مقالات ودراسات
الناقد المغربي أحمد بلخيري يكتب عن مونودراما غنام غنام “سأموت في المنفى”.. الوطن في الذاكرة!
المسرح نيوز ـ المغرب| أحمد بلخيري
ـ
كنت قد اقترحت في الطبعة الثانية لكتاب “معجم المصطلحات المسرحية” المنشورة سنة 2006 مصطلح السيرة الذاتية الدرامية.وضعت هذا المصطلح بناء على قراءة نص درامي محدد.النص الذي ينطبق عليه هذا المصطلح نص درامي تتوفر فيه مقومات البنية الدرامية.ولكنه يتميز عن بقية الأشكال الدرامية الأخرى في كونه يرتبط، من حيث الأحداث الدرامية والمضمون أو التيمة،بالسيرة الذاتية لكاتبه الذي يعتبر،في هذه الحالة، الشخصية الرئيسة فيه لأنه نواة ومحور الأحداث.
هذا المصطلح ينطبق على العرض المسرحي “سأموت في المنفى” للمبدع المسرحي غنام صابر غنام.قدم هذا الأخير هذا العرض المسرحي،وإذن فهو هنا مؤلف ومخرج وممثل،في رواق محمد الفاسي بوزارة الثقافة المغربية ليلة 31/5/2018.ينطبق على هذا العرض المسرحي المصطلح المذكور،فضلا عن مصطلح آخر هو المونودراما لأنه لايوجد فيه سوى ممثل واحد.هو سيرة ذاتية مسرحية من حيث الأحداث المسرحية والتيمة؛وهو مونودراما من حيث الشكل المسرحي.حضر لمشاهدة هذا العرض ثلة من المسرحيين والباحثين المسرحيين المغاربة. تدل الصيغة الزمنية الموجودة في العنوان على المستقبل.ذلك أن ضمير المتكلم في العنوان يتنبأ بأن نهايته ستكون في المنفى.
هذه الكلمة الأخيرة تعني البعد الاضطراري، وليس الاختياري، عن الوطن.هذا الاضطرار هو الذي جعل الذاكرة خزانا لأحداث ووقائع تدل كلها على حنين متأصل لدى الشخصية الرئيسية التي أفصحت في العرض المسرحي عن اسمها الحقيقي،وهو غنام صابر غنام،وتاريخ ومكان ولادتها.التحليل هنا يتعلق بالشخصية المعروضة وليس بالشخص. لاتوجد في هذا العرض المسرحي لاديكورات ولاخشبة مسرحية معدة خصيصا لتقديم العروض المسرحية.يوجد فقط ممثل وكرسي وجمهور وفضاء يجمعهما.توسط الممثل فضاء العرض ثم قدمه.في هذا الفضاء شبه الدائري كانت تحركات الممثل للتواصل المسرحي مع الجمهور،مستعملا لغته الجسدية، الصوت والحركة وملامح الوجه وحركات العينين،وكرسيا له وظائف عديدة في العرض منها استعماله بوصفه قبرا. قبل بداية الأحداث المسرحية المرتبطة بماضي الشخصية الرئيسية،التي كانت انطلاقا من مطار محدد،كان هناك ما يشبه البرولوغ المُمَهِّد لها أي للأحداث المسرحية المرتبطة بذلك الماضي.
في هذا البرولوغ كانت الشخصية الرئيسية تخاطب الجمهور الحاضر مباشرة مقدمة له بعض المفاتيح لفهم العرض المسرحي.هذا البرولوغ هو جزء من العرض المسرحي،لكن ما يميزه عن بقية الأحداث المسرحية المرتبطة بماضي وحاضر ومستقبل الشخصية الرئيسية،هو أنه آني من الناحية الزمنية وليس ماضيا.ولأنه آني فهو ليس جزء من ذاكرة هذه الشخصية.هذا البرولوغ سيتغير ضرورة حسب كل عرض بالنسبة للمكان والمشاهدين وزمن التقديم.وليس الأمر كذلك بالضرورة لما بعده.ليس بالضرورة بالنسبة للمابعد،وقد تحدث تعديلات أو تغييرات طفيفة في البنية ولكنها قد لا تمس جوهر الخطاب المسرحي. لتوصيل هذا الخطاب المسرحي كان الممثل وكرسي وحكاية وجمهور.تحرك الممثل في فضاء العرض المسرحي مستعملا لغته الجسدية المتنوعة:الصوت “التوقيع الحميمي للممثل” (رولان بارت)،والحركة وملامح الوجه وحركات العينين.يصعب هنا تحليل بدقة هذه اللغة الجسدية لأنني أنطلق في هذا التحليل من ذاكرتي بعد مشاهدة واحدة لهذا العرض المسرحي.لكن،مع ذلك،يجب الإقرار بأن اللغة الجسدية كانت منسجمة مع الملفوظ المسرحي.
ولأن هذا الملفوظ موجود سابقا على الورق،أو هكذا يُفترض،ثم في ذاكرة الممثل.الملفوظ المسرحي هو الذي يحدد لغة الجسد وليس العكس.هذه اللغة الجسدية تساهم،بالإضافة إلى الملفوظ المسرحي،في إبلاغ المعنى.كانت،على سبيل المثال، استدارة الوجه يمينا وشمالا انتقالا من شخصية إلى أخرى في أحد المشاهد.ويمكن القول إن هذه الحركات المصحوبة بالتلوينات الصوتية قد أضفت على الدلالة المسرحية شحنة وبعدا عاطفيين.هذا البعد العاطفي يظهر كذلك من خلال علامة مسرحية تتعلق باللباس.هذه العلامة هي الكوفية الفلسطينية التي اتشح بها جسد الممثل.ومعلوم إن تلك الكوفية،حسب لونها وشكلها،هي رمز لفلسطين.لم يكن الاتشاح بها في العرض المسرحي للزينة،بل كان باعتبارها علامة على الهوية الوطنية الفلسطينية. وقد كانت للكرسي في العرض المسرحي وظائف عديدة.من الناحية الشكلية،كان الوقوف على الكرسي والجلوس.كان الجلوس للاستنطاق الذي قام به محقق المخابرات الأردنية تجاه الأخ الأصغر ناصر أخ الشخصية الرئيسية،وللاستراحة بالنسبة للأب في حديقته.وهو كذلك محمول على الظهر باعتباره حقيبة سفر،وموضوع وفق شكل معين على الأرض باعتباره قبرا يضم رفات المتكلم. كان الزمن لما استُعمل الكرسي باعتباره قبرا زمنا استباقيا لم يدخل في عداد التاريخ بعد.الكرسي إذن باعتباره علامة سيميائية تتغير وظائفه انسجاما مع سيرورة الأحداث في العرض.
لهذا تعددت معانيه فيه.وبطبيعة الحال،فالفضاء يتغير حسب تغير وظيفة هذه العلامة السيميائية،إذ فضاء الاستنطاق ليس هو فضاء الاستراحة.وليس هذان الفضاءان هما المطار الذي يرمز إلى السفر. ويبدو أن متابعة المتكلم،الشخصية الرئيسية، لأحداث وطنه، وإدراكه لتعقيدات القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي،جعلته ييأس من العودة إلى الوطن الحر المستقل غير المستَعمَر وهو على قيد الحياة.من هنا جاء العنوان “سأموت في المنفى”.عنوان يختزل في حد ذاته عمق مأساة الشخصية الرئيسية ومدى تعلقها بوطنها.التعلق بالوطن تبرزه كلمة “المنفى”إذ كل البلدان،بلدان المنفى، لايمكن أن تكون بديلا عن الوطن بالنسبة لهذه الشخصية الرئيسية،وقد أفصحت هي نفسها عن هذا الموقف في العرض المسرحي.
في هذا العرض المسرحي توجد حكاية رئيسية هي حكاية الشخصية الرئيسية أي غنام صابر غنام.ذُكر هذا الاسم بالتحديد في العرض المسرحي من لدن الممثل.تفرعت عن هذه الحكاية الإطار حكايات صغرى،بالمعنى الفني،تتقاطع معا.الحكاية الإطار هي الأصل والحكايات الصغرى فروع.سبب اعتبار هذه فروعا وتلك أصلا هو أن هذه الحكايات الفرعية استدعتها ذاكرة الشخصية الرئيسية لنسج حكايتها.مرد هذا التقاطع بين الحكايات الفروع،كل حكاية على حدة،مع الحكاية الأصل هو أن للشخصية الرئيسية أسرة، وعائلة،وجيرانا.زد على ذلك أنها،أي الشخصية الرئيسية، أُبعدت قسرا عن وطنها حيث عرفت حياة المنفى.ولأن الأمر يتعلق بسيرة ذاتية مسرحية،فإن مادة الأحداث المسرحية تشكلت مما له علاقة بالأسرة،والعائلة،والجيران،والوطن،وحياة المنفى التي كان أول مؤشر عليها في العرض المسرحي هو المطار. لكل حكاية صغرى سياقها وظروفها الخاصة.
فعلى سبيل المثال،يختلف سياق وظروف ومحتوى الحكايتين الصُّغريين،فنيا،الخاصتين بفهمي وناصر،أخوي الشخصية الرئيسية في العرض،عن حكاية الأب صابر والأم خديجة.وكذلك الشأن بالنسبة للمحقق. هذا،وقد تم تقديم الأحداث المسرحية المكونة للعرض المسرحي عبر تقنيتي السرد والتشخيص.في إطار السرد كانت الإحالة على تواريخ عديدة منها ما يتعلق بزمن الولادة وزمني النزوح واللجوء.النزوح يكون داخل الوطن،أما اللجوء فيكون خارجه.غير أن العرض المسرحي،انطلاقا من ثنائية النزوح/اللجوء،كشف عن مؤامرة كانت مدبرة منذ البداية أي منذ سنة 1948 سنة النكبة.ذلك أن أسرة الشخصية الرئيسية تم إبعادها قسرا،كما يوحي بذلك العرض،من كفر عانا إلى أريحا في التاريخ المذكور،أي أن هذا الإبعاد القسري كان داخل الوطن.لكن رغم أنه داخل الوطن فقد أُطلق على أولئك النازحين قسرا اسم “لاجئين”،لاجئون داخل وطنهم .!بعد هذا الإبعاد القسري بسبع سنوات،وبعد النزوح من كفر عانا إلى أريحا كان ميلاد الشخصية الرئيسية أي سنة 1955.هذه الأزمنة تتعلق بشخصيات محددة مذكورة في العرض المسرحي.من شدة تعلق الشخصية الرئيسية بالموطن الأصلي،وهو كفر عانا، الذي ولد وعاش فيه أبوه قبل النزوح وقبل ميلاد الشخصية الرئيسية،أي غنام صابر غنام،ردت هذه الشخصية،أي الشخصية الرئيسية،اسم عانا إلى الإلهة أنات. ومنها ما يتعلق بأحداث تاريخية عرفتها فلسطين والقضية الفلسطينية في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة.
من هذه التواريخ الأخيرة وعد بلفور (2 نونبر 1917)،وتدخل الملك عبد الله الأول في قضية القدس.مدينة القدس التي قدم العرض المسرحي معلومات عن مكونات بشرية فئوية فلسطينية نزحت إليها من مناطق فلسطينية أخرى واستقرت بها بعد احتلال تلك المناطق.كانت لهذه الفئات الاجتماعية الفلسطينية مكانة ووجاهة اجتماعية تبرزها الأوصاف التي وُصفت بها في العرض.أوصاف تبرز كذلك موقف الشخصية الرئيسية منها.لذلك كانت لهذه الأوصاف في العرض المسرحي وظيفتان دلاليتان مختلفتان.فهي تبين، من جهة، المكانة الاجتماعية العليا لتلك الفئات الاجتماعية،وتبين،من جهة أخرى، موقف الشخصية الرئيسية منها. في هذا السياق،أي السياق المرتبط بأحداث تاريخية تتعلق بفلسطين،قدم العرض المسرحي،على لسان الشخصية الرئيسية، تعليقا يكشف عن موقف سياسي واضح ذي بعد وطني.يتجلى هذا في تعليقه على إبرام اتفاق بين الملك عبد الله الأول،ملك الأردن في ذلك الوقت،مع وزير خارجية الكيان الصهيوني (إلياهو ساسون).ينص هذا الاتفاق،حسب العرض،على الموافقة على استقرار تلك الفئات الاجتماعية في القدس.كان تعليق الشخصية الرئيسية على هذا الحدث هو أن العرب يميلون إلى التاكتيك ولكن بدون استراتيجية.تعليق يفيد ضمنا أن المحتل يجمع بين التاكتيك والاستراتيجية. تختلف مسارات كل الشخصيات التي تم استحضارها عبر الذاكرة،والتي تم تقديمها عبر تقنيتي السرد والتشخيص.كما يختلف مسار الشخصية الرئيسية عن بقية المسارات الأخرى.ولتبئير شخصية الأب كان التركيز على اليوميات وبالضبط على الخمسة عشر يوما الأخيرة من حياة هذه الشخصية.في اليوم الأخير من هذه الأيام مات الأب احتراقا.للاحتراق في العرض المسرحي مدلولان مختلفان،مدلول مادي يتعلق بفعل الاحتراق الحقيقي الذي أبرزت سببه حركة يد الأب الجالس على كرسي في الحديقة،ومدلول مجازي يتعلق بالمأساة،إنه احتراق وجداني.لذلك كان الانتقال من المدلول الأول إلى المدلول الثاني إمعانا في الكشف عن عمق المأساة. في المسار الخاص بشخصية الأخ توجد “الجبهة الشعبية” و”حركة القوميين العرب”.
يوجد إذن تكوين سياسي لدى هذه الشخصية،جعلها تعي وتدرك ملابسات القضية الفلسطينية والظروف المحيطة بها داخليا وخارجيا.فكانت المراقبة والمتابعة الأمنية من لدن الشرطة الصهيونية. لاتُتعبر بلدان المنفى المنفى بديلا عن الوطن،الذي عوَض أن تستقر فيه الشخصية الرئيسية وتمتلك أوراق ثبوت هوية فلسطينية،كسائر البشر،استقر هو في ذاكرتها.استقرار مصحوب بالمعاناة، تكشف عنها بوضوح ملامح الشخصية الرئيسية،وحركاتها،والنبر،واللغة اللفظية بعد أن تمكنت من زيارته في سياق زمني مغاير.ليست هذه كلها هي فقط هي التي كشفت عن مدى التعلق بالوطن،بل ظهر هذا التعلق حتى في ذكر عدد محدد يتعلق بدرجات سلم المنزل،والحديقة،والأشجار.
كانت هذه كلها حافزا لإنعاش الذاكرة.هذه التفاصيل لم تُمح من الذاكرة رغم الإبعاد القسري عن الوطن. وطن يسكن في ذاكرة الشخصية الرئيسية عوض أن تسكن فيه هذه الأخيرة،وهي مجبرة على ذلك.هي مجبرة أولا لأنها ولدت بعد سنة النكبة أي سنة 1948 بسبع سنوات أي سنة 1955،ثم بسبب ضغط الأحداث.عدم نسيان الوطن لايوجد فقط في ذاكرة الشخصية الرئيسية،وهي ذاكرة بشرية حية،ولكن يوجد كذلك في ذاكرة المقبرة داخل وخارج فلسطين المحتلة.ففي خارجها،أي في أرض اللجوء،كانت شواهد القبور تشير إلى قرى وبلدات ومدن ولد فيها فلسطينيون قبل أن يرحلوا عنها ويموتون ويُدفنون في أرض اللجوء.في هذه المقبرة توحدت فلسطين،على المستوى الرمزي،إذ في هذه الشاهدة كُتبت حيفا وفي هذه يافا وهكذا دواليك.وفي داخلها حرصت إحدى الشخصيات (إميل حبيبي) على البقاء في حيفا،رغم الاحتلال،وقد أوصت هذه الشخصية بكتابة “باق في حيفا” على شاهدة القبر.ظهر جليا تعاطف الشخصية الرئيسية مع هذه الشخصية الأخيرة من خلال التشديد الصوتي في نطق “باق في حيفا” وحركة اليد والأصبع التي يؤكد على البقاء. نستنتج إذن من خلال ما سبق،أن مقاومة النسيان والسرقة،نسيان وسرقة الوطن المحتل من لدن الاستعمار الصهيوني،تكون عبر الذاكرة البشرية الحية،وكذلك عبر شواهد القبور.تضاف إليهما مقاومة من نوع آخر أشار إليها العرض المسرحي.هذه المقاومة الأخيرة تكون عن طريق الكتابة والإبداع،وهذه هي وصية إدوارد سعيد التي أشار إليها العرض المسرحي.في هذا الإطار،ذُكرت في العرض المسرحي أسماء مثقفين فلسطينيين بارزين قاوموا،من خلال الكتابة والإبداع،الاحتلال الصهيوني ومنهم محمود درويش، وغسان كنفاني، وجورج حبش، وناجي العلي، ووديع حداد، وتوفيق زياد…
ومثلما تعددت الفضاءات المسرحية في مجمل الأحداث والمتواليات المسرحية،تعددت كذلك الأزمنة المسرحية وهي الماضي والحاضر والمستقبل.يتعلق المستقبل بما بعد موت الشخصية الرئيسية.وكم كان المشهد معبرا حينما كان الممثل غنام صابر غنام يجسد شخصية ابنه وهو يؤبنه بعد أن ووري “جثمانه”،مسرحيا،الثرى (بعد عمر طويل).لكن هيمن في العرض المسرحي الزمن الماضي بالمقارنة مع الزمنين الآخرين أي الحاضر والمستقبل. وحينما نراقب ونحلل كل الجمل والأحداث المسرحية،من البداية إلى النهاية،سنلاحظ أن مصدر المادة الحكائية في هذا العرض المسرحي هو التاريخ،الذي شكل مادة أساسية في نسج خيوط هذه السيرة الذاتية المسرحية،تاريخ شخصية يتقاطع مع تاريخ وطن هو فلسطين.هذا التاريخ تم تقديمه عبر الذاكرة ذاكرة الشخصية الرئيسية.لم يتم تقديمه عبر ذاكرتها فقط،ولكن أيضا من خلال منظورها وقراءتها للأحداث التاريخية بلغة مسرحية هيمنت عليها اللغة الدرامية اللفظية.