حصريا.. المسرحي السوري الكبير عبد الفتاح رواس قلعه جي يكتب: مجالات للمسرحة في سيرة بني هلال
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
عبد الفتاح رواس قلعه جي
بحثاً عن فضاءات غنية بالصورة والحدث والدلالة ننعطف – كنموذج من بين نماذج عديدة- نحو السيرة الهلالية وننقل النص التالي كمنطلق:
“ولما عظمت الأهوال، واشتدت المجاعة على بني هلال، اجتمعت منهم المشايخ والشبان، وقصدوا مضرب السلطان حسن بن سرحان، فدخلوا وسلموا عليه، ومثلوا بين يديه، وقالوا له عن فرد لسان: اعلم يا ملك الزمان بأن الجوع قد اشتد، وانقطعت المأكولات عن بلاد نجد. فإن لم تدارك الأمر بالحال انقرضت جميع بني هلال، وفقدت المواشي والأموال”.
هكذا تبدأ تغريبة بني هلال الكبرى. هذه الملحمة التي حدد راويها أحداثها الأولى بسنة 460ه ، واستمر الناس يروونها سرداً وغناء واحتفالات فرجوية طيلة هذه القرون إلى أن نحاها العصر الجديد عن مركز الاهتمام.
هذه الملحمة تعادل أو تفوق مثيلاتها لدى الشعوب الأخرى من يونان ورومان وفرس وهنود. غير أننا درجنا على أن نحتفي بالإلياذة والإنيادة والشاهنامة والمهابهارتا ولا نحتفي بالتغريبة، وقد اهتم بالتغريبة ابن خلدون المتوفى في أوائل القرن التاسع الهجري ودون بعض نصوصها . واهتم بها العلماء الذين صحبوا الحملة الفرنسية على مصر وسجلوا طرائق إنشادها، والمستشرق ادوارد لين وتعرف من خلالها على أخلاق المصريين المحدثين وعاداتهم.
تتميز هذه السيرة بنسيجها النثري – الشعري المتداخل في بناء الأحداث والشخصيات وفي صياغات الحوار. وبكونها تجري في فضاءات مكانية وزمانية متعددة. وما يهمنا هو الإشارة إلى ما في هذه السيرة من إمكانات للمسرح بحكم تركيبتها الغنية بالأحداث، وما تطرحه من قيم، ومن صور ومشاهد حارة لحياة نابضة ومفعمة بالحب والحرب والمعاناة والبطولة، وبجزئيات الحياة اليومية في السلم والحرب، مما يفتح أمامنا مجالا لقراءات متعددة ومعاصرة.
في البداية تتحدث التغريبة عما كانت عليه نجد من خير وخصب، وما أعقب ذلك من قحط وجدب ومجاعة استمرت سبع سنين ، ولما اشتدت المجاعة قصد وفد من بني هلال مضرب السلطان حسن بن سرحان.
ويدخل الشيوخ والشبان على السلطان فيجدون عنده ” جماعة من السادة الأماجيد والفرسان الصناديد: أبو زيد الهلالي، والأمير دياب غانم، والقاضي بدير بن فايد ” . ويسمع السلطان من الوفد أخبار المجاعة، فينهض مع حاشيته لتفقد الرعية متنكرين. فما الذي يقرؤه المسرحي في هذا المشهد؟
- أزمة اقتصادية خانقة تصل إلى حد المجاعة، تستمر سنوات والسلطان غافل أو متغافل
- ثورة الجوع تفاجئ السلطان، وقد خفف كاتب التغريبة منها فجعلها وفداً من الشيوخ والشبان.
- السلطان حسن بعد جولته يوزع الأرزاق ليمتص النقمة، وهذا يعني أن الأرزاق موجودة لدى السلطة. وأن المجاعة لا تطال سوى الرعية.
تقول السيرة إنه في اليوم الرابع من جولة السلطان وحاشيته أشرف على مضارب الأمير مفرج بن نصير ” وكان المذكور واقفا على الأبواب وهو في حالة من الذل والاضطراب وعيناه تذرفان بالدموع من شدة الجوع “.
ويطلب السلطان المتنكر الضيافة فيرحب بهم مفرج ويدخل على زوجته ويطلب منها أن تذهب إلى أبيها شيبان لعلها تجد عندهم بعض الطعام للضيوف.
يقول الفتى المدعو الأمير مفرج أيا بنت عمي قد أتانا ضيوف
فقومي واسعي بالعشا لا تطوّلي فلون وجهي قد غدا مخطوف
وتذهب الزوجة إلى بيت أبيها وعمها فتجدهم أشد عسراً وجوعاً فتعود إلى زوجها وتقول:
أيا ابن عمي استمع شرح قصتي غدوت إلى أهلي مع الأعمام
وجدت أبي والعم يبكوا بحسرة وأولادهم يبكون كالأيتـام
حلف والدي أن الطحين وغيره ما دخل بيته من عهد عـام
وتقترح الأم على زوجها أن يبيع ابنتهما الثريا ليؤمن بثمنها طعاماً للضيوف.
فقم يا ابن عمي ودور على عامر وبيع إليـه بنتـك بدر التمام
بيع الثريا في عشا لضيوفنــا واشري لعرضك لا تكون ملام
وأمام سمع السلطان وبصره تزين الأم ابنتها للبيع، ويأخذها أبوها ويدور بين المضارب عارضاً إياها، فلا يجد لها مشترياً. وهذا مشهد نفسي غني للمسرحي يقوم على الصراع بين واجب الضيافة وعاطفة الأبوة.
” وطاف بابنته في أنحاء بني هلال وهو ينادي ويقول: يا أهل الفضل والمعروف من يشتري ابنتي الثريا بعشاء أربعة ضيوف. وكان كل من ينظر إليها ويتأمل فيها يتحسر على جمالها وحسن معانيها ويقول: إذا اشتريناها ماذا نطعمها ونسقيها ؟”
ويعود الأب خائبا فتنصحه زوجته بأن يذهب بها إلى السلطان حسن ويبيعها له. ويسبقه السلطان إلى مضاربه، ويدخل مفرج ويروي قصة الضيوف الأربعة واضطراره لبيع ابنته من أجل إطعامهم.
أيا أمير ساعدني واجبر خاطري يجيرك إلهي من عذاب النار
ويطيب السلطان خاطره ويأمر له بقنطار من الطحين، ويسبقه السلطان ثانية إلى خيمته، ويعود مفرج فرحا وتهيئ زوجته الطعام فيعرفه السلطان بنفسه وبمن معه ويقول له أبو زيد: ” لو جلست معنا كنت في غنى عن هذا التعب والعنا لأنه يوجد معنا من الزاد ما يسد رمق الفؤاد”. ويتابع السلطان جولته ويعود وقد استقر رأيه على الرحيل ببني هلال إلى بلاد الغرب. والرحيل يعني الدخول في سلسلة من الحروب لا تنتهي، وخير ما يواجه به السلطان شعباً تغتلي فيه الثورة أن يزجه في سلسلة من الحروب لا تنتهي. وهكذا تحملك التغريبة خلال مسيرة بني هلال من نجد إلى الشام فشمال أفريقيا فتونس إلى فضاءات مكانية وإنسانية متعددة وغنية بالمشاهد البصرية والأحداث.
نحن إذن أمام تركيبة مسرحية جاهزة تتحدث عن الجوع والسلطة والأسباب الاقتصادية للحروب، يمكن أن يرتقي بها المسرحي من خصوصية الحدث الهلالي إلى عمومية الحدث الإنساني.
ليست الغاية من هذا المثال الاعتكاف في محراب التراث أو الابتعاد عن الواقع، وإنما الغاية هي الوصول إلى خصوصية للمسرح العربي نابعة من رؤانا الفنية والجمالية والفكرية، من حياتنا وتقاليدنا وتاريخنا وطرائق تفكيرنا، فإذا عرضت مسرحية تحمل هذه الخصوصية هنا قلنا: هذا نحن. وإذا عرضت في باريس أو روما أو غيرهما قالوا : هذه أمسية عربية.
وفي مسرحيته “كأنك يابوزيد” عاد المسرحي الأردني غنام غنام إلى السيرة الهلالية والتغريبة متتبعاً رحلة أبي زيد الهلالي البطل الشعبي بحيث لم يهدف في هذه العودة تقديم البعد التسجيلي أو التاريخي وإنما كان الغرض لديه، وحسب منهجه في مسرحة الموروث الشعبي، التحديق في الواقع العربي المعاصر الذي تتنازعه الخلافات والصراعات وتسوده ادعاءات الوحدة والانكسارات المغلفة بالشعارات البراقة.
إن تراثنا غني ، ومثله واقعنا بما فيه من أحلام وآمال وأوجاع وصراعات وانكسارات، لكن العودة الصماء إلى التراث أو الواقع ستكون عودة بليدة إذا لم تقدم شيئا. لابد من التحديق فيما هو ماض وراهن لنستطلع فضاءات الغد في شفافية وإرهاص.
إن البحث عن فضاءات حرة وجديدة في النصوص المسرحية أو الممسرحة يستدعي في المقابل حرية أوسع في الإبداع والتشكيل الفني على الخشبة ليكون العرض المسرحي جامعاً لأمرين: المعاصرة والخصوصية العربية.