مقالات ودراسات
الناقد العراقي حمه سوار عزيز يكتب: آخر البحر لفاضل الجعايبي.. درس بليغ في التعامل مع الإرث المسرحي العالمي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
حمه سوار عزيز| ناقد من العراق
مسرحية (اخر البحر) للمخرج التونسي القدير (فاضل الجعايبي) من العروض المسرحية المهمة التي قدمت في مهرجان بغداد الدولي للمسرح في دورته الخامسة،
المسرحية تناص أو اعادة كتابة لمسرحية (ميديا) للكاتب اليوناني (يوربيدس). قدم المخرج درسا بليغا و مهما في كيفية التعامل مع الارث المسرحي العالمي، عندما لجأ الى واحدة من أهم كلاسيكيات الدراما العالمية و هي مسرحية (ميديا) للكاتب اليوناني يوربيدس، اسس نصا مسرحيا معاصرا قادرا على المشاكسة الانيه و بحث الاشكالات المتأصلة في المجتمع العربي من خلال استحضار لشخصية تاريخية مهمة و مبهمة و هي شخصية ميديا الاغريقية، الشخصية التي أستمدها يوربيدس من الميثولوجيا اليونانية القديمة، لكي يدخل من خلالها الى دواخل النفس الانسانية المتصارعة بين الحب و الكراهية، الخير و الشر، الحياة و الموت،
لكن الجديد في مسرحية (اخر البحر) أن المخرج أستطاع أن يجرد هذه الشخصية من انتماءها الميثيولوجي و الاسطوري و يجعل منها شخصية عصرية انيه تبعث من الافرازات السياسية و الاجتماعية للمجتمع العربي دون اية مرجعيات قدرية و الهيه متحكمة في المصير الانساني، حيث حول المخرج شخصية (ميديا) اليونانية، من شخصية اسطورية تتجلى من بين القوى الغيبية و السحرية التي تمتلكها من خلال دعم الالهة المتعددة لها، إلى شخصية عربية واقعية حاضرة تهرب من واقعها المشحون بالحروب و الاقتتال الطائفي الذي يسوده قانون الرجولة و الذكورة، إلى مجتمع اكثر تحضرا و تقدما بحيث يصان فيه حقوق الانسان و حقوق المرأة و الحريات الفردية، شخصية مهاجرة من بيئة قاسية و موحشه الى البيئة الاجتماعية أكثر تحضرا و انسانية،
لكنها تصاب بالصدمة عندما تكتشف أن كل البيئات في المجتمع العربي تتشابه من حيث الحقوق و الحريات و سيادة القوانين الرجعية و الطبقية و الجندرية، الجعايبي صنع من شخصية (ميديا) الاسطوريةو السحرية، شخصية (عاتقة) الواقعية الحاضرة في سياقات الاجتماعية الكاتمة على الحريات الانسانية المجردة، الشخصية التي تبحث عن الخلاص و التنصل من الواقع المرير في بلدها الاصلي (اليمن)،
حتى لو كانت ثمن خلاصها هي الخيانة و القتل،(عاتقة) شخصية متمردة على الواقع العربي المرير الذي يحكمه الصراعات الطائفية و القوانين الذكورية القبلية التي تجعل من المرأة سلعة مادية يتحكم المجتمع الذكوري في قيمتها المادية و الاجتماعية، لكنها تصطدم بواقع غير متوقع عندما تكتشف أن البلد الذي أتجهت اليه، لايختلف كثيرا من حيث القوانين و الحقوق الانسانية و نظام القضاء و العرف الاجتماعي و الحريات الفردية، عن موطنها الاصلي، و الادعاء بالمجتمع المدني و حقوق الانسان و المرأة و استقلالية القضاء، تنهار أمام مجموعة من العقلية الرجعية و المصالح الشخصية و الفساد المنتشر داخل سياق هذه المدنية المزيفة، التي لاتستطيع أن تعامل عاتقة كأنسانة لها حقوقها الانسانية و المدنية بغض النظر عن جنسيتها و الجغرافية التي أتت منها و لون بشرتها و لهجتها ،
بذلك يفضخ الجعايبي الادعاءات الكاذبة و المزيفة للمجتمعات العربية التي تنادي بأنها أصبحت مجتمعات متحضرة و تجاوزت مرحلة القبلية و الذكوريةو المصالح المضمرة، كما يندد بالقضاء العربي الفاسد و يجردها من الصبغة القانونية و الادعاءات الحضارية المزيفة التي تدعيها من خلال التعامل الانساني الزائف مع الحالات الانسانية، فالقضاء مازال محكوما بمجموعة من المرجعيات القبلية اللاأنسانية التي تهيمن عليها المصالح الشخصية و صراع الطبقات و الفساد المادي المتشعب داخل سياقاته بالرغم من ان صورته الخارجية المتحضرة توحي لنا بغير ذلك.
الأهم في هذا العرض أن المخرج أجاد دراماتورجيا في صناعة عرض مسرحي يستلهم من الفكر و التراث العالمي لكي يسقطه محليا على الاشكاليات المتشعبة في المجتمع العربي و يجرد الشخصيات من عمقها التاريخي و الاسطوري، باتجاه خلق شخصيات انيه و معاصرة تتحكم في النسق السياسي و الاجتماعي للمجتمعات العربية، بالرغم من أن المخرج حافظ على الشخصية الرئيسية و افعالها الدرامية من الحب و القتل و المكيدة و الهجر،
الا أن الدوافع تتغير حسب الافرازات الجديدة للمجتمع العربي في الوقت الحاضر، فالهروب من التاريخ و الجذور نحو المعاصرة و التثاقف و المجتمع المعولم، قد لايجدي نفعا مادام القوانين هي نفسها بالرغم من مرجعياتها المتباينة و المتفاوتة، الا أنها تشترك في الفساد و الانحراف التي تحكم تلك القوانين، لذا ان انحياز المخرج الى التراث العالمي كان مبررا بشكل كبير من خلال التوظيف و التجسيد الحي لقضاياه المجتمع الراهن في النص الكلاسيكي دون المساس بالبنية الفنية و الجمالية للنص الاصلي و حضورها الكبير في ذهن المتلقي المسرحي، فكل الاضافات النسقية و السياقية التي أضافت للنص الزمكانية الجديدة، سحبت النص من المنطقة التاريخية و ابعادها الاسطورية الى المساحة التعبيرية المجسدة للواقع من خلال استحضار الماضي.
البحر في مسرحية أخر البحر لفاضل الجعايبي، هي أكثر شخصية حاضرة في سياق العرض و حضورها ليس مرتبطا بالحضور العياني للشاشة الكبيرة المهيمنة على فضاء العرض في كثير من مشاهد العرض، انما تتجلى حضورها في الفعل الدرامي في كل مشهد من مشاهد المسرحية، فكل المشاهد التي تحتوي على الفعل الدرامي، هي تلك المشاهد المرتبطة بحضور البحر في خلفية المشهد( الحب، الجنس، القتل، الانفعال، الانهيار، الانتحار، المكيدة)،
كل هذه الافعال الدرامية التي تقود العرض تنبعث من المشاهد التي تهيمن فيها البحر على الفضاء المشهدي، كأن المخرج يؤشر للبحر بأنه العنصر المحرك للأحداث في الفضاء السياسي و الاجتماعي للمجتمع العربي، و شخصية عاتقة في العرض متوازية و متجانسة مع حضور البحر في الصورة المشهديةو حتى الجغرافية التي تربط بين البلدين من خلال البحر، فهي شخصية هادئة و منكمشة تارة و منفعلة و ثائرة تارة اخرى، شخصية غامضة و غامقة تتركز في الداخل وتخفي كثير من الاسرار و العواطف الجياشة و الهائجة، كذلك البحر، شخصية لها العنفوان و تمتلك الجرأة و القسوة في الحب والحياة و القتل و الموت، كذلك البحر، شخصية حرة و منطلقة تحب فضاء الفارغ و الافق الواسع و الحب الكوني،
كذلك البحر، كأن المخرج يأتي بشخصية عاتقة كتؤام لشخصية البحر و بذلك يؤشر على شخصية المرأة بانها شخصية عميقة و مليئة بالحب و الجمال و الرومانسية، وفي نفس الوقت تستطيع أن تظهر الى السطح العنف و القتل و الموت و الوحشية، لذا ينبغي التعامل بكثير من الحكمة و الحكمة مع هذه الشخصية الفطرية الاصيلة التي قد تعطيك الحياة و الجمال و الحب دوما اذا لم ترغمها على اظهار وجهها الاخر المفروض من المجتمع و قوانينها التعسفية، لذا نهاية المسرحية تأتي على شكل التداخل الفيزيائي بين شخصية عاتقة و البحر و يترك سؤالا جوهريا هل البحر تبتلع عاتقة أم هي التي تبتلع البحر، أم هي عودة الظل الى الجسم؟ عمل المخرج على الصورة المشهدية الساكنة في ظاهرها و المتفجرة في أعماقها من خلال ايقاع مسرحي اعتمد على السكون الفعلي و الاقتصاد الحركي في مقابل هيجان حسي و سايكولوجي مضمر داخل الصورة المشهدية القابلة للأنفجار و كشف المستور في أي لحظة من لحظات العرض،
لذا كان العرض يستند بشكل كبير على تحريك الدواخل الانسانية للشخصيات من خلال الحوار الطويل و الممل بين الممثلين في مشاهد مسرحية غير مألوفة بالنسبة للجمهور العراقي، لكي يلقي بالجمهور في فضاء من الشك و الحيرة ازاء الاحداث الدرامية و الفكرة الاخلاقية التي حركها العرض من خلال انتقاد المجتمع التي قد تعمل من المرأة وحشا كاسرا عابثا بكل قوانين و الاعراف الانسانية، بذلك أصبح فعل التلقي متفاعلا و منفعلا بشكل أكبر من الصورة المشهدية التي حاولت أن تختزل الفعل الحماسي و تعبر به الى الاستجابة الفكرية و العقلية للمتلقي.
الممثلون أدوا باحترافية عالية من خلال التحكم الايقاعي المنضبط بالاحاسيس و الانفعالات الحسية التي ظلت في كثير من المشاهد، انفعالات مضمرة تتحرك داخل الشخصية و تتصادم و تتشابك الى أن ينتهي بانهيار الشخصية أمام هذا الفعل الداخلي البركاني المشتعل و تستسلم لها في نهاية المشهد و تظهر الانفعالات الى العيان، هذا التدرج الانفعالي و الحسي الذي يبدأ من منطقة السكون و انعدام الى الفعل و يتصاعد الى منطقة التصادم و الاجهار و الصراخ، جعلت من منظومة الاداء في العرض، منظومة سايكولوجية غامضة تحاول أن تسيطر على الفعل الدرامي من خلال السيطرة على الانفعال الجسدي و اختزاله في تعبيرات حسية و مشهدية تكفل بها المشهدية الصورية و الدرامية المتكونة من الهارمونية الحسية و الجمالية التي تداخلت فيها الموسيقى مع الاضاءة و المؤثرات الصوتيه و التقنية السينمائية التي مثلت حركة و حيوية حسية أكتسحت الفضاء النفسي و الذهني للمتلقي و جعلته يتواصل مع عرض مسرحي لأكثر من 140 دقيقة، من خلال تأسيس مشهدي لايستند على الفعل العياني و الحركي أكثر مما يعتمد على التحريك الذهني و الجمالي الذي يقدم الهيجان و الانفعال في ثيمة السكون و الحركة الانفعالية الصائتة.
(أخر البحر) مسرحية تونسية من انتاج المسرح الوطني التونسي بالشراكة مع مركز الفنون بجربة، من اخراج المخرج التونسي الكبير فاضل الجعايبي، تدور أحداث المسرحية في تونس سنة 2015، تتحدث عن امرأة يمنية هربت من موطنها مع رجل تونسي الى تونس طمعا في حياة أفضل من حيث الحقوق و الحريات و احترام المرأة، لكنها تصطدم بواقع لايختلف كثيرا عن واقع موطنها اليمن أو أي دولة عربية اخرى. العرض قدم ضمن العروض الشرفية لمهرجان بغداد الدولي بدورتة الخامسة على قاعة المسرح الوطني في بغداد بتاريخ13/12/2024.