مقالات ودراسات
الناقد محمد الروبي يكتب: ملاحظات أولية حول “صمت” العرض الفائز بجائزتي النص والممثلة في الدورة 31 من التجريبي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
محمد الروبي
ناقد مسرحي مصري
( ١ )
بداية ..حين وصفت سليمان البسام المسرحي العربي الكويتي في تهنئة عاجلة منذ يومين ب( المجرب ) بالألف واللام .كنت أعني تماما ذلك الوصف الذي استنتجته من متابعتي لعروضه المتتالية منذ ( مؤتمر هاملت ) وحتى ( صمت ).مكتشفا تلك الساحة المتفردة التي يقف فيها وحده لا يتشبه بأحد من المسرحيين العرب السابقين أو اللاحقين.
وإذا كان الحديث الدقيق والمفصل عن ( ملامح مسرح سليمان البسام ) يحتاج إلى الكثير من الصفحات التي أرجو ان انتهي منها قريبا.. فإن إشارة واجبة لملمح واحد خاص تجلى بوضوح هنا في ( صمت ) هو أمر أراه واجبا لفهم لا فقط العرض ولكن لمنهجه الذي أظنه جاء اختيارا واعيا لحالة اجتماعية سياسية فنية يحياها الوطن الأكبر بل والعالم منذ سنوات قد تمتد إلى أكثر من أربعة عقود.
( صمت ) وغيره الكثير من عروض سليمان – بل أغلبها باستثناءات قليلة – ينتمي إلى مايمكن أن نسميه ب( المسرح التسجيلي) في ثوبه العصري الملائم لزمان مغاير عن وقت ظهور ذلك المصطلح الذي بدأ مع ( بيسكاتور) في القرن قبل الماضي. وهنا لابد من التوقف قليلا للتأكيد على أن التجريب في المسرح ( ذلك الذي لم يتوقف لحظة منذ اكتشف الإنسان المسرح وحتى يومنا هذا ) هو في جانب منه إعادة اكتشاف لقديم رأه المجرب الحديث أنه يتوافق وما يشعر به في زمنه.
ولنذكر أنفسنا بما استدعاه بريخت مثلا من ملامح أساسية للمسرح اليوناني القديم في خلق حالة تغريبية يكسر بها حالة الإستكانة للإستثناء باعتباره قاعدة. ( استخدام الأقنعة الخشبية مثلا .. الجوقة .. الإضاءة التي تحيل الليل إلى نهار .. إلخ).
وبالعودة الى (صمت) ولفهم الملمح التسجيلي فيه عليك أن تعود إلى أصل الواقعة التي انطلق منها البسام ليشكل عرضه وهي واقعة ( انفجار مرفأ بيروت المزلزل الذي حدث منذ عامين وسريعا ما لفه صمت مريب أكدته احداث تالية غيبته عن الساحة. وهاهو يعود إليه البسام لا ليذكرنا به فقط ولكن ليضغط به على جرح أعمق وأشد وجعا.
إن أردت فهم صمت عليك أن تعود إلى الواقعة وملابساتها بل و سأعطيك عزيزي القارئ تحليلا ( أمنيا ) لواحد من كبار المحللين اللبنانيين. وهو العميد المتقاعد ( إلياس فرحات ) الذي ذكره سليمان وبالاسم في نصه ( النص في حد ذاته هو قصيدة نثرية مطولة تتقاطع مع شهادات تسجيلية تزيدها ثراء) . وبعدها نستكمل معا محاولتي لقراءة عرض صمت ومنهجه التسجيلي العصري
يتناول العميد المتقاعد إلياس فرحات في واحدة من مقالاته الحدث متخذا من توقيت الإنفجار بالساعة والدقيقة والثانية مدخلا لفهم ماحدث. وهنا ربما سنفهم لماذا كانت الساعة هي العنصر الأبرز في تشكيل خشبة (صمت).
يقول إلياس:
( مضت أربع سنوات على انفجار مرفأ بيروت المأساوي الذي هزّ العاصمة والبلد المهتز أساساً من كثرة أزماته وأدّى إلى سقوط نحو ٢٢٠ قتيلاً ومفقوداً وأكثر من ستة آلاف جريح، فضلاً عن أضرار مادية في معظم أحياء العاصمة بيروت.
وقع الانفجار عند الساعة السادسة والدقيقة الثامنة عصراً ونجم عن انفجار كمية كبيرة من نيترات الأمونياك قدّرت بنحو ٢٧٠٠ طن. وقد أحال مجلس الوزراء قضية التفجير على المجلس العدلي. سأتناول في هذا المقال الكلام الوقائع الثابتة والمتفق عليها وأبرزها الآتي:
أولاً؛ البداية مع الباخرة روسوس:
في٢٣ أيلول/سبتمبر، أبحرت الباخرة روسوس (MB Rhousos) رافعة علم مولدافيا من ميناء باتوم على البحر الأسود في جورجيا وهي تحمل كمية من نيترات الأمونياك تقدّر بنحو ٢٧٥٠ طناً مصدرها شركة روستافي أزوت في جورجيا متجهة إلى مرفأ ماتولا في موزامبيق (يعتقد أنها تستعمل في تفجير الصخور في مقالع في الموزامبيق) ولدى وصولها إلى اسطنبول توقفت مدة يومين ثم تابعت مسيرها في ٣ تشرين الأول/أكتوبر باتجاه البحر المتوسط. قبل وصولها إلى نقطة قبالة المياه الإقليمية اللبنانية، طلب وكيلها البحري أن ترسو في مرفأ بيروت لشحن كمية من البضائع على أن تفرغها في ميناء العقبة الأردني وهي في طريقها باتجاه مرفأ بيرا بموزامبيق. دخلت الباخرة المياه الإقليمية اللبنانية ورست في مرفأ بيروت في ٢١ تشرين الأول/أكتوبر.
الجدير بالذكر أن غرفة العمليات البحرية المشتركة هي السلطة التي تضبط الملاحة في المياه الإقليمية وخروج ودخول السفن من وإلى المرافئ اللبنانية. لم يتبيّن ما إذا كانت هذه الغرفة أخذت بالاعتبار نوع الحمولة، أي النيترات، وكميتها قبل إعطائها الإذن بالدخول أو أشارت إلى باقي السلطات الممثلة في الغرفة حول نوع الحمولة ومخاطرها.
ثانياً؛ الباخرة روسوس في مرفأ بيروت:
هكذا وصلت الباخرة إلى مرفأ بيروت في ٢١ تشرين الثاني/نوفمبر (لاحظ كم هي بطيئة) ورست على رصيف بحري لجهة الجنوب. وقد ورد في الموقع الإلكتروني للباخرة أن مالكها الروسي إيغور غريشوشكين لم يمتلك المبلغ اللازم لدفع رسوم عبور قناة السويس والأرجح أنه فضّل شحن معدات من بيروت إلى العقبة للحصول على المبلغ المطلوب. عندما حملت الباخرة المعدات وهي آليات حفر ثقيلة، وضعت في الفتحة المؤدية إلى منطقة تخزين أكياس النيترات فأحدثت ثقوباً وتخريباً في السفينة، مما حمل الوكيل البحري على إعادتها وصرف النظر عن نقلها إلى العقبة وأدّى ذلك إلى تفاقم المشاكل التقنية للباخرة. أجرت سلطات مرفأ بيروت كشفاً فنياً على الباخرة فتبيّن أنها تُعاني من مشاكل في المحرك ومن عيوب تقنية تمنعها من الإبحار في حالتها الراهنة. كان طاقم الباخرة يتألف من ثمانية أوكرانيين وروسي واحد.
سمحت السلطات اللبنانية بمغادرة خمسة أوكرانيين وبقي ربّان الباخرة ومعه ثلاثة في الباخرة لمتابعة شؤونها. أعلن مالك الباخرة إفلاسه وقُدّمت ثلاث دعاوى على الباخرة من الدائنين. باع قبطان الباخرة قسماً كبيراً من الوقود ودفع لمحامين وتقدم بدعوى السماح لطاقم السفينة الباقي وهو أربعة بالمغادرة نظراً لبقائهم فترة طويلة على متن الباخرة وأصدر قاضي الأمور المستعجلة قراراً يسمح بمغادرتهم. قررت السلطات القضائية اللبنانية الحجز على الباخرة. ورد على موقع الباخرة أن الحمولة الخطرة نقلت إلى البر ووضعت في العنبر رقم ١٢.
ثالثاً؛ النيترات في العنبر رقم ١٢:
وُضعت أكياس النيترات في العنبر رقم ١٢ من دون متابعة حتى شباط/فبراير ٢٠١٦ عندما أرسلت مديرية الجمارك العامة كتاباً إلى وزارة الدفاع الوطني – قيادة الجيش تعلمها فيه أنها فحصت النيترات وتبيّن أنها تحوي نسبة ٣٤،٧٪ أزوت. نشير إلى أن المادة ١٧ من قانون الأسلحة والذخائر تنص على أن النيترات فوق نسبة ٣٣،٥٪ أزوت تخضع لإجازة مسبقة من وزارة الدفاع الوطني. نشر على مواقع التواصل الاجتماعي كتاب الجمارك ونشر أيضاً رد قيادة الجيش الذي يطلب عرضها على الشركة اللبنانية للمتفجرات (مجيد شماس) لإمكانية الاستفادة منها وفي حال عدم الرغبة إعادة تصديرها إلى بلد المنشأ على نفقة مستورديها.
برغم ذلك بقيت كمية نيترات الأمونيوم الخطرة في العنبر رقم ١٢ إلى حين انفجارها.
رابعاً؛ الانفجار:
بعد ظهر الرابع من آب/اغسطس ٢٠٢٠، تلقّت إطفائية بيروت اتصالاً يفيد بنشوب حريق في العنبر رقم ١٢ في مرفأ بيروت فتوجهت سيارات الإطفاء من الكرنتينا إلى مكان الحريق وبدأت بإطفائه وبعد عشر دقائق وقع الانفجار. دام الحريق قبل الانفجار نحو ٢٠ إلى ٣٠ دقيقة وهو الوقت اللازم لجهوزية رجال الإطفاء والانتقال من الكرنتينا للعنبر رقم ١٢ وضمناً عشر دقائق استغرقتها عملية الإطفاء. الجدير بالذكر أن رجال الاطفاء استشهدوا في الانفجار.
فترة النصف ساعة تقريباً من حريق المواد المخزنة مع النيترات والتي عرف منها مفرقعات ودهانات وتينر كانت كافية لإنتاج درجة حرارة عالية أدّت إلى انفجار النيترات. لذلك يستبعد أن يكون التفجير حصل من الخارج بقصف أو بصاروخ.
خامساً؛ عن مرفأ بيروت والصلاحية الأمنية:
بموجب بروتوكول ١٨٦٤، بقيت مدينة بيروت تابعة لولاية بيروت العثمانية وذلك مع إنشاء متصرفية جبل لبنان. أنشأت المتصرفية درك جبل لبنان وهو نواة قوى الأمن الداخلي. لم يسمح للدرك الانتشار في المرفأ لأنّه كان تابعاً حسب التنظيم العثماني لولاية بيروت. في العام ١٩١٨، انهارت السلطنة العثمانية ودخلت القوات الفرنسية وانشأت عام ١٩٢٠ دولة لبنان الكبير وضمت مدينة بيروت إليها. أصدرت عصبة الأمم صك انتداب فرنسا على لبنان وفي عهد الانتداب الفرنسي استمر منع قوات الدرك من العمل في مرفأ بيروت. في العام ١٩٤٣، نال لبنان استقلاله وبقي وضع المرفأ على حاله. في العام ١٩٥٩، أُنشئت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من الدرك وشرطة بيروت والوحدات الأخرى.
بقي وضع المرفأ على حاله. في العام ١٩٧٧، أنشأت الحكومة اللبنانية جهاز أمن المطار وهو قيادة تنسق بين الأجهزة العاملة فيه: قوى الأمن الداخلي والجيش والأمن العام والجمارك وغيرها.. باختصار بات للمطار مرجعية أمنية. أما في مرفأ بيروت فقد بقي الوضع كما كان عليه أيام السلطنة العثمانية وما زالت وحدات الدرك ولاحقاً شرطة بيروت لا تتدخّل في المرفأ علماً أن الأمن العام يقوم بوظائف الضابطة العدلية. بات من الضروري والملحّ إنشاء جهاز أمن لمرفأ بيروت يتألف من جميع القوى الأمنية ويكون مرجعية أمنية مماثلة لجهاز أمن المطار، علماً أن مفرزة مخابرات الجيش انتشرت في مرفأ بيروت عام ١٩٩٣ مثل المفارز المنتشرة في المرافئ وعلى المعابر الحدودية بهدف مكافحة التهريب استناداً إلى قرار مجلس الوزراء وليس لحفظ الأمن.)
والأن .. فلنكتفي بهذا القدر – الذي طال أكثر مما كنت اظن – ولنعد بعد فترة من تأمل إلى العرض المسرحي في محاولة لاكتشاف باقي ملامحه.