعامل معها ، يفّك مغاليقها ويقيم حواراً معرفياً وجمالياً دون أن يشكو ويتذمر ، ويحصل على المتعة الكاملة ..
إذن يستطيع المسرح الذي أعني وأحدد ، أقول يستطيع هذا المسرح الحديث المتطوّر ، المعاصر ، الباحث ، الممتع ، المثقف ومن خلال صياغاته الجمالية أن يخاطب كل الأذواق مجتمعة بما يبتكره من جمال وسحر .. ثم أن هذا المسرح لا يقتصر في علاقته مع المتلّقي على تحديد واسطة واحدة للقول ، فهو يتوسل اللغة الفصحى في إيصال مراميه وأهدافه ، كما يتوسل اللهجة العامية ، ولغة الإيماءة والإشارة “البانتومايم” على السواء ، والأهم من ذلك هي ليس طبيعة الخطاب ، إنما معناه ، مضمونه وشكل وغنى صياغته .. هذه الأمور وحدها من تستقطب ذائقة المتلّقي صوب العرض المسرحي ، وتفتح مساحات تفاعلاته واستقبالاته ..
من جانب آخر أن المسرح الشعبي ليس هو من ينطق باللهجة الدارجة ، العاميّة بل هو الذي ينطق باللغة الفصحى .. أن من أسباب هاته التسمية أن يسمى المسرح الشعبي شعبياً ، لأن قصصه ، ومضامينه طالعة من عمق الشعب ، معاناته ، حقبه ، معاركه ، أيامه ، حضاراته ، قممه التاريخية. ولهذه الأسباب سمي بالمسرح الشعبي ، لأنه يستثمر تراث الشعب لإبداعه أعمالاً درامية..
تكثيفاً لما أقول أن المهم في التجربة المسرحية ليس لسانها ، دارجاً أم فصيحاً إنما مضمونها والشكل الذي يُعتمد في نحت هذا المضمون وإيصاله إلى المتلّقي دون التفريق بين شريحة وشريحة ، إنما يكون هذا الخطاب وفي سعيه الجمالي الخلاق مستعداً لإرضاء الحاجة المعرفية والذوقية ولعامة الشعب.
س4) ما هي الأعمال التي جسدتها وتعتز بها وتركت بصمة لدى المشاهد؟
ج) كما يعرف الراصد المختص والمتابع أن الأعمال التي يجسدها الممثل ما هي إلا مشاريع يمنحها من روحه ووقته الكثير ، ويترشح من تجاربها المتنوعة العديد من الخبرات والدروس .. وللذاكرة أيضاً حصتها في تمثل لحظة الخيار والفرز ، والمشاريع هي بالتالي محطات لامتحانات متواصلة قاربها القلق حدّ الخوف ، حدّ الهلع ، لأن مواجهة هذا العدد من الوجوه الغارقة في الظلمة وهي تحاصرك بعيونها المترصدّة أنىّ همست ، تكلّمت ، جلست ، وقفت أو تحركت موضعاً أو انتقالاً ، قضية ليس من السهل تجاوزها ، نسيانها أو التساهل معها. لذا وعندما تغريني الرغبة بالحديث عن الأعمال التي سُعدّت بإحيائها ، فأن هذه الأعمال ما تفتأ إلا وأن تفزّ بكلّيتها أمام شاشة ذاكرتي مرّةً واحدة .. فكيف والحالة هذه سيكون الحديث عن بعضها دون كلها ، وأنىّ لي أن اختار ، فإذا تحدثت عن الإذاعة مثلاً فهي رحلة بدأت من العام 1970 حين كنتُ طالباً في السنة الأولى في أكاديمية الفنون الجميلة .. من هذا التاريخ بدأت رحلتي وحتى لحظة الآن ، أنجزت فيها العديد من الأعمال الدرامية على مستوى التمثيل والإخراج ، تمثيليات قصيرة وطويلة ومسلسلات ، ثلاثية وسباعية ، 15 حلقة ، وثلاثين حلقة.. أما المسرح فقد جسدتُ فيه (70) عملاُ مسرحياً ، شخصيات مهمة ، ساهمت في تعليمي وتثقيفي ، وغيرت من رؤية للعلاقات وللكون ، صيرتني إنساناً آخر ..
وعندما أؤشر على البعض منها فأنني لا أنسى شخصية “بانيا توراس” في مسرحية “المسيح يصلب من جديد” هذه الشخصية التي قدمتني إلى الجمهور البغدادي قبل دخولي الأكاديمية .. ثم شخصية “الرجل الشيطان” في مسرحية “مركب بلا صياد” هذه الشخصية منحتني جائزة أفضل ممثل للموسم المسرحي العراقي 1972 – 1973 ، وأنا مازلت طالباً على مقاعد الدراسة ، وهذا الموضوع يعتبر سابقة ، ثم شخصية “أبو العقل” في مسرحية “كان يا ما كان” وشخصية “عمران بن شاهين” في مسرحية “مقامات أبو الورد” ، شخصية “جورج” في مسرحية “كلهم أولادي” وشخصية “المهوال” في مسرحية “حكايات العطش والأرض والناس” وشخصية “الراوي المعاصر” في مسرحية “أبو الطيب المتنبي” وشخصية “قردل” في مسرحية “الناس والحجارة” “فئة المونودراما” وهذه الشخصية منحتني جائزة أفضل ممثل للموسم المسرحي العراقي 1987 ، وشخصية “أبوللو بلاك” في مسرحية “دعوة بريئة للحب”وشخصية “أبو الحسن” في العمل العربي المشترك مسرحية “واقدساه” وشخصية “الأب حسّان” في مسرحية “شجرة العائلة” وهذه الشخصية منحتني جائزة أفضل ممثل لدور ثاني للموسم المسرحي العراقي 1982 ، وشخصية “المجنون” في مسرحية “تقاسيم على نغم النوى” وشخصية “القاضي” في مسرحية “دائرة العشق البغدادية” وهذه الشخصية رشحتني مع ممثلين اثنين لجائزة أفضل ممثل في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي دورة 2010 ، وشخصية “هو” في مسرحية “فوك” وهذه الشخصية منحتني جائزة الإبداع للعام 2000 مقدمة من وزارة الثقافة .. وشخصية “الزوج” في مسرحية “جنون الحمائم”.
وفي معرض ذكرياتي لهاته التجارب المسرحية ، هاته الحياة ، فأني خجلٌ والله عن عدم ذكري لتجارب أخرى عديدة …
أما في التلفزيون وعلى قلّة ما جسدت فيه من شخصيات ، وهذا خارج عن مسؤوليتي ، إلا أن هناك تجارب لشخصيات علمتني كثيراً ، منها شخصية “خباب بن الأرت” في سباعية “صانع السيوف” وشخصيتي في مسلسل “نادية” 30 حلقة ، وشخصية “المختار أبو حميد” في مسلسل “مناوي باشا” 30 حلقة ، وشخصية “العربنجي” في مسلسل “النخلة والجيران” 30 حلقة ، وشخصيتي في مسلسل “إبراهيم طوقان” 30 حلقة ، وشخصيتي في السهرة التلفزيونية “حبيبتي نزاكت” وشخصيتي في العمل المشترك مسلسل “الكبرياء تليق بالفرسان” وشخصية الشاعر “بشار بن برد” في مسلسل “الأصمعي” 30 حلقة ، وهذه الشخصية منحتني جائزة الإبداع للعام 1999 مقدمة من وزارة الثقافة …
أما على صعيد السينما ففي الحقيقة لا أستطيع أن أقول عن نفسي أنني ممثل سينمائي لأنني لم أمنح هذه الفرصة والسبب موّاله طويل ، إنما هي مشاركات بسيطة في خمسة أفلام سينمائية ، لكني أعتزُ بتجسيدي لشخصية “هلال بن علقمه” الفارس الذي قتل القائد الفارسي “رستم” وذلك في الفلم الذي يحمل عنوان “القادسية” على الرغم من الحجم المضغوط التي ظهرت فيه الشخصية على مستوى مساحتها في الفلم ، لأن الذي صورته هو ضعف الذي جاء به الفلم …
في واقع الأمر أنا حاولت أن أجيب على السؤال الذي تفضلت به أي سائلي الكريم لكن ما زالت خيوط روحي مشدودة إلى شخصيات وتجارب أخر إذاعيه ومسرحية وتلفزيونية وحتى سينمائية برغم قلتها .. أود أن أسميها .. فهي حياتي وصعبٌ جداً أن أتخلى عن لحظة منها ، فما بالك إذا كانت هذه اللحظة بحجم تجربة..
س5) أنك تتمّيز بصوت جميل فيه أصالة جنوبية لطالما برعت فيه ، لماذا لم تستثمره بشكل يجعل منه إضافة لعزيز خيون؟
ج) أدركتُ منذ فترة مبكرة أن الصوت الجميل يجعل الحق أكثر وضوحاً .. ونشأتي الأولى قُدّر لها أن تكون حاضنتها بيئة حرّة ، قرية في إحدى قرى قضاء الرفاعي جنوب العراق العزيز مما كان لها الأثر الكبير في تربية صوتي وإطلاق مدياته .. عرفتُ الغناء وأنا صبي ، حين كنتُ أُرافق والدتي الفلاحة يرحمها الله مع جمع من رفيقاتها القرويات في مواسم الحصاد ، وكُنَّ ينجحن في دعوتي للغناء حين يبادرن هن أولاً ومن ثم أتبعهن أنا .. وما هي سوى لحظات حتى أجدني أغني وحيداً وهن يكتفين بمراقبتي بعيون تملأها الدهشة لإجادتي بعض الأطوار الصعبة المنتشرة في تلك المناطق ، هي صعبة على صبٍّي بعمري وتتكرر هاته الحالة حين أدسُ كفي الصغيرة بيد والدتي وهي تصطحبني في الأعياد وفي المناسبات المفرحة.. أو في بعض الليالي ، حين كان خالي ، الشقيق لأمي ، السيد هاشم الموسوي يصطحبني معه لنحرس المحصول بعد أن ينتهي الحصاد ، حين كان بيدر الحنطة أو الشعير سريراً كبير الحجم يقربنا من الخالق .. كنتُ وقتها شديد التعلق بهذا الخال .. ليالي مقمرة ، والسيد يتكأ على بندقيته سارحاً يدندن بصوته البسيط ، يحاول أن يغني لكن محاولته تفشل فيضطر أن يتنازل عن هذه المهمة لطاقتي المتميزة في الغناء …
هكذا بدأت رحلة الصوت معي .. ولما انتقلت إلى فضاء المدينة ، بدأ صوتي يلهج بذكر الله مرتلاً كتابه الكريم عند “الملايه” امرأة كبيرة السن في منطقة “القبلة” جوار مدرسة تحمل الاسم ذاته ، في البصرة العزيزة تُشرفُ على تعليمنا قراءة القرآن الكريم ، قبل دخولي المدرسة الابتدائية ، وغالباً ما كانت حصص التعليم هاته تنتهي بطلب من “الملايه” تدعوني فيه أن أرتّل شيئاً من القرآن الكريم وتقول لي بلهجتها البصرية المحببّة “يُمه عزاوي .. صوتك حلو .. أقرانه حبوّبي”.
بعد ذلك كان لفضاء المدرسة الحافز والدافع المهم في صقل خامة صوتي ، حين وجدتني وعند كل يوم خميس وفي مدرسة صبخة العرب الابتدائية في البصرة انشد الأناشيد الوطنية تحية للعلم وللعراق وطناً للجميع .. ثم يتكرر الأمر في زقاق من أزقة الشواكة في بغداد حيث ينطلق صوتي يرتل القرآن الكريم في الصف الثالث في مدرسة الشيخ صندل الابتدائية ، حين كان معلم القراءة والدين ، المعلم “هادي” طيب الله ذكرهُ ينظم مسابقة تنافسية لترتيل القرآن الكريم ويكون نصيبي من مسلسل هذه المسابقة هو الأول.
وفي مدرسة النجف الحيدرية الابتدائية في النجف الأشرف حين نقل أليها والدي يرحمه الله أبان الثورة التي فجرّها الزعيم عبد الكريم قاسم ، وجدتني رئيساً لفرقة النشيد في المدرسة المذكورة ، أغني للثورة ومفجرّها والعراق الجديد ، أناشيد يكتبها ويلحنها اثنين من معلمي المدرسة ، الأول هو المعلم “مجيد عبد الحميد ناجي” معلم القراءة والعلوم ، والثاني المعلم “خليل إبراهيم الخياط” معلم اللغة الانكليزية.
ويستمر الصوت يرافقني حضوراً وثقافة ، مرتلاً للقرآن الكريم ، وخطيباً في مسابقات الخطابة التي كانت تنظمها مديريات التربية ، ثم قارئاً للأدعية ورافعاً للآذان في شهر رمضان ، في جامع “الأطرش” جوار بيتنا في محلة “الجديدة” في النجف ، وثانية في “جمعية التوجيه الديني” في حيّ الإسكان عندما فاز والدي بحصوله على دار من الزعيم عبد الكريم قاسم ، أقول فاز ، لأن هذه هي المرة الأولى التي ينصفه فيها الزمن ، وينجو من معاناة أزمة السكن التي قضّت مضجعه طوال حياته ، وهذه الدار هي واحدة من مجمعّ سكني تعداده 365 داراً أمر بتشييده الزعيم عبد الكريم قاسم في محافظة النجف الأشرف وعدد من محافظات العراق .. وفي مرحلة دراستي المتوسطة في متوسطة الأحرار في شارع المدينة ، ومتوسطة الكندي في حي السعد في مدينة النجف ومرحلة الثانوية في إعدادية النجف ، اعتليتُ المنبر الحسيني قارئاً “رادوداً” أقود المتجمهرين بأداء قصائد شعرية وباللهجة العامية وبألحان مختلفة تحكي استشهاد “الحسين” “ع” وبعض من عائلته وجميع أصحابه في ملحمة واقعة الطف ، كنتُ التجأ إلى صوتي دون قصد ، بل أشعر به يدعوني وفي مناسبات متعددة أشارك في هذا النشاط أو ذاك.
وأمام الإمكانية الصوتية التي كنت – لازلت – أتمتع بها ، كان العديد من الأصدقاء يشير علي وينصح ، بل ويلح أحياناً ، أن أخوض تجربة الغناء ، لكن بسبب أحكام العائلة المحافظة ، ونزولاً عند الاشتراطات المجتمعية في مدينة النجف الأشرف ، واحتراماً لرغبات والدي “يرحمه الله” الذي كان يجد في اختياري للمسرح وحده شيئاً محرّماً ، وقتها كلفني مغادرة البيت وإلى الأبد ، فكيف يكون الحال أذن حين يشمّر ولده عن ساعد عناده المشاكس ويقفز كل الخطوط الحمر مرةٌ واحدة ويكون مطرباً ..
لهذا السبب وغيره أجلّت هاته الرغبة ، أقول أجلتها ولم ألغيها ، لأنني ترجمتها بعد فترة من الزمن ، حين دعاني الموسيقار العراقي حميد البصري لأكون أحد أعضاء تشكيل غنائي جديد مع ثلاثة آخرين ، معلمتين ومهندس ، التشكيل الذي أشتهر بداية السبعينات بعنوان “جماعة تموز للأغنية الجديدة” وقدمنا من خلال هاته الفرقة عدداً مهماً من الأغاني ، تغنّت بالحب ، لا الحب الخاص ، إنما حب الأرض والوطن والإنسان ، مؤلفها الوحيد هو الشاعر والإعلامي العراقي زهير الدجيلي وكان الغناء جماعي يعتمد إيقاع الدفوف الذي نؤديه نحن ، والألحان والقيادة والعزف على آلة العود للموسيقار حميد البصري ، الذي فتح باب منزله فضاءً لتدريبات الفرقة .. بعدها هبّت رياح السبعينات العاصفة ، فهاجر من هاجر ، وتشبّث بتراب الوطن من تشبّث .. وما أن تشرذم أصدقائي أعضاء هاته الفرقة ، حتى أغلقت صندوق شغفي أن أكون مطرباً وإلى الأبد ، لأسباب لا أريد ذكرها ، لكن الذي عاش قلق السبعينات في العراق وجحيم عقد الثمانينات الحرب مع إيران ودمار وخراب التسعينات ، سيتوصل سريعاً لمعرفة تلك الأسباب.. وأوقفت صوتي فقط لخدمة فن المسرح حين يُطلب مني أداء بعض الشخصيات المسرحية التي يدخل الغناء عنصراً مهماً في تجسيدها وكذلك في بعض الأعمال الإذاعية والتلفزيونية .. وأيضاً لفن الشعر عندما أقدّم قراءتي الدرامية الخاصة لأعمال بعض الشعراء العراقيين والعرب أمثال: بدر شاكر السياب ، سعدي يوسف ، عبد الوهاب البياتي ، حسب الشيخ جعفر ، يوسف الصائغ ، رشدي العامل ، الجواهري ، أدونيس ، محمود درويش ، أبو القاسم الشابي ، ومن الشباب جواد الحطاب ، عبد الرزاق الربيعي ، عدنان الصائغ وحسن عبد الحميد ، وأقدّم هاته الأشعار أداءً وتمثيلاً ترتيلاً وغناءً وفي أكثر من مدينة عراقية وعربية وعالمية ، وهذا النشاط هو جزء من حالة ثقافية أود أن أعممها بين الناس احتفاءً بالشعر والشعراء ..
س6) آخر نشاطاتك المسرحية؟
ج) انشغل بالمسرح تفكيراً ، طموحاً وحلماً ، قراءة وكتابة وبحثاً ، إخراجاً وتمثيلاً ، إقامة وترحالاً وحياة ، انشغل بالمسرح لأنه خياري المميّز منذ أن وطأ قلبي عتبة هذا الفن القضيّة ، وأفرّ إلى فضاء المسرح وطناً ثانياً حين يضيق فضاء الوطن الأم بالقتلة ، والتافهين باللصوص الأراذل وقطاع الطرق .. وتتسّعُ عين حيرتي حين يعجُّ هذا الفضاء المقدّس الأنيق بالفاسدين والمرتشين ، بالجهلة وفقيري الوطنية .. انشغل بالمسرح وسيطاً للعدل والسلام والحرية ، للثقافة والجمال ، لبناء الوطن والإنسان ، ومن أجل المسرح بالحق يرتفع عالياً صوتي ، اختلف من أجل المسرح وأقاتل من أجل المسرح .. قبل فترة انتهيتُ من تجسيد شخصية مهمة في مسرحية “جنون الحمائم” تأليف وإخراج د. عواطف نعيم بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي وعرضت ليومين على خشبة المسرح الوطني ببغداد.
وعلى مستوى الإخراج وبدعوة من المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر قدمت مسرحية “الشاهد” نص فاروق محمد وليومين وبعرضين مختلفين على مسرح قصر الثقافة ، وفي بهو المسرح الوطني الجزائري ، إنتاج وتقديم محترف بغداد المسرحي الذي تشرفت بتأسيسه عام 1998 لتقديم التجارب المسرحية الجديدة كتابة وتمثيلاً وإخراجاً وطريقة عمل ، ومازلت أتشرف بقيادته وتفعيله .. وكلفتني إدارة المهرجان المذكور بقيادة ورشة مسرحية لتطوير الصوت وفن الإلقاء لصالح طلبة المعهد العالي للمسرح في منطقة برج الكيفان استمرت أسبوعاً كاملاً وتمخضت عن نتائج طيبة .. كذلك جسدّتُ شخصية “هو” في مسرحية “أنا في الظلمة أبحث” شاركتني في التجربة د. عواطف نعيم وبهاء خيون العمل تأليف وإخراج د. عواطف نعيم وإنتاج وتقديم محترف بغداد المسرحي بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي ، وقدّم هذا العرض في مدينة “بيجايه” حيث أقيم فيها مهرجان الجزائر الدولي للمسرح .. وشرفني هذا المهرجان أن أقود ورشة لفن التمثيل وتطوير الصوت لعدد من الشابات والشباب وكانت النتائج ممتازة ..
حالياً أنشغل بالتجارب اليومية لتجسيد شخصية “حنّون” في إنتاج مسرحي جديد بعنوان “عربانه” وهي شخصية مسرحية مهمة ، تأليف حامد المالكي وإخراج عماد محمد ، وكذلك بتجسيد شخصية أخرى هامة هي “الصعلوك” في مسرحية “أنا والعذاب وهواك” تأليف وإخراج د. عواطف نعيم ، والعملين من إنتاج وتقديم الفرقة القومية للتمثيل في دائرة المسرح والسينما.
أما على مستوى نشاطي كمخرج ، فأنني مازلتُ أبحث عن مكان يأوي محترفي محترف بغداد المسرحي لكي أواصل تجاربي المسرحية بعد أن قررّت وزارة الثقافة إحالتي على التقاعد ، وهذه هي المرّة الأولى التي أشعرتني أنني موظفاً ، وخلاف ذلك كنتُ – مازلت – أواصل النهار بالليل كدحاً وحركة دون أن أفكر بساعات الدوام الرسمي وأطاريح الوظيفة.
س7) ما هو سرّ اختفاء فرقة المسرح الفني الحديث عن الساحة الفنية؟ هل هناك صراع إبداعي أو إداري بين أعضائها ، أم لأسباب تتلخّص بمعطيات الواقع الراهن وهي التي شكلّت رافداً معطاءً في واقعنا المسرحي؟!
ج) تعتبر فرقة المسرح الفني الحديث فضاءً عراقياً أبدع العديد من التجارب المسرحية اللافتة لمخرجين وكتاب ومصممين ، أساتذة ومن أجيال شبابية متنوعة ، وهي أيضاً أكاديمية مسرحية هامة ، ومفقساً غنياً لطاقات مسرحية عراقية ، شكلّت رافداً أنجد العديد من التشكيلات المسرحية في العراق ، وحديثي هذا لا ينبع من قراءة عابرة أو سماع سريع أو أعجاب أعمى إنما من خلال معايشة حياتية قريبة وممتدة ، على مستوى الصحبة اليومية ، وعلاقة متفاعلة فوق الخشبة أنتجت عملين مسرحيين ، لذا فأن اختفاء هذه الفرقة المسرحية العريقة من الفضاء المسرحي العراقي الفاعل لا يعتبر سرّاً بالنسبة لي ، إنما أسبابه تتوزع وعلى أكثر من جانب .. فمنها اختلافات غير ظاهرة للسطح بين الهرم المشكل لهاته الفرقة ، لكننا نستشعرها ، اختلافات تتعلق بالإنتاج والميزانيات ، والوضع المادي للفرقة ، واختلافات هذا الجانب هي بسيطة وليست دراماتيكية ، لكن البند الأول الذي مهدّ لهذا الاختفاء هو الجسم المعافى الذي يمنح الفرقة الشباب الدائم والحيوية والاستمرار ، وأعني به التخطيط والإدامة والبرمجة وهذا المفصل المهم ضعيف بشكل كبير ، والعجيب أن فرقة مسرحية بهذا الحجم وبهاته الأهمية كانت تعمل دون ستراتيج واضح ، إنما كان جلّ اهتمامها ينصب على تهيئة عدّة النجاة لإنقاذ الموسم الواحد ، أي أنها كيف تكون حاضرة بهذا الموسم ، أما التفكير بمستقبل المواسم اللاحقة ، وتطوير عمل أعضائها فنياً وثقافياً ، فهذا غير موجود ، بل ومتوقف بشكل كلّي. وأحد عيوب القائمين على حياة هاته الفرقة ، وهذا يرتبط بالسبب الذي أسلفته قبل قليل ، أنهم لم يظهروا اهتماماً واضحاً بجيل الشباب ، علماً أن الفرقة هي من الفرق القليلة التي تملك جيلاً محبّاً من الشباب ، الدارس المختص بالمسرح والمتميّز أعضاء ومؤازرين وممّن يحضرون إلى مقر الفرقة وبشكل منتظم ، إنما كانت تضع جلّ اعتمادها على الكادر المتوفر الذي اعتاد الجمهور وجوههم عبر المواسم ، أي أنها لم تغامر بتقديم وجوهاً جديدة إلا في النادر .. فالفرقة لم تفكر ، ولم تسأل نفسها عن الذي يحصل لهؤلاء بعد خمسة عشر عاماً مثلاً أو بعد قليل على الأخص ، لذلك عندما شاخ هذا الجيل بالاستعاضة شاخت الفرقة مبنىً وبقيت معنى.. السبب الآخر هناك سياسة لا أدري كيف مرّت على فناني الفرقة ومجلس إدارتها ، وهم من الفنانين الكبار الذين خبروا الحياة وخبرتهم ، هذه السياسة تمثلّت بمنح الكادر المتميّز بالفرقة فرص عمل يبدو أنها كانت مغرية في فرقة ثانية الفرقة القومية للتمثيل ، فرقة الدولة المركزية، على مستوى التمثيل والإخراج ، وبمرور الزمن أصبح هؤلاء الأعضاء يضعون ساقاً في الفرقة الأم ، والساق الثانية في الفرقة القومية للتمثيل ، وهذا بطبيعة الحال غير ممكن على مستوى الالتزام وتنفيذ شروط العمل ، مما أضعف عمل الفرقة بالكامل …
سبب آخر لا يقل أهمية في ضرورة حياة فرقة عريقة كفرقة المسرح الفني الحديث ، أنها وعبر تاريخها الطويل وإنجازاتها الفنية المعروفة ، وجماهيرها العريضة في العاصمة بغداد وبقية محافظات الوطن ، أقول أمام كل الوضع المتقدم لهاته الفرقة فإنها وللأسف لم تنجح في تشييد مبنىً خاص بها ، مبنىً يستجيب للمتغيرات الحداثوية التي تهّبُ على الظاهرة المسرحية بتحليقات عالية السرعة ، بفعل حاجة الإنسان ، وفهم تطورات العصر ، مبنى يلّبي حاجة الفنان في الخلق والإبداع ، بل اقتنعت هاته الفرقة بالمبنى البسيط جداً جداً ، والآيل للسقوط بفعل قِدمه ، والأنكى من ذلك ، أن هذا المبنى المتهالك ليس ملكاً لها ، بل استأجرته من أحد ملاّك العقارات ، وهذا المالك وعائلته ، دأب أن يهزّ الفرقة بين فترة وأخرى ، ويقلق أمنها بسبب مطالبته المستمرة بإخلاء المكان وتحويله إلى منشأ معماري آخر .. وأمام كل هذا ، ظلت الفرقة تُدمن على الصمت دون أن تفكر بحلول أخرى ، علماً أنه في ذلك التاريخ كانت الحلول المطروحة كثيرة بالنسبة لفرقة تملك عدداً كبيراً من المريدين وأعضاء الشرف إضافة لما تتمتع به من مركز فني مرموق ، على مستوى جودة الأعضاء ، وجودة الناتج ، لكن ضعف الذراع الستراتيجي لدى العقول القائدة لمسيرة الفرقة ، جعل قناعتها تستجيب لما هو آني ومرحلي ، ولم تكلف نظرها التحديق جهة الأبعد ، علماً أن واحدة من مميزات الفنان هو أن يكون مستقبلياً، يخطط ويبرمج ويحذّر ويؤشر ، يستشرف ويستعد ليطوّر ويتطور ، يتحرّك ويُحرّك .. وإذا كانت الأسباب التي أسلفتُها هي التي أوصلت الفرقة إلى الحتمية المتوقعة ، يبقى السبب الأهم بتقديري الذي استفاد من الأسباب التي ذكرت هو الظرف الموضوعي ، الذي كانت فاتحته المتغيرات السياسية ، والنهج السياسي الذي اعتزم أن يسير عليه النظام السابق والذي ابتدأ حلقاته بتدمير الجبهة الوطنية ، وتضييق الخناق على إنتاجات هاته الفرقة ، وتشديد إنشوطة الرقابة على ما تقدمه وما تفكر أن تقدمه ، وتطور الأمر إلى مطاردة أعضاءها الفنانين ، كل هذا أدى أن يرتبك عملها ، ويهرب فنانوها خارج الوطن ، كون غالبيتهم كان من أعضاء وأنصار الحزب الشيوعي العراقي أو قد تعاطف معه ، وتوج الأسباب التي أوردتها سبب آخر جديد هو الأفظع والأشنع وأعني به حرب السنوات الثمانية مع إيران وحربنا مع الكويت وسنوات الحصار ، هذه الأسباب لم تُنهي فرقة المسرح الفني الحديث وحدها ، إنما أنهت كل الفرق المسرحية في العراق.
س8) ألا ترى معي أن الفضاء الإعلامي المفتوح قد حجمّ الإقبال الجماهيري عن المسرح وأقصد هنا الجمهور العريض؟!
ج) المسرح حاجة ، ضرورة ، ابتكره الإنسان ليس طمعاً بهامش المتعة البريئة التي يوفرها بل لأن لهذا المسرح القدرة العجيبة في أن يستضيف أعقد المشكلات على خشبته ليناقشها لا بصورتها الواقعية – هذا الذي يحصل في الغالب – إنما بمقترح فني ينتمي إلى الجمال ، إلى الدهشة ، حلماً باستفزاز الآخرين كي يغيروا من واقعهم الرث المتخلّف .. ومن خلال هاته الخشبة يستطيع المسرح أن يوجه رسائل عديدة صوب الحياة يقلقها ويهزها هزّاً لتعيد النظر بما اعتادت عليه من آليات عمل وأنظمة وعادات مستهلكة .. والمسرح كما هو معروف ، فن الاحتجاج والتمرّد والرفض والثورة ضد كلّ ما هو متخلف وفاسد يتعارض مع قوانين السماء وقيم الأرض في النظر إلى ما يخدم ويقدّس ويشرّف بنيان الله ، الإنسان .. لذا تشبثت به الشعوب الحرة التي خاضت نضالاً صعباً ضد مستعبديها ، وسارقي خيراتها .. وظل المسرح فنٍ يرافق الإنسان في صيرورته المتغيرّة المتطورة على الدوام ، ويستفزّه بالتحرك باتجاه الأجمل ، وبالمقابل أن الإنسان كذلك يمارس هذا الاستفزاز جهة المسرح بما يدفع به نحو التطوّر والتكامل والحداثة .. فنُ المسرح صديق الإنسان حتى في الحالات التي حُورب بها هذا الفن ، إلا أنه ظل حياً يهمس بالوجود والتحريك والتحديث ، بدليل عودته معافاً قوياً ثانية وثالثة ، وطالما أنه ضرورة فلا يمكن لأيّ وسيط منافس أن يحلّ محله ، حتى وأن حاول هذا الوسيط المنافس أن يغازله ، فيستضيفه ، كما يفعل التلفزيون حين يقوم بعرض بعض الأعمال المسرحية ، لكن هذه الآلية المصنوعة لا يمكنها وبأي حال من الأحوال أن تكون بديلاً عن المسرح الحي وهو يستقبل عشاقه ، جمهوره ، ليقيم معهم هذا الحوار الساخن المكهرب وبشكل مباشر …
ثم أن المسرح ليس هو فقط العرض، إنما هو فن الاتحاد وهذه خصيصة من خصائصه الهامة، التي من خلالها يُجمّع هاته الأعداد الكبيرة من البشر ، المتنافرة الأهواء ، المتنوعة الأديان ، المختلفة الألوان والمشارب ، المتعددة القوميات ، يُجمها كلها تحت سقفه الذي بحكمته وسماحته يوحّد الجميع ، كتفاً لكتف ، الواحد يُجاور الآخر ، يحاوره ، حتى دون أن تكون هناك معرفة سابقة .. المسرح فنٌ يوفر فرصة التقارب العظيمة هاته ، فرصة التعارف ، بمعنى أنه لا يمكن لأيّ فضاء إعلامي آخر أن يكون بديلاً عن المسرح ، وهو يوفر أرقى متعة للمتلقي …
وإذا كان هناك من وجود حالة جزرٍ واضحة في ارتياد المسرح ، على المستوى المحلي والعربي وحتى العالمي ، فعلاقة ذلك ليس بعزوف شهية الناس عن فن المسرح ، إنما مرّد هذا العزوف وأسبابه الجوهرية هي مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية صارت تعصف بأمن هذا العالم ، وتحشر جماهيره قسراً في مربعات بيوتهم .. أما فيما يتعلق بنا كعراقيين ، فالقضية تختلف تماماً ، لسبب بسيط جداً ، هو أننا لا نتشابه والخلائق قاطبة .. إذ كيف يكون حال المسرح في بلدٍ لا توجد فيه فرق مسرحية باستثناء فرقة رسمية واحدة ، هي الفرقة القومية للتمثيل ، وهذه الفرقة تعاني من علل كثيرة ، وليس هناك من يريد أن ينتبه ، يتعلم ، أو يرغب بالسماع ، وأيضاً لا توجد في هذا البلد قاعات مسرح مؤثثة بما هو طبيعي ولازم ، استثني عاصمتنا العزيزة بغداد التي باتت موضع حسد من بقية محافظات العراق كونها تحتفظ بوجود مبنى واحد هو المسرح الوطني ، الذي يشمخ غروراً وكبراً ، كونه المبنى الوحيد واليتيم في مدينة عظيمة كبغداد ، بعد أن كانت تنافسه هذا الشرف مبانٍ مسرحية أهم منه بكثير ، أظن أن عبقرية الاحتلال حسبتها مواقع عسكرية ، فاحتلت بعضها وقصفت الآخر .. وحتى مبنى المسرح الوطني ، فهو وقياساً بالصروح المسرحية المتطورة على المستوى العربي والعالمي يعدّ فقيراً ، وعادياً ، وزادته هبّة الأعمار الكاذب فقراً على فقر ، وتسطيحاً وتشويهاً .. لذلك أقول طبيعي ، وطبيعي جداً أن يتراجع المسرح في العراق ويتراجع جمهوره للأسباب التي ثبّتها ، يضاف أليها السبب الأهم ألا وهو موضوع الجانب الأمني ، هدية الاحتلال للشعب العراقي ، فإذا ما عرفنا أن الجمهور يقصد المسرح رغبة منه بالترويح عن نفسه ، بتغيير إيقاع حياته ، سمعه ، بصره ، فكيف تتوفر هذه المتعة والراحة وسط مناخ ، قلق وملتبس فيه للخوف ألف رأس ورأس .. لذلك بات فن المسرح في العراق وكأنه غير موجود .. وتجربتين تزيد أو تنقص ، تعرض خطفاً ليومين أو ثلاثة ، غير كافية لأن تجعلنا نقر بوجود حركة مسرحية ناشطة وجمهور مسرحي متفاعل …
إذن الحديث عن المسرح في العراق ، وعن جمهور المسرح ، لا يدخل ضمن إجابتي عن تعدد الفضاءات الإعلامية وتأثير ذلك على المسرح ، فهو كعينة ، غير صالحة ، ولا يمكن الاعتماد عليها …
ما أخلص أليه ، لأقول: يظل الراديو راديو ، والتلفزيون تلفزيون والسينما سينما .. وسيظل المسرح بفردانية وخصوصية تجربته الفنية ، بسره العجيب وطبيعته التركيبية ، بألوانه المثيرة ، بسحرته وعوالمه الضاجة ، بفتنة الاستقطاب ، وسيطاً خاصاً ومتميزاً للدهشة ولكل ما هو جميل وجليل ، ولن ينازعه شرف هاته المنزلة أيّ فضاء آخر ..
س9) هل المسرح رؤيا فكرية شاملة ، أو رسالة توصيل إبداعية ، أو طرح نقدي لحل إشكالات الإنسان المعاصر في البحث عن الهوية والوجود ، ومواجهة تعقيدات حياتنا بإجابات جمالية ..
ج) لون الإجابة يشّع من خلال توصيفات السؤال ذاته .. فالمسرح رؤيا فلسفية تحاول أن تستجلي المستور والغامض من هذا الوجود ، رؤيا ، تحاول أن توجد لهذا الكون معنى ، نافذة لفهمه ، والتعامل معه ، ولكنها رؤيا تتشح بقفطان من الجمال الآسر ، رؤيا يُشعل أُوارها الكاتب والمخرج والممثل والمصمم والموسيقي ، أو الجماعة التي تتكاتف على فكرة ما وهدف ، ما معناه أن هناك مجموعة من النصوص تشتغل ، تتفاعل، وتتعانق لتكوّن بالتالي هاته الرسالة ، هاته الرؤيا الفلسفية ، الجمالية وتُرسلها إلى المتلّقي .. وهاته الرسالة يجب أن تجملّها شطحات الإبداع وعناصر الإبهار ، أي أن هاته الرسائل ، هاته المقترحات الجمالية التي تحاول أن تنتقد بعض الظواهر السلبية التي يكابدها الفرد والمجتمع ، أو أن توجد بعض الحلول ، أو تؤشر باتجاه ترسيمات معينة وآراء ليست بالضرورة أن تكون نهائية لكنها تريد أن تستفز ، أن تحرّك وتفعّل ، وهي بالتالي ليست خطابات يومية ، جافة فجّة ، تعتمد الماشيتات المتداولة والمقولات الصاروخية التي عافها المتلّقي حدّ اليأس منها ، وإلا سقط فن المسرح أسير فخاخ اليومي والجاهز وفقد جميع مبرراته ، إنما هي خطابات تتخذ من سحر البيان وجمال الأداء وبلاغة التكوين ، وثراء اللون ، وغنى الموسيقى والمؤثر الصوتي ، ولغز الفراغ دعائم جذب ، ثم تأتي بعد ذلك مهارة الخلق لمن يتمكن من مزج عديد هاته النصوص بخليط إبداعي يؤلف منها نسيجاً هو شخصية الرسالة الجمالية أو الخطاب الإبداعي الذي تكتمل دائرة قمره ، ويُزهر بحضور المتلّقي صاحب المصلحة الحقيقية في هذا الخطاب ..
وانطلاقاً من هاته القوة والتأثير الساحر لفن المسرح ، ما ننفكُّ نصرخ لدرجة بُحّت فيها أرواحنا بأهمية وضرورة هذا الفن ، ولزوميّة وجوده غنياً فاعلاً في ظرفنا الصعب ، الذي نعاني ونعيش، هذا الظرف الذئبي الذي جعل من وطننا العراق عربة مشلولة لكثرة ما تنوء به من معضلات وعقد ، أقول عندما نصرُّ ، ونعيد الهتاف بأهمية تفعيل دور المسرح ، والآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى ، فذلك لمعرفتنا الأكيدة بقدرة المسرح وإيماننا بنجاعة ما يمتلكه من وسائل إبداعية جاذبة ، وبما يوفره من اجتماع لجماهير مختلفة ومتنوعة ، أن يردم العديد من بؤر الجفاف والتصحّر في حياتنا ، أن يحقق التسامح والمصالحة بمعانيها السامية ، حياتنا التي تنادت وانقضّت عليها وحوش كاسرة تباينت في ألوانها وحنكة سيناريوهاتها ، لكنها اتفقت على هدف إجرامي واحد هو تدمير المنابع الثّرة لحياتنا ، تشويه خصوصية إنسانها ، وتجفيف خيرات جنّاتها .. نصرُّ على المسرح لأننا نُؤمن به فنّاً مجرباً تنكبتهُ الشعوب التي تعرّضت إلى تغييرات دراماتيكيه في بناها المختلفة ، تنكبته وصفة شافية لعلاج عدد من الظواهر السلبية التي اعترضت مسيرتها الديمقراطية ، بل وشيدّت له الصروح المختلفة والعملاقة لتجليّات معنى الفن الساحر ، ولم تكتفي بهذا ، بل وأوقفت له الميزانيات الطموحة لتنفيذ خططه وبرامجه البعيدة المدى من أجل أن يتحرك ويعمل بطمأنينة وحرية ، لينفّذ كامل أحلامه في الداخل وعلى مستوى الخارج ، وجاءت النتائج باهرة ، وعلى الصعد كافة …
وبسبب الأهمية التاريخية لفن المسرح أقول متى تُصغي لنا الجهات المسؤولة في الدولة والحكومة ، وزارة الثقافة / ودائرة المسرح والسينما وكافة الأذرع التابعة للوزارة المذكورة ، حتى تسرع لإعادة الحياة لعناوين الفرق المسرحية العراقية الخاصة والمعروفة بعراقتها ، إسكانها ومنحها ما تستطيع به أن تنجز برامجها خدمة عامة للوطن والمواطن ، كما ونطالب الدولة والحكومة وفي أعلى مستوياتها أن تتخذ قراراً ملزم التطبيق وبأقصى مدة زمنية ، تعيد به معهد الفنون الجميلة إلى ما كان عليه في السابق ومن أول لحظة تأسيسه ، معهداً مختلطاً حتى تتحقّق الفائدة المرجوّة من وجوده بدعم وتطوير الحركة المسرحية في العراق .. لأن المعهد وبصورته الحالية بعد عزل الشابات في مبنى ، والشباب في مبنى آخر ، معهد نشاز ، لا يشبهنا كعراقيين بناة حضارة لا نعرف العقد ، ودعاة تحضّر ، فلا ندري كيف يتأتى لنا بناء جيل مسرحي يتسلح بالثقافة والثقة ، يأخذ على عاتقه مهمة تطوير وتحديث المسرح في العراق ، والمعهد بالصورة التي ذكرت والتي هو عليها الآن لا يمكنه أن ينهض بواجباته وكل من له علاقة يعي ويعرف أن المسرح فن يقوم على الاندماج على الاتحاد ، على فعل الشراكة في العمل ، على التفاعل المباشر بين الشريك وشريكه ، يقوم على التعاون والعمل الجماعي ، وهو أرقى شكلٍ بين أشكال الأعمال المختلفة ، لإنجاز الواجبات وتحقيق النتائج .. كذلك نطمح ومنذ زمن ، وكررنا هذا النداء كثيراً ، إلى إعمار ما دمرّه الاحتلال الأمريكي من شوامخ مسرحية ،
هي بالتالي ليست ملكاً صرفاً لحكومة ، أو لحزب ، أو زعيم ، إنما هي صروح شُيدّت بأموال الشعب ، إذن هي صروح للشعب ، هي عناوين للثقافة العراقية بكافة ألوانها وأطيافها العزيزة ، صروح أضاءت أيامنا وليالينا بشواهق الفن المسرحي العراقي الرفيع … وعندما نقول بالأعمار فأننا نعني به الأعمار الحقيقي ، وليس كما حصل ويحصل في مبنى المسرح الوطني فالذي يجري الآن تشويهاً وتحريفاً لمعاني المبنى ، وليس إعماراً ، تشويهاً تقوده مجموعة غير مختصة ولا عارفة بتفاصيل وعلم الهندسة المعمارية ، ولا بأهمية وتاريخ مبنى المسرح الوطني كمعلم هام من معالم الثقافة العراقية المعاصرة .. ما نريدهُ إعماراً تنهض بقيادته والأشراف عليه شركات عالمية كبرى مهمتها تشييد المسارح ، شركات تحترم عملها وسمعتها ومن ثم تكون مسؤولة قانونياً أمام لجنة مشهود لها بالاختصاص ، بالأمانة والصدق والنزاهة ، لنربح بالتالي صرحاً عمرانياً ومسرحياً يتوفر على جوانب متقدمة تحقق المتطلبات الفنية والخدمية ، وعنصراً غاية في الأهمية والدقة ألا وهو عنصر الأمان.
س10) هل قدّمتَ أعمالاً رصدت سلبية الواقع السابق باعتباره مرحلة نزفة أجهضت أحلام العراقيين ولو إلى حين؟
ج) فن المسرح ، ولأنه ينشغل بالمحطات المعقدة والهموم والموضوعات الكبرى ، لذا فهو لا يستطيع أن ينفذ بسرعة أو أن تمرّ مشاريعه بيسر وسهولة وفي بلدٍ مثل العراق ، حتى يكون المسرح حاضراً معبّراً ومساهماً .. قد تستطيع أن تنجز مهمة ما تفضلّت به من مضمون سؤالك المقالة أو الأغنية مثلاً ، أو حتى القصيدة واللوحة التشكيلية إذا شاءت أن تدخل مرحلة الصدام في معركة كهذه … فهذه الوسائط الجمالية ، من حيث انفعالها وتفاعلها مع ما يحدث وانطلاقاً من طبيعتها في القول والتعبير تستطيع أن تلحق بالأحداث المتسارعة ، أو حتى يكون لها رأيها فيما يدور حولها ، أما مع المسرح فالقضية مختلفة تماماُ وأجدها معقدة وصعبة ولكن مع ذلك وبرغم كل ذلك فأنا من المسرحيين القلائل الذين استطاعوا أن يكرّسوا فنهم المسرحي قناة فاعلة تعبر عن هموم الناس ومعاناتهم ، وتوقهم للحرية ، والطمأنينة والعدالة والعيش الكريم ، في فترة تعتبر من أعقد الفترات وأدقها في التاريخ العراقي المعاصر ، وهذا الأمر بتقديري ليس منّةً ولا تميزاً ولا حتى بطولة ، فهكذا هو المسرح ، فن الآن ، فن اللحظة .
والمسرحي الذي اختار أن يتخذ من المسرح فضاءً للفن والحياة ، تعبيراً وعملاً وطريقة عيش والتزام في قضايا الناس لابد له أن يكون هكذا ، أن يكون حاضراً ، وإلا فقد أهم خاصية في فنه وهي أن يكون حقيقياً وصادقاً ، وبغير هذا ، وخلاف هذا يمكن لأيّ كان أن يشتغل بالمسرح ، أقول يشتغل ، كما يحصل اليوم في مسرحنا ، ولكن أن يكون مسرحيّاً ، ويفوز بلقب الفنان ، فتلك قضية بعيدة المنال ، حتى وأن كان حاملاً لأعلى الشهادات الأكاديمية في المسرح وعلومه .. نعم في المسرح اليوم المشتغلون كثر ، ولكن هيهات لهم أن يفوزوا بهذا اللقب العظيم ، هذا اللقب الذي يقربّهم وهم يخلصون لعملهم ، يقربهم من منزلة الرسل في دفاعهم ونشرهم لكل القيم الخيرّة التي جاءت بها الديانات السماوية والقوانين الوضعية في النضال ضدّ كل من يحاول تهديم إنسانية الإنسان بنيان الله وروحه على الأرض …
وفي هذا السياق وإخلاصاً لوطني وثقافتي وفنّي ، قدمت أعمالاً كثيرة مخرجاً وممثلاً وما كانت المهمة سهلة ، أبداً ، بل شاقة وعسيرة في الكثير من الأحيان ، البعض من هاته الأعمال اصطادته عيون الرقابة ومنعته من نعمة العرض ، سواء كان هذا المنع في مرحلة التجارب اليومية ، التدريبات ، كما حصل مع نص “أصوات من نجوم بعيدة” من إخراجي وتأليف الكاتب العراقي “صباح عطوان” بعد تدريبات يومية عليه استمرت ما يقارب الشهر ، وكان مقدّراً له أن يقدّم في الحديقة الخارجية لمنتدى المسرح “السابق” على نهر دجلة ، أو مُنعت نصاً أثناء تقديمه من أجل إنتاجه ، كما حصل مع المسرحية الشعرية الهامة “الحر الرياحي” للشاعر العراقي “عبد الرزاق عبد الواحد” وهو من أهم النصوص الشعرية في المسرح الشعري العربي ، وكانت قراءتي لهذا النص قراءة خاصة ..
ونفس الشيء حصل أيضاً مع مسرحية “ألف رحلة ورحلة” نص “فلاح شاكر” عندما قدمته كمشروع من إخراجي إلى نقابة الفنانين العراقيين – المركز العام حيث لم يرّحب به أيضاً من قبل لجنة كانت مسؤولة في النقابة لهذا الغرض ، إلا أن نقيب الفنانين في تلك الفترة ، داود القيسي خالف رأي اللجنة ومنحنا الضوء الأخضر وعلى مسؤوليته الخاصة … أنا الآن أتحدث في أمور تاريخية ، وينبغي عليّ أن أكون أميناً ودقيقاً ، وأن أُسمي الأشياء بأسمائها ، ولا علاقة لي في أمور الأيديولوجيا وخيارات الآخرين ، فهذا شأنهم هم ، لأنني ومثلما أمنح نفسي حرية الاختيار ، ينبغي أن احترم خيارات الآخر وأن كنتُ اختلف معه.. وبالتالي ظهرت مسرحية ألف رحلة ورحلة ، بحلةٍ فاجأت الجميع، بما فيهم الأساتذة أعضاء لجنة النصوص في نقابة الفنانين الذين لم يجيزوا تقديمها ، وساهمت في الدورة الأولى لمهرجان بغداد للمسرح العربي حيث قدّم العرض على مسرح الرشيد، ومن ثم مثل هذا العمل العراق في الدورة الأولى لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي عام 1987 وهذه حكاية أخرى يطول شرحها .. وفي جانب آخر هناك أعمال أنتجتها لي الفرقة القومية للتمثيل وأُنجزت كعروض جاهزة للجمهور لكن الرقابة منعتها بعد العرض الأول مثل مسرحية “الروح الطيبة” إعدادي وإخراجي عن “وليم سارويان” ومسرحية “مطر يُمّه” تأليف “د. عواطف نعيم” عن قصة بعنوان “طيور السماء” للقاص “فهد الأسدي” وإخراجي ومسرحية “أنظر وجه الماء” تأليف “د. عواطف نعيم” وإخراجي. وهناك عمل أنتجه اتحاد الشعراء الشباب هو “لمن الزهور” تأليف الكاتب الراحل “محي الدين زنكنه” ومن إخراجي ، قُدّم في مهرجان بغداد المسرحي الأول عام 1985 والذي كنت واحداً من الذين فكروا وأعدوا وأطلقوا هذا المهرجان ، هذا العمل قدّم ليوم واحد ، وعندما حاولت أن أعيد عرضه ثانية لم أوفّق إلا ليومين فقط ، وبعد أن غيرّت الممثل الرئيسي بممثل آخر … وعلى مستوى التمثيل هناك عرض بعنوان “فوك” تأليف وإخراج “د. عواطف نعيم” لم يكتب له الحظ أن يقدّم سوى أربعة أيام فقط بالرغم من الموقف المساند والمشرّف لمدير المؤسسة العام آنذاك الشاعر “فاروق سلوم” وعمل آخر بعنوان “ليلة غاب القمر” إخراج “أحمد حسن موسى” قُدّم ليوم واحد فقط على مسرح الرشيد..
سؤالك هذا سائلي الكريم يستحق إجابةً أكثر إسهاباً لأهميته في البوح عن فترة كانت صعبة وبكافة حلقاتها ، ومن الجانب الآخر أن ننصف من وقف معنا مشجعاً ومسانداً وحامياً .. إلا أني مضطرٌ لأن أتوقف فأقول:
حاولت بكل ما أملك من عناد وإصرار أن أكون مخلصاً لعملي كرجل مسرح ولعراقي .. وأن أقول الأشياء كما أراها وكما يأمرني خالقي وضميري وعشقي لفني المسرحي ، أن أقدم أعمالاً تنتمي للجمال وللصدق والحقيقة ، وأن لا أُجامل أو أحابي أو أنافق أو أتردد أو أتملق لأي أحد مهما كان حجمه وموقعه ، وأن لا أكون ألا نفسي .. وشاهدي على ما أقول هي أعمالي ، ومن شاهدها ، وكتب عنها ، جمهوراً عاماً ، ومن المختصين بالمسرح على المستوى المحلي والعربي والعالمي .. أن لا أكون إلا نفسي .. كنتُ ومازلتُ وسأبقى ….
س11) هل لازال المركز العراقي للمسرح يمارس دوره في دعم الفرق المسرحية مادياً ومعنوياً؟
ج) بداية المركز العراقي للمسرح منظمة مدنية ، وهو عضو في منظمة مسرحية كبرى هي المركز العالمي للمسرح “ITI” مركزه باريس ، والطبيعة البنيويه للمركز العراقي للمسرح لا تؤهله لأن يدعم الفرق المسرحية مادياً ، وهو في الحقيقة غير قادر أن يعين حتى نفسه ، فكيف بالتالي يستطيع أن ينفتح داعماً تكوينات فنية أخرى .. أما الآن وبمحاولات صعبة استطاع أن يقنع وزارة الثقافة بدعمه مادياً لكي يسدد ما بذمته من ديون مستحقة عليه تأخر الإيفاء بها إلى المركز العالمي للمسرح “ITI” مقابل قبول هذا الآخر بعضويته .. طلبنا مساعدات أخرى لتفعيل المركز كي يستطيع أن ينجز ما عليه من مهام للنهوض بالواقع المريض للحركة المسرحية في العراق ، ولكن دون جدوى .. بوضعه الحالي ، فأن المركز لا يمكنه تقديم أيّ دعم مادي ، أما على مستوى الدعم المعنوي ، فلا أدري ما الذي يستطيع أن يقدمه الدعم المعنوي لفرق مسرحية باتت في عداد المنتهية ، لأن معاناة هذه الفرق كبيرة على مستوى الجانب المادي والبشري ، فرق فقدت مقرّاتها ، وتسرب أعضاؤها ، ومنطوق السؤال الذي تفضلت به يقول: “هل لازال المركز …. الخ” بحيث أن الذي يتأمل السؤال وهو لا يعرف شيئاً عن هذا الموضوع ، سيقفز إلى تصوّره أن المركز العراقي في السابق أي قبل 2003 ، كان يقدّم دعماً مادياً للفرق المسرحية ، والحقيقة أن الذي كان يقدم هذا الدعم هي الحكومة عبر وزارة الثقافة ، والمركز العراقي كان هو من يشرف على توزيع نسب هذه المنح المالية ، وهي منح فقيرة ، ولا تسكت إلا جوانب بسيطة في حياة الفرقة ، لا تتعدى مثلاً إيجار المقر ، وتسديدات أجور الماء والكهرباء .. أي أن هذه المبالغ لا يمكن وبأي شكل من الأشكال أن تحركها فنيّاً.. أنا أتحدث عن المركز العراقي للمسرح بصفتي واحد من أعضاء المكتب التنفيذي، وعلى مقربة من عمل كافة كواليسه .. وحتى في السابق لم يكن لهذا المركز أيّ دور واضح ، إلا من خلال مسابقة للموسم المسرحي العراقي خلال سنة واحدة ، يُشرف عليها ، ويمنح جوائز لأفضل نص ، وأفضل إخراج وأفضل تمثيل ، وأفضل تصميم ديكور ، وأفضل عمل متكامل .. ويسبق هذا النشاط عدد من الاجتماعات مع رؤساء الفرق ، وكذلك كان يقوم بالأشراف المباشر على انتخابات الفرق الأهلية .. أما على صعيد علاقة هذا المركز كعضو بالمركز العالمي للمسرح “ITI” وتفعيل هاته العلاقة لفائدة المسرح في العراق ، على مستوى مشاركة الفنان المسرحي في المهرجانات العالمية ، أو في بعض الورش والمعامل المسرحية التي يقيمها المركز في دولة من الدول الأعضاء بين فترة وأخرى أو في أيٍّ من الأنشطة التي ينظمها المركز العالمي للمسرح ، فلا وجود لشيء من هذا الأمر ، اللهم ألا من خلال مساهمتين على ما أذكر قبل 2003 ، اصطحب فيها رئيس المركز ثلاثة فنانين إلى مناسبة مسرحية أقامها المركز العالمي للمسرح في أسبانيا وفرنسا .. ولا أدري هل كانت أنشطتنا المسرحية في العراق تصل المركز العالمي للمسرح أم لا ، فهذا مما لا أستطيع البتّ فيه .. ثم هناك كتيبات وبعض النشرات التي يصدرّها المركز العالمي للمسرح ، يوثق فيها أنشطته وأنشطة الفروع الأعضاء كنتُ أراها في بعض الدول العربية التي كنت أزورها قبل 2003 ولكني لم أصادف أن السيد رئيس المركز أطلع المسرحين العراقيين على هاته الإصدارات.
والصورة الحالية للمركز العراقي للمسرح أشدّ قتامة من صورة الأمس ، فأننا حتى هذه اللحظة وكما أسلفت قبل قليل ، لا نملك مقراً يليق بنا كمسرحيين عراقيين ، ويناسب أهمية هذا المركز، كما هو حاصل الآن في الدول العربية والعالمية ، ولا حتى دعماً مادياً يحفزّنا أن ننفذ ما نفكر به ، ونخطط له .. وكل ما نجحنا فيه ضمن هذا المسعى هو تحصّلنا على مبلغ قدره عشرة ملايين دينار من وزارة الثقافة بمبادرة أحد الوكلاء ، وبجهود ومتابعة عضوة المكتب د. إقبال نعيم ، أقمنا بهذا المبلغ مؤتمراً مسرحياً استمر ليومين تحت عنوان “مسرح المستقبل – مسرح ما بعد التغيير” ، ناقشنا خلاله أوضاع المسرح في العراق الآن ، دعونا أليه فنانين وأكاديميين وعاملين ومهتمين في المسرح ، وقدمت فيه عشرة بحوث مهمة توجّت بعدد هام من التوصيات هذا شيء جيد لكن طموحتنا أكبر من ذلك بكثير ، انطلاقاً من الواقع الخطير الذي تعانيه الحركة المسرحية في العراق على مستوى المباني ، والحالة المزرية للفرق المسرحية الأهلية ، والوضع المتدّني للفنان المسرحي ذاته.. وجميع هاته الأمور تتطلب بنيّة متحضرّة لهذا المركز ، وتفهماً واضحاً للحكومة ولوزارة الثقافة لأهميته والدور الذي يمكن أن يقوم به للنهوض بواقع الحركة المسرحية في العراق ..
س12) الواقعية الاشتراكية ، أسلوب في الفن أو تيار جمالي فلسفي اختطته بعض الفرق المسرحية في مخاطبة وعي الجمهور من خلال احتضان مشكلات الإنسان العراقي وهمومه والتزام حقوقه والتعبير عنها ، هل وُفقت في ذلك؟
ج) الواقعية الاشتراكية تيار في الأدب والفن ، حاضنته الأولى كان الاتحاد السوفيتي السابق ، وفي المسرح بشّر به وحمسَّ الآخرين له من المخرجين والكتاب المسرحيين “أناتولي لوناتشارسكي” “1785 – 1933” وهذه الواقعية هي بالأحرى واقعية جديدة ، موضوعها الأساس ، الحياة اليومية التي يتفاعل فيها الناس وبالتحديد الحياة التي فجرتها ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 ، وأيضاً الحياة التي سبقتها ، أي الظروف التي بشرّت بهذه الثورة ودفعت بها إلى منطقة التفجرّ والتحقق .. ولما كانت أغلب العروض يرتادها قطاع كبير من طبقة العمال ، إذن كان لابدّ لهاته الأعمال أن تعبّر عن الأفكار الاشتراكية التي يحلمون بها ، أن تتحقق هذه الأفكار على أرض الواقع ، أن يروا فيها مشاكلهم اليومية التي نشأت بفعل الواقع الجديد ، والواقعية الاشتراكية أصبحت منهجاً للأفكار التقدمية في روسيا والدول الأخرى التي سارت في قطار الاشتراكية التي جاءت به ثورة أكتوبر لكنّ النظام الرأسمالي كان وما يزال يناصب الواقعية الاشتراكية العداء ، معتبراً هذا التيار وسيلة دعائية للنظام الاشتراكي التي جاءت به ثورة أكتوبر .. وكان أن هبّت رياح ثورة أكتوبر الاشتراكية على منطقتنا العربية في السياسة والأدب والمسرح ، وصار من الطبيعي أن يتأثر مسرحنا العراقي بهذا التيار ، وكان للفرق المسرحية التي عُرفت بنهجها الوطني التقدمي الدور المميز في هذا الجانب كفرقة المسرح الفني الحديث ، وفرقة المسرح الشعبي ، وفرقة مسرح اليوم ، وفرقة اتحاد الفنانين … أقول هذه الفرق تحديداً لأن أغلب أعضائها كانوا من التقدميين وكانوا إما مناصرين للحزب الشيوعي العراقي أو هم أعضاء فيه .. فالتأثر بتيار الواقعية الاشتراكية وترجمته بأعمال مسرحية عراقية ذات نفس تقدمي واضح ، أعمال تتحدث عن هموم وتطلعات الإنسان العراقي الذي يتوق للحرية والعدالة والديمقراطية سواء بأعمال ذات مرجعية تاريخية قديمة أو قريبة وحتى معاصرة ، من أجل تغذية وعيه وتنويره للدفاع عن حقوقه الشخصية والوطنية ، أمراً كان مؤثراً وواضحاً ، وأعتقد أنه كان لازماً .. فلا يمكن إغفال أعمال يوسف العاني وطه سالم ونور الدين فارس وإبراهيم جلال وقاسم محمد وجعفر علي وعوني كرومي وآخرين وحتى في فترة أخرى أعمالي وبعض أعمال جيلي .. وحصدت هذه التجارب توفيقاً جيداً ، واستطاعت أن تؤثر بوعي الشعب ، بدليل الحضور الجماهيري الواضح لمتابعتها ومن كافة الشرائح الاجتماعية ، لأنها نجحت في أن تخاطب الوعي الجمعي .. من جانب آخر أجد أن استلهام هذا التيار في الأدب والفن كان يختلف من مجتمع إلى آخر ومن دولة إلى أخرى ، وبما يتناسب وسلة الواجبات التي أنتجها هذا المجتمع أو ذاك على طريق بناء مجتمع التقدم والاشتراكية …
ولأننا لا نستطيع أن نعفي أي تجربة فنية وجمالية من مستوى أيديولوجي ما فقد ظلت التجارب المسرحية العراقية وحتى تاريخ لحظة الآن تتأثر بصورة أو بأخرى ، وبنسب تختلف باختلاف منتجي هاته التجارب ، وزاوية النظر التي تتحكم بكيفية تجنيد السبل التي تُتبع لتطبيق هذا التيار في تجارب فنية تريد لنفسها التحرك والتطور المتواصل ، لا الثبات والتحجّر …
ثم أن هذا التيار وبالرغم من خفوت صوته حتى في الأرض التي شهدت ولادته وكذلك في المجتمعات الشرقية التي تبنته ، أي دول أوربا الشرقية ممنّ كانت تتعاطف وبناء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي السابق .. إلا أن ظلاله ما انفكّت تُطّلُ برأسها في هاته التجربة الجمالية أو تلك ، وبنسب متفاوتة …
وبالتأكيد إن العديد من التيارات تولد وتولد معها شرطية وجودها ورؤية تطورها ، وبنفس الوقت أيضاً أحكام زوالها ، فمنها من يغادر ، ومنها من يتشبث لفترة قد تطول ، والبعض الآخر ، يقتنع أن يظل ذكرى .. من منطلق أن الحياة والكون يحكمها قانون الحركة ، قانون الجدل …