الكاتبة والناقدة صفاء البيلي تكتب عن العرض المسرحي “ظل الحكايات”سيكودرامية العبث.. حيث تتحول الحياة إلى كابوسٍ مخيف!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
صفاء البيلي*
شاعرة..كاتبة وباحثة
ـ
فيما يبدو أن مسرح العبث سيظل واحدا من أهم الاتجاهات المسرحية التي سيبقى دورها هاما في المجتمعات المعاصرة وإن كان كتابه يمثلون ندرة ليس في مصر فقط بل في العالم العربي.
فقد ظل العبث هو الشكل الأقرب للجماهير والذي كان بمقدوره التعبير عن واقعهم الاجتماعي المؤلم بكل مشكلاته المتفاقمة عبر ضغوط كبيرة فقدم دراسة نفسية وفكرية لأوروبا الحديثة وانعزالية الإنسان فيها، وفشله في بناء علاقات اجتماعية سوية، حيث صارت المادة هى المقياس الأول والمعيار الأساسي والمحك المعتمد، وعليه.. يحدث أن تضاءل قيم اجتماعية ما وتتلاشي أخرى أو تسود غيرها.. وهو ما يعتبر أمرا طبيعيا خاصة مع تنامي وتعاظم هذا الوجود المادي العنيف بكل بشاعته وتوحشه.
أي شيء إذن يمكنه أن يكون حقيقيا في هذا الواقع العبثي المرعب، المشوب بالأوجاع والمختلط بالجنون؟ أي شيء يمكن أن يكون دافعا للحياة ونحن جميعا نرى الموت يقف على الحافة منتشيا والبذاءة ترفع رايات انتصارها أمام المثل العليا وتدهسها بأحذيتها المتسخة؟
أي شيء يمكن أن يرقف نزيف الزيف بإشارة منه ليكف عن الغوص في دهاليز الوعي الواقع تحت توغل سلطة الجبر القاتل والضياع المتغلغل، فلا مسارات مفتوحة تمنح حلولا أو تشير لفض اشتباكات الواقع/ العرض.. أو كلاهما بوصف كل منهما مرآة/ أصل للآخر.. وتلك هى المعضلة!!
وفي السيكودراما والعلاج بالدراما عادة ما يحدث أن تُستخدم على مستوى الكتابة ثم آليات الأداء من بعد تكنيكات معينة لاستكشاف عالم الشخص الموصوم بالوجع الداخلي الفردي والجماعي بطريقة متعددة الأبعاد لمساعدته في التعبير عن مشاعره المكبوتة مع محاولة اكتشاف وإيجاد طرق جديدة تساعده على التعبير عن المواقف والأحوال التي يرفضها داخليا فتنتفض خارجة منه في صراع مرير بينه وبينه ذواته المتعددة وشخوصه المتكاثرة التي تسببت في تلك الإشكالية و دعمت وضخمت ذلك الكبت!
وفي عمليات العلاج بالدراما يكون التدخل من جانب الدراما النفسية مصمما بقدر دقيق من خلاله تتم مواجهة الأشخاص المصابين بحالتهم التي يوجدون عليها في الواقع ثم مساعدتهم على معرفة مخاوهم ولمسها لاخراج أفضل ما لديهم، فهى استثماركل ما يمور داخل النفس البشرية.
واستخدام العلاج بالسيكودراما يكون ثنائيا أو فرديا أو جماعيا لإخراج الفرد من عزلته النفسية. ويعود الفضل لـ “ليفي مورينو مؤسس” السيكو دراما، الذي أسس أول جمعية لهذا العلاج والتي ما تزال تقدم هذا النوع من العلاج.
سيكودرامية العبث!
ويأتي الجمع بين العالمين/ المنهجين.. بقوة وعمق.. العبث والسيكودراما في العرض المسرحي”ظل الحكايات” والمعروض حاليا على خشبة مسرح الغد بالعجوزة التابع للبيت الفني للمسرح ويديره المخرج الكبير سامح مجاهد الذي يدعم التجارب المغايرة والمميزة.. فنرى تجسيد المنهجين في تضافر وشيج.. لا يكاد أحدهما ينفصل عن الآخر فترى كلا منهما متداخلا في نسيج الآخر فيما يشبه الخيوط المتشابكة كالعاشق والمعشوق!
تساؤلات وجودية!
“منصور” ذلك الظل الذي يدور حول نفسه وحول الآخرين وهو المريض الذي تتمركز حوله أحداث المسرحية ويقوم بتمثيل وقائع حدثت له من أجل إيجاد مشكلة ما.
من أين يبدأ منصور؟ من محطة القطار الخاوية على عروشها من سواه؟ أم من فوق مقعد وحيد في بقعة يغلفها الظلام وتحيطها التواهيم والوحوش وحتى الفراشات في تجاور غريب وغير مبرر بالنسبة لي على الأقل؟ من أين يبدأ منصور الذي أعد العدة للانطلاق لمشاركة صديقه القديم فرحته بليلة زفافه ليجد نفسه مدانا بخيانته مع عروسه.. ذلك الصديق الذي ربما لا وجود له في الواقع ككامل الشخصيات التي تخترقه بحرفية وقسوة وتولد منه لتكبر من خلاله أو تموت ثم تعود كالوحش الكاسر..
من أين يبدأ منصور.. الذي” هو أنت نفسك أيها القاريء للمقال والمشاهد القبلي للعرض” ماذا تفعل حينما تجد نفسك محاصرا في بقعة لا تتعدى السنتيمترات؟ بقعة يدور فيها كل ماضيك وحاضرك ومستقبلك مختلطا ومعجونا بأحلامك وكوابيسك وتواهيٍمك وأمانيك.. بأناس عرفتهم وأخرين لم تعرفهم، يتحول العالم لكابوس مخيف.. وحوش أسطوية وأجساد تحمل وجوها حيوانية وتكوينات مفزعة.. أشخاص موجودون وغير موجودين في ذات الوقت.. كل شيء هو مجسد في وعيك وأمامك وعكسه تماما، كل أمل اقترب منك وطاف حول روحك وضده تماما، احتدام المشاعر واغتراب النفس وتكالب الأفكار والموروثات وتعانق الميثولوجيا مع الأساطير وتكالب العلاقات التي تدافع عنك حينا وتدينك أحيانا..تموج بأرواح طفت من عمق الماضي، ربما هو حاضرك،.. ماضيك القريب، أو ماضيك القدري القديم!
الأنا والآخر.. والذوات المتعددة
مازال “منصور” الهارب من ظلاله التي تخرج من داخله وتحاصره يلهث حين يسأله الصوت المتسارع والضارب في أعماق ذاته مرددا في صداه:
ـ من أنت؟
فيجيب منصور في لحظة حالكة، في محاولة لاستنطاق كل زاوية في روحه المكللة بالتواهيم وصنوف الألم ليرد:
أنا ابن هذه اللحظة المرتبكة/ انا من يقف على رصيف الحياة في انتظار ان يحدث شئ../ أنا الذي بلا ذاكرة ../ كل أحلامي مؤجلة/ لقد أصبحت طريد الأحلام والكوابيس!
ذلك الـ “منصور” وظلاله وهمومه هو أنا وأنت وكل فرد في عالمنا العربي والذي يعيش ظروفا عبثية تصيبه بالأزمات سواء كانت داخل بيته أونفسه أوعائلته.
الكتابة.. و محايلة الحكاية!
ما يؤكد كلامنا السابق بعض ما جاء على غلاف بانفلت العرض الذي لخص الكاتب المسرحي الكبير إبراهيم الحسيني حالة بطله المأزوم من خلاله قائلا:
” الرحلة هنا خرافية تتخذ من هذا العالم وما ينتجه من حكايات وأسئلة رفيقاً لها ولشخصياتها التي تتحرك كأطياف وتخفي أفكارها كأشباح… كل ذلك يـُـقدم نفسه كظلال بدايتها ونهايتها يـُـحددها قارئها ومشاهدها فهو وحده المسئول عنها.”
وقد استطاع الحسيني صياغة عالم بطله الكابوسي المزدحم بالمتضادات؛ الموت / الحياة الخوف / الطمأنية، الوجود/ العدم، الحب/ الكراهية، الانتماء / الضياع، التحقق/ الفشل.. وعمد في رسم شخصية بطله بهذا الشكل المتنامي ليصنع منه جذرا مغروسا في عمق الأرض ومع كل تذكر وتأسي وحكي، وقص تنبت له أفرع جديدة.. فرع يمثل الأصدقاء، وفرع يمثل الأب،آخر يمثل السلطة، وغيره يمثل مجموعة القيم والأخلاق، وغيره يمثل العالم الغيبوبي الذي يهاجمه في لحظات غيابه، وآخر يمثل وجوده وآماله وأمانيه والنقطة المضيئة في حياته.
إن بناء الشخصية الرئيسية في هذا العمل أشبه ببناء النص المونودرامي الذي تخرج من ثنايا بطله شخصياته المتعددة لتشارك في فعل الحدث وتؤثر فيه وتتأثر، تهاجم وتتراجع، تقدم وتتفاعس، تقاوم بضمير أبيض وتقتل بدم بارد؛ تقتل نفسها بنفسها، تثتل ماضيها، أو تلك السلطة الأبوية التي تتسلط في غشم تارة وفي رجاء تارة.. إنه بطل مأزوم.. ليس قاتلا فقط.. بل مقتولا كذلك.
في واقع الأمر وكما ذكرت في بداية المقال أن المسرح العبثي قلما لجأ إليه كاتب ليعبر عن أفكاره، ربما لأن المنتج في ذلك الوقت ربما يحتاج متلقيا خاصا، متلق يستطيع التفكير والتفسير والتبرير ، متلقي مثقف أو متألم يستطيع قراءة ما يراه من الموروث والميثولوجيا اليونانية الموجودة في النص ـ الاسقاط الدرامي ـ الذي استعان به الكاتب من ضمن ما جاء به في لحظات الغيوم الفكرية والوحوش الأسطورية وتتابع الحكي على عدة مستويات باستخدام حيل التداخل الدرامي والفكري.. في حين يظل البطل يجاهر نفسه ونحن ومن يبارزه بضرورة”محايلة الحكاية” حتى ترضى .. أي محايلة الحياة والانفتاح عليها والتعامل معها بالبصيرة طالما كان البصر كليلا بسبب القسوة المتجذرة في كل شيء.. طالما يمشي مترجلا في رحلة صراع متنامية لا تنتهي إلا بموته .. ونشك!
الأشعار المغناة.. والألحان:
قيمة الأشعار المغناة التي تصاحب العروض المسرحية تنبع من كونها تتمم البناء الدرامي من عدمه.. وهنا لأن كاتب النص نفسه هو الشاعر.. فقد كان خبيرا بمواظن البوح الذي يستشعر أن يكون مموسقا..
ومعبرا عن لحظة درامية ربما تفتح مناطق للأداء والتنامي الدرامي، أو تنغلق بها مناطق بوحية.. فها هى كلمات الأوفرتير وهو في أول لحظات انتظاره بالمحطة وحيدا:
“ليلة شتا ، بره المطر لساه بيرقص رقصته/ دي زفته ومحطته، والريح مهاود مشيته/ ولما إكتئابنا يزيد ويقسم ضهرنا بيغلنا ويذلنا / ضاقت دوايرنا ودرنا وخدنا غصب ف سكته”
وها هو حين قدمت سلمى تعاتبه ثم مضت حانقة عليه لعدم قدرته على القبض على حلمهما وتحقيقه:
“مابين الربكة والربكة بعيش وباكون/ وبرسم دنيتي بالورد واملا الكون/ وبتكعبل ف حلمي واروح فتافيت/ أنا الممسوس/ وأنا المفتون / وأنا برضه إللي جوه الكابوس مسجون” .
كانت الأشعار بدور داعم ومؤازر في إثراء الععرض وعلى الرغم من النزعة الاكتئابية واجترار الألم التي تموج بها إلا أنها كانت موفقة خصوصا وأن الألحان جاءت موفقة تماما باستخدام الملحن تيمات لحنية شجية هادئة تعبر بشدة عن مكنون تلك الكلمات المعبرة.. وتأكيد على التأليف الموسيقي والابتعاد عن النقل والتقليدمما أعطى للعرض خصوصية وأناقة.
السينوغرافيا.. الصورة البصرية..
شاشة البريجكتور التي تحتل صدارة المسرح يستقر في عمقها صورة القطار الذي يسير فتشعر أنه سيدوسك كما سيدوس كل الموجودين فتفكر هل هذا المشهد حقيقي فتهرب..أم أنه .. والصورة على اليمين التي تمثل تكأة العرض فالبطل طوال العرض يسعى لقتل الأب / الرمز ..
ومن خلال شيوع اللون الأسود وتموجات الفسفور والشرائط اللامعة والنازلة من أعلى لأسفل على مساحات التلقي وتنوعات الإضاءة بدرجاتها من السطوع للخفوت للإظلام.. منحت للعرض أبعاده النفسية الكابوسية.. فاللون الأسود أعطى إيحاء بالقتامة وأدخل المتلقي في الحالة المرادة.. علاوة على الأبواب العديدة المغلقة وتفضي إلى كل الاتجاهات..
الاستعانة بتعدد مستويات العرض الجزء الأمامي والذي يحتله البطل ولا يحتله سوى رأس لوحش أو سمكة قرش، مقعد صغير حقيبة فارغةإلا من بعض الملابس،سجادة حمراء تشغل وسط المسرح ومساحات والجزء الخلفي الذي تفصله ستائر شفافة تدور من ورائها الكثير من الأحداث الغائمة وكأنما يعني هذا الجزء بالذات ما يدور في منطقة الخيال أو الباطن أو الداخل أو المتوهم.
مع كل هذا الضغط النفسي لا أرى مكانا للفراشات الفسفورية التي كانت تزقزق أحيانا مخلخلة لكثافة الحالة الشعورية للعرض، وأرى إن كان ولابد من وجودها.. إحداث حالة تصارع ما بينها وبين الوحش ومحاولة البطل الزود عنها على أساس أنها نقطة مضيئة وبريئة في ذلك العالم التعس.
كما جاءت الأقنعة والماسكات للفنان فتحي مرزوق وكذلك والملابس معبرة عن روح الحكايا والظلال المتداخلة.. فأعطت ثراء مع غرائبيتها.. وأثرت الصورة البصرية وخفت من حدة الأسود.
الرؤية الإخراجية.. ثنائية النص والعرض:
إنني أومن أن الكاتب هو مؤلف النص لا شك في هذا.. فيما المخرج هو مؤلف العرض المسرحي ولا شك في ذلك أيضا.. والمخرج هنا هو الفنان المبدع عادل بركات ابن المنصورة التي تنز إبداعا ومبدعين.. استطاع بركات أن يضيف إلى نص إبراهيم الحسيني العديد من المسارات الحية التي جعلته مشتعلا وشاغلا اتجاهات المسرح وملء فراغاته بالحركة والغناء والحلم والكابوس والتقمص والقتل والتمثيل بالجثث، بالحكمة، باللعنات والتوهمات.. استطاع كذلك خلق مناطق تفاعلية حقيقية فلا تفرق بين الحلم والواقع أو الكابوس والحياتي بسهولة وانسيابية.. ساعده على ذلك التكنيك الدقيق الذي استخدمه في توليد الشخصيات من الشخصية الرئيسية “منصور” وضبط حركة دخولها وخروجها واندماجها وانفصالها .. كل ذلك حدث بانسيابية وبلا تباطؤ مما يوحى بمدى ترابط فريق العمل بقيادته سواء كانوا ممثلين أو تقنيين أو صانعو السينوغرافيا بمكوناتها للصورة البصرية الدالة والمؤثرة (إضاءة/ ديكور/ ملابس/ وموسيقى مصاحبة)
وقد أدت صغر المساحة الفاصلة بين الخشبة والجمهور إلى خلق حالة من حميمية العلاقة بين الممثلين والجمهور وصلت إلى حد الاقتراب والمعايشة.
الممثلون.. مبارة للمحبة..
لم يكن ظل الحكايات ليأتي بأكله لولا تضافرت جهود الممثلين داخل هذا الحيز المحدود.. استطاعوا جميعا أداء أدوارهم باحترافية شديدة..
رامي الطنباري فنان مسكون بالإبداع والتمرد..وحرفية الأداء، لم يركز قط على أداة من أدواته فقط بل استخدم كل إمكانياته عبر لغة الجسد التي هي لغة تواصل أكثر تأثيرا فهو لم يعتمد على استخدام اللغة الكلامية المنطوقة بمختلف درجات الأداء الصوتي تبعا للمواقف التي عايشها كبطل مأزوم مضغوط، فما بين الحكي والبوح،وما بين اللوم والعتاب، وبين الاستجداء والبكاء، ما بين التوجس والخوف،ما بين الاقتراب والابتعاد.. لقد استطاع المخرج توظيف قدرات رامي باستخدام تعبيراته الجسدية المحددة، ونحن نعرف تمام المعرفة أن السلوك الحركي للممثل غير المنطوق اللفظي فهو من الأمور الدقيقة والمعقّدة، إلا إنه من الممكن فهمه وإدارته بدقة تعطي ثمارها في حالة استخدم المخرج قواعد ومهارات تساعد ممثله و تدريبه للوصول به إلى النتائج المرجوة من الانفعال والتفاعل على حد السواء.
كما استطاع رامي الاشتباك مع الحالة والجمهور عن طريق استخدامه للإشارات والعلامات فمرة بالصوت مغذيا جزئية الاستماع، ومرة بالخروج والدخول مؤكدا على جزئية الإبصار، وعلى الهمس والبوحوالجنون والبكاءليدعم مرمى الإحساس، كما استطاع التواصل مع الجمهور بعدد من الأفعال غير اللفظية من أجل تعزيز أو استبدال الرسائل الكلامية .. إن لغة الجسد في كل تمثلاتها عبر الممثلين لها دور كبير في خلق حالات متعددة من التواصل بين العمل وصناعه وتقريب المسافات بينهم وبين المتلقي.
وفي أداء عفوي يجمع بين الجدة والهدوء والتمكن كان أداء الفنانة المتميزة عبير الطوخي التي تغيب كثيرا عن خشبة المسرح لأسباب غير معروفة على الرغم من تمكنها الشديد وقدرتها على أداء الأدوار المركبة،وتمتعها بانسيابية حركية وأدائية تمكنهامن الانتقال بين الحالات النفسية المتعددة في لحظات جدا متقاربة مع فصلها شعوريا بشكل احترافي..
أما محمود عزت فهو في هذا العرض السيكودرامي تفوق على ذاته وتميز ببراعة الانتقال بين الشخصيات التي يؤديها على تباينها .. كما امتاز بسرعة البديهة والملحةوالفكاهة والجدية، تستمع إلى صوته حين ينطق اللغة العربية فتشعر بها منسابة كالماء الزلال تروي العطاشى بلا أخطاء.. كما أن بناءه الجسدي ووقفته الممشوقة تذكرنا بشخصية الراحل الكبير عبد الله غيث بوقامته الممدودةوصوته الصادح كالسهم في كبد السماء يشقها بفرح.
فيما يشبه لعبة المكعبات.. وضرورة الإحلال والتبديل، وتبادل الأدوار جاء دور خالد محايري الذي أدى عدة أدوار متميزا فيما بينها ببراعة.. كذلك قدم أسامة جميل دور الصديق الذي تعد زيارة البطل له محور الحكاية ومبتداها.. أدى الدور بمقدرة تدل على أن وقوفه على خشبة مسرح الدولة تأخر كثيرا وآن له أن ينطلق إلى عالم الاحترافية بروح الهواية التي تسكنه. كما قام محمد الخلفاوي بدور الحارس المرتشي ذي الوجهين ببساطة ونعومة واقتدار في تحريك العروسة التي تمثل وجهه المزدوج.. ومن أجمل العبارات التي جاءت على لسانه وعبر عنها بقوله:أنا الذي لم يسجل لي التاريخ طوال حياتي رشوة واحدة فيما هو رمز للرشوة والنفاق بدا ذلك في أداء الخلفاوي بقوة.
أما غادة صفوت فيبدو أنها على حداثة سنها وأمامها الكثير من الوقت ما تزال حديثة العهد بخشبة المسرح.. أتمنى لو أعاد المخرج عادل بركات تدريب طبقات صوتها لتمكنت من استخدامه بقوة.. كذلك تكثيف تدريبها فيما يخص استخدام حركة جسدها خاصة الذراعين .. فهى تتأرجح جسديا بين التراجع والاقتراب من الأداء السليم على خجل.. والمسرح وخشبته غول كبير يبتلع من لا يقبل عليه إقبال المحب الشغوف الجريء.
في النهاية نحن أمام عمل متكامل يحترم عقلية المشاهد ويحاور عقله ولا يأخذه في طريق الضبابية للنهاية بل يصل به إلى نقطة النهاية الفارقة التي تؤكد على محبة الحياة ومجابهة كل ما يدعو إلى الموت من مخاوف ومهالك وظنون.
مهما اختلفت تراكيب الان المتناقضة سيظل يبحث عن حقيقته وحقيقةكونه في داخله وإن فعل ذلك وحيدا.. ولنختتم هذه السطور بكلمات الأغنية الآملة التي خطها الحسيني:
“دوّر جوه حكايتك شوف المعني/ علي الصوت بالكلمة/ خلي الكون يسمعنا/ إنت الورقة الناشفه ف شجرة موت/ أرفض خوفك واصرخ/ لسه الحلم دا هوه بتاعنا/ رغم اللون والدين والعرق/ لازم شمس الكون دا تساعنا.”
“ارفع جبيٍنك ف السما وما تنسنيش/ رغم الملل واللخبطة والنور مفيش / اصنع يقينك واسكنه
وارفض ف ضعفك والعنه/ امسك حكايتك كلها ، قوم حلها .. وماتنحنيش”
وهنا تتجلى دعوة التعايش والاستمتاع بالحياة والبحث عن حكاية جديدة مشرقة تستحق أن يعيشها “منصور” البطل / الإنسان في كل زمان ومكان مع كل أبطال الحكايا حقيقة لا ظلالا.. تلك الحكايا التي أسقطتنا رغما عنا في هوتها السحيقة.!
ـــــــــ
جريدة مسرحنا العدد 643