الكاتب الليبي عبد العزيز الزني يكتب: المسرح والمجتمع (ليبيا نموذجًا)

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
المسرح والمجتمع (ليبيا نموذجًا)
عبد العزيز الزني
ليبيا
هل استطاع المسرح عندنا أن يدنو من واقعنا ويتفاعل معه؟ أم أن الواقع بوضوحه الشديد كان أكبر من أن تتسع له خشبة المسرح أو يدنو منه قلم كاتب؟
هذا هو التساؤل الجوهري الذي يشغلني، وأعتقد أنه يشغل الكثيرين منا. مهما كان الاختلاف بين النقاد حول علاقة الكاتب المسرحي، ومن ثم العمل المسرحي بكامل عناصره، ببيئته ومجتمعه، فإن الاتفاق أكبر على وجود هذه العلاقة وأهميتها.
فلو عدنا إلى المسرح الإغريقي، لوجدناه يقدم البطل أو المناضل، ونراه يدخل في صراع مرير قاسٍ مع الآلهة، ليواجه مصيره المحتوم. هذا يؤكد بوضوح تفاعل العمل المسرحي، وفي هذا اتفاق مع نمط التفكير في المجتمع الإغريقي حين ذاك. ولو تتبعنا مسيرة العمل المسرحي الطويلة عبر عصور اختلفت في معطياتها وتكويناتها، سنرى كيف أن المسرح يتفاعل مع المحيط به، وما يطرأ عليه من تغيرات وتقلبات. هذا الأمر جوهري، وكان وراء ظهور المسرح واستمراره.
بمراجعة تاريخية لسيرة النص المسرحي ومن ثم العمل المسرحي، سيتضح لنا بوضوح العلاقة المتبادلة بين الفن المسرحي والمجتمع. ومن هنا تباينت النصوص المسرحية في رؤاها وتناولها ومعالجتها لمواضيع هي ذاتها باعدت بينها مسافات زمنية، كما كان الحال عندما خضع النشاط المسرحي لسيطرة الكنيسة، وبعد تراخي قبضة الكنيسة.
وقبل أن نتوغل في الأمثلة، أقول: إن “الكتابة للمسرح، شأنها شأن أي فن آخر، هي تجسيد لرؤية الفنان”. ومن هنا ندرك أن الرؤية التي تتجسد تخص فناناً أو كاتباً امتلك وعياً وإحساساً بالمحيط الاجتماعي من حوله فتفاعل معه. بالتالي، أرى أن الكتابة للمسرح ما كانت منحة أو رغبة مجردة، فالكاتب، كما يُقال، ابن مجتمعه والمتفاعل مع علاقاته الاجتماعية.
ففي خمسينيات القرن العشرين، ما بعد الحرب العالمية الثانية، عاش جيل أبصر نتائجها وانعكاساتها عليه كفرد ومن ثم على المجتمع بكامله. أيقن هذا الجيل أن الحرب لم تخلف وراءها سوى الحسرة والضياع وانهيار الآمال التي زينها لهم الساسة المحترفون المضللون. فإذا بالحسرة تتحول إلى فقدان للثقة في كل القيم الأخلاقية والاجتماعية، وتلاشى ما كان يطمح إليه من استقرار وطمأنينة. هذا كان حال مجتمعات ما بعد الحرب في بريطانيا، وهي هنا نموذج لكل الدول التي قاست شعوبها مرارة الحرب وبشاعتها وخلوها من أية نوازع إنسانية.
كانت ردة الفعل على صعيد المسرح من خلال ما عُرف بـ “مسرح الغضب”. وكانت مسرحية “انظر إلى الماضي في غضب” (Look Back in Anger) لجون أوزبورن فاتحة هذا التفاعل والتوجه. وغذّى هذا الشعور ما أحدثته الثورة الصناعية وسيطرة الآلة. وينسحب ما سلف على باقي المسارح في أوروبا، مما أثّر على العلاقات والروابط الاجتماعية، فكان أن انعزل الفرد ووقع فريسة لمشاعر أضنته كالغربة وعدم الانتماء والانعزال على الصعيدين الأسري والاجتماعي. واستطاع العمل المسرحي وبنجاح تناول هذه المشاعر والأحاسيس.
التفاعل مع العلاقات الاجتماعية لم يقتصر على الكاتب بل وصل إلى المواطن العادي الذي كان يتابع ما ينتجه الكاتب ويُعرض على خشبة المسرح. إذا أخذنا مسرحية “بيت الدمية” لهنريك إبسن (1828 ــ 1906م)، للكاتب النرويجي، التي اشتهرت باسم بطلتها “نورا”، يتضح لنا ما لقيه العرض المسرحي من ردود فعل حول ما جاء به النص المسرحي من موقف اتخذته نورا التي تمثل المرأة وما تلاقيه من عسف في مجتمعها حينذاك، بل وفي المجتمع الأوروبي بكامله، عندما تركت زوجها بسبب عدم فهمه لها وغياب تقديره لعواطفها واحترامها.
فأثار هذا حفيظة النساء وكُنَّ ضد نورا ولم يغفرن لها ترك أبنائها، وفي الوقت ذاته كان موقف الرجال مسانداً للزوج. ويتضح لنا إلى أي مدى هي علاقة الجمهور بالعمل المسرحي وإلى أي مدى جاء تفاعلهم معه، وما مارسوه من ضغوط على الكاتب. وبسبب هذا الذي كان من الجمهور ضد ما حوته المسرحية في بلادها النرويج، فإن مخرجي الألمان قد نصحوا الكاتب بأن يعدل الخاتمة ويجعل نورا تبقى في البيت من أجل أولادها، كي يقبل الجمهور في ألمانيا بـ “بيت الدمية”.
ما أردته هو لفت الانتباه إلى العلاقة المتينة ما بين الجمهور والعمل المسرحي، ومدى التفاعل بين الاثنين، وكيف، وهذا هو المهم بالنسبة لي، اتخذ المشاهد موقفاً واضحاً. فهو لم يدخل دار العرض ثم غادرها كما دخلها، كلا. أيضاً هذا التفاعل كانت الصحف ميدانه وكل وسائل التواصل حينها. إذن كان هناك اعتبار للعمل المسرحي، وأي اعتبار! فهو يؤثر ويتأثر في مجتمعات لها مقومات ومعطيات تختلف بها عن مجتمعات أخرى. وهذا ما يجعلني أعود إلى التساؤل عن حال مسرحنا الليبي اليوم.



