المسرحي يوسف البري يكتب:حينما يرسمُ المطرُ المشهديّةَ المسرحيّةَ بامتياز.. قراءةٌ تحليليّةٌ في نصوصِ صفيّة البكري المسرحيّة.
بقلم: يوسف البري
مسرحي أردني
ـ
هلْ يمكنُ الرسمُ بالمطر ؟!!
منْ خلالِ مُحاولةِ الإجابةِ عنْ هذا السؤال، سوفُ أبدأُ قراءتي هذهِ في ما تيسّرَ لي منْ النّصوصِ المسرحيّةِ للأديبةِ صفيّة البكري.
أجدُ ابتداءً أنَّ ثمّةَ مُعطياتٍ كثيرة تأخذُ بيدِ القارئ لتُحلقَ بهِ في فضاءاتٍ رحْبَةٍ، فتارةً يكونُ فوقَ الغُيومِ وتارةً يكونُ تحتَها، وتارةً يُحلّقُ معَ العصافيرِ، وتارةً يقرأُ حوارَ العينِ أو الأُذنِ أو القطِّ أو الكتابِ،.. كلُّ هذا مقبولٌ ومُتوقّعٌ في أيِّ عملٍ قصصيٍّ أو مسرحيٍّ يكونُ موجّهاً للأطفال، لكنْ أنْ يُدرِكَ القارئُ بحواسِّهِ ما لا يُدركُهُ إلا في الحقيقةِ، كأنْ يشتمَّ رائحةَ المطرِ، أو أنْ يشعرَ بالضِّيقِ منْ لفظِ كلمةِ الغُبار، فهذا أمرٌ خارقٌ للعادةِ يستوجبُ التوقُّفَ عندَهُ للقراءةِ والتّحليل.
عندما يهُمُّ أيُّ أديبٍ في كتابةِ أيِّ عملٍ أدبيٍّ، يكونُ قدْ شحنَ نفسَهُ بطاقةٍ عاليةٍ وإرادةٍ عارمةٍ، ويكونُ قدْ شرعَ كُلَّ نوافذِهِ إلى السّماءِ حتّى يُحلّقَ بمُفرداتِهِ وجُملِهِ، ليُسطِّرَ كُلَّ ما يجولُ في نفسِهِ، وكأنّهُ يرسمُ بالمطر، لكنّ مدرسةَ الرّسمِ وألوانَها تتفاوتُ منْ أديبٍ إلى آخرَ بحسبِ الجنسِ الأدبيِّ والفئةِ العُمريّةِ المُستهدفة .
تعمدُ الأديبةُ صفيّة البكري -عندما تهُمُّ بكتابةِ أيِّ نصٍّ مسرحيٍّ جديد- إلى تحضيرِ كلماتِها وترتيبِ جُملِها وكأنّها ألوانٌ صُنعتْ منْ ضحكاتِ الأطفالِ وأمانيهمْ ، فنجدُ قُدرتَها العاليةَ في وصفِ المشهدِ للطّفلِ حتّى تجعلهُ يُبحرُ بكلِّ حواسّهِ في تلكَ الأجواءِ، وكأنّهُ يعيشُها بكلِّ تفاصيلِها، فتُوصلُ إليهِ كلَّ ما تُريدُ حتّى تصلَ معهُ إلى درجةِ اللاوعي، وعندَها يتمكّنُ الطّفلُ منْ أنْ يشتمَّ رائحةَ المطرِ إذا ما سمعَ صوتَ هُطولِهِ، أو أنْ يسعُلَ عندَ ذِكْرِ كلمةِ الغُبار ، وهذهِ الدقّةُ العالية في وصفِ المشهدِ المسرحيّ، هي التي تأخذُ بيدِ الطّفلِ حتّى يكونَ منْ سُكّانِ المشهدِ معَ أبطالِهِ، يعيشُ بينهُمْ ويأكلُ ويلعبُ معهُمْ، أو ربّما يبكي أو يصرُخُ إذا غضبَ، ويضحكُ إذا ما انتصرَ الخيرُ على الشرِّ، ذلكَ أنَّ الطّفلَ ليسَ مُجرّدَ مُتلقٍّ عاديٍّ أمامَ نصِّ صفيّة البكري أو أمامَ عرضِها المسرحيّ، بلْ هو شريكٌ أو أحدُ أبطالِ المسرحيّة، الذي قدْ يجرؤ على التدخُّلِ ليُغيِّرَ منْ مسارِ الأحداث ، لكنْ ضمنَ ضوابطِها، فهيَ- وأقصدُ الكاتبةَ هُنا- مَنْ يرسمُ الطّريقَ أمامَ مجرى سيرِ الأحداثِ دونَ أيِّ اعوِجاج، فيركضُ الطّفلُ مُتشوِّقاً نحوَ النّهايةِ وهو في حالةٍ منَ اللهفةِ حتّى يُحيطَ بكلِّ التفاصيل.
ولكي تُعزِّزَ الأديبةُ ما رسمَتْ منْ وصفٍ للمشهدِ، لا بُدّ لها منْ إطارٍ ذهبيٍّ زواياهُ الفِكرةُ والأُسلوبُ والحبكةُ والحوارُ المُشوِّقُ، وصولاً إلى النّهايةِ التي تكونُ قادرةً على إقناعِ الطّفل .
ففي مسرحيّةِ ” نحنُ الحواسّ” مثلاً، نجدُ أنّنا أمامَ نصٍّ مسرحيٍّ تعليميٍّ بامتياز، تكامَلتْ فيهِ عناصرُ النصِّ المسرحيِّ كُلِّها، فالمسرحيّةُ درسٌ تعليميٌّ بلغةٍ دراميّةٍ مُتقنةِ الطّرحِ، فالعينُ تتكلّمُ وتُعبِّرُ عنْ نفسِها، والأُذنُ تحاورُ مَنْ حولَها، والجلدُ يئِنُّ مِنْ مرضِه، وهذِهِ الحواسُّ تصرُخُ وتضحكُ وتختلفُ فيما بينَها، وحتّى يكونَ الطّفلُ شريكاً منطقيّاً في مَجرى الحدثِ، كان لا بُدَّ منْ وجودِ شخصيّةٍ أكثرَ منطقيّة بالنّسبةِ لهُ، فكانتْ شخصيّةُ المرأةِ الحكيمة، التي هيَ بالنّسبةِ للطّفلِ ربّما تكونُ أُمَّهُ أو مُعلِّمتُهُ، هوَ يعرفُها جيّداً ويعرفُ قُدرتَها كأُمٍّ أو معلمةٍ، وبالتّالي هيَ الأجدرُ بأنْ تكونَ المُنقِذةَ والمُلهِمةَ وصانعةَ الأماني، لتصلَ معَ الجميعِ إلى نهايةٍ مُقنِعة.
إنَّ هذا النّوعَ منَ النُّصوصِ المسرحيّةِ، والذي يكونُ ذا طابَعٍ تعليميٍّ الغايةُ منهُ تمريرُ معلوماتٍ علميّةٍ للطّفلِ، تكونُ المسؤوليّةُ فيهِ على الكاتبِ أكبرَ بكثيرٍ، إذْ عليهِ أنْ يُمسكَ بمجموعةٍ كبيرةٍ منَ الخُيوطِ التي تَحِيكُ العملَ بنفسِ القوّة، وأنْ يُحافظَ على مجرى الحدَثِ الدراميِّ دونَ السُّقوطِ في التلقينِ المُباشرِ للمعلومة، وهذا يحتاجُ منَ الكاتبِ إلى براعةٍ في الرّبطِ وقُدرةٍ عاليةٍ على الإقناعِ، وذلكَ بوساطةِ عدّةِ مُعطياتٍ أهمُّها: الجُملةُ القصيرةُ، والتّشويقُ العارِمُ منْ خلالِ تأزيمِ العُقدةِ، تمهيداً للبدءِ في حلِّها وفقَ ما يعتقدُهُ الطّفلُ، ودونَ الوصولِ إلى نهايةٍ غيرِ مُتوقّعةٍ أو غيرِ منطقيّةٍ، أو لا تنسجمُ معَ توقُّعاتِ الأطفالِ ، فأنا أعتقدُ أنّنا- وفي مثلِ هذا النّوعِ منَ النُّصوصِ المسرحيّةِ، وإذا ما أردنا أنْ نُرسِّخَ ما طرحْنَا منْ معلوماتٍ تعليميّةٍ في عقلِ الطّفلِ- علينا الرُّضوخُ لتوقُّعاتِهِ دونَ مراوغاتٍ تأويليّةٍ، وهذا ما نجحتْ فيهِ الأديبةُ صفيّة البكري.
في مسرحيّتِها:” الكتابُ المَحبوب والآيبادُ المَغرور”، نجدُ أنَّ الأديبةَ قدْ نمَتْ لديها الجُرأةُ في الطّرحِ والاقترابِ أكثرَ، منَ الطّفلِ وخُصوصيّاتِهِ، وهيَ تلعبُ هُنا في زاويةٍ صعبةٍ، قدْ تُشكِّلُ لها إرباكاً إنْ لمْ تُسعفْها جودةُ فكرتِها، ومتانةُ طرحِها، في إقناعِ الطّفلِ المُعاصرِ أنَّ الكتابَ هو أهمُّ منْ جهازِ “التابلت” أو “الآيباد”، هذا الجهازُ الذي يَعُدُّهُ الطّفلُ بمثابةِ كَنزٍ كبيرٍ لِما يحتويهِ منْ ترفيهٍ وتسليةٍ وعالَمٍ افتراضيٍّ، هوَ بالنّسبةِ لهُ أقربُ إليهِ منْ أيٍّ شيءٍ آخر ، وخصوصاً أنَّ المُنافِسَ هو الكتابُ الذي قدْ يبدو بالنّسبةِ للطّفلِ هوَ الأضعفُ إذا ما قُورِنَ بذلكَ الجهازِ السِّحريّ .
لقدْ أدركَتْ الأديبةُ صفية البكري هذِهِ المُعضِلةَ جيّداً، وانتهجتْ منذُ البدايةِ نهجاً مُغايراً، فاعتمدَتْ أُسلوبَ المُناظرةِ في السّردِ والحوارِ بينَ الخَصمينِ، وقدْ انتصرَتْ ببراعةِ تعبيرِها للكتابِ دونَ أنْ تُنقِصَ منْ عطاءِ الآيباد، حتّى لا تستخِفَّ بعقلِ الطّفلِ المُتلقّي، ولأنّها تُدركُ صعوبةَ هذا الطّرح وهذِهِ المُقارنة، فقدْ غيَّرتْ الأديبةُ هُنا منْ شكلِ عرضِها المسرحيِّ، لتكونَ أبطالُهُ عرائسَ أو دُمى تضحكُ وتُغنّي، وهذا الذّكاءُ الكبيرُ في تغييرِ أُسلوبِ الطّرحِ منَ المسرحِ البشريِّ إلى مسرحِ العرائسِ، جاءَ ليخدِمَ الفكرةَ، لأنَّ الدُّميةَ هيَ الأقربُ إلى عالمِ الطّفلِ، وهيَ الأقدرُ على إقناعِهِ، فيكونُ انتصارُ الكتابِ أمراً منطقيّاً بالنّسبةِ للطّفلِ، بعيداً عنِ الإملاءِ عليهِ أو الأمر.
ولا يختلفُ الأمرُ كثيراً في نصِّ مسرحيّةِ صفيّة البكري: “عربي لا عربيزي”، وهيَ تتناولُ فيها طرحاً آخرَ وهوَ الانتصارُ للغةِ العربيّةِ على حسابِ اللهجةِ العاميّةِ أو اللغةِ المُعرّبة، فنجدُ أنَّ الشّكلَ نفسَهُ، وبراعةَ الأُسلوبِ ذاتِها المُتمثلةَ في نهجِ المُناظرةِ بينَ المُختصمينَ، وأنَّ اعتمادَ مسرحِ الدُّمى أو العرائس كنهجِ عرضٍ، معَ تطوُّرٍ واضحٍ في المُراوغةِ والقُدرةِ على الإقناعِ، يجعلُ الطّفلَ وكأنّهُ أمامَ خيارٍ واحدٍ لا ثانيَ ولا ثالثَ لهُ.
في مسرحيّةِ القطِّ الفضيِّ، يُدركُ المُتابعُ للنُّصوصِ والعرضِ المسرحيِّ للأديبةِ صفيّة البكري، التطوُّرَ الكبيرَ الذي طالَ كُلَّ شيءٍ، بدءاً منَ الفكرةِ، وتطوُّرِ الأدواتِ الكتابيةِ، وصولاً إلى عُمقِ الحبكةِ، وسلاسةِ التنقُّلِ منْ لوحةٍ إلى أُخرى، واكتمالِ تنوُّعِ الشخصيّاتِ منْ عُصفورٍ إلى شجرةٍ وقطٍّ، ورجُلٍ وطفلٍ وأُمٍّ، وتجانُسِها جميعاً، ونَسجِها ضمنَ عالمٍ واحدٍ وسطَ وصفٍ مَشهديٍّ غنيِّ بأدقِّ التفاصيلِ، معَ الحفاظِ على الخطِّ العام لنهجِ الأدبيةِ في الكتابةِ، حيثُ كلُّ شيءٍ واردٌ ومقبولٌ في عالمِ مسرحِ الأطفالِ، فالقطُّ لديها يتكلّمُ، والعُصفورُ يُغنّي، والأحلامُ تتحقّقُ، ووصفُ المشهدِ يتجلّى في أروعِ صورِهِ، فأخذَ منَ النَّصِّ وصُوفاً للسُّوقِ، وما كانَ يتغنّى بهِ الباعةُ لتسويقِ بضاعتِهمْ وهُمْ يُغنُّونَ: “هذهِ هيَ الفواكه.. أشكالٌ وألوان.. ما أحلى الرُّمَّان”.
ويُغنُّون:” معي معي بُخُور.. معي معي تُمور.. معي معي بُخُور.. معي معي كلُّ العُطور.
لقدْ عكستْ هذهِ المسرحيّةُ النُّضجَ الكبيرَ الذي وصلتْ إليهِ الأديبةُ في تجربتِها المسرحيّةِ، وبشكلٍ واضحٍ لكُلِّ منْ تابعَها وتابعَ ما كتبَتْ أو أخرجَتْ، وهُنا أجدُ نفسي أمامَ سُؤالٍ مُهمٍّ وهوَ: هلْ ثمّةَ إضافة على النصِّ المسرحيِّ إذا ما كتبَهُ مُخرِج ؟. ولا تتطلبُ الإجابة عنْ هذا السُّؤالِ سوى مُشاهدة إحدى مسرحيّاتِ الأديبة صفيّة البكري، لأنّها تكتبُ نصَّها وهيَ ترسُمُ رؤيتَها الإخراجيّةَ بروحٍ ملؤها الخيالُ والسينوغرافيا السّاحرة، فهيَ التي تُخرِجُ مُعظمَ نُصوصِها المسرحيّةِ ببراعةٍ لا تقلُّ أبداً عنْ براعتِها في الكتابة.
ولأنّها تُدركُ أنَّ الطّفلَ أرضٌ خصبةٌ، إنْ زُرعَتْ خيراً أنتجتْ خيراً، وإنْ زُرعَتْ شرّاً أنتجتْ شرّاً، فقدْ قرّرتْ الأديبةُ صفيّة البكري أنْ ترسُمَ نُصوصَها وعروضَها المسرحيّةَ بالمَطر.