د. أنيس حمدي يكتب: الشيزوفرينيا استعارة مسرحية للتعبير عن مجتمع مأزوم .. “مراهين” على ركح مدينة الثقافة التونسية

المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات
ـ
د. أنيس حمدي
أكاديمي وناقد من تونس
في عتمة لا يكسرها إلا ضوء مصابيح يدوية صغيرة يرى الجمهور دخول ثلاثة أجساد تتراقص في الظلام. ثم تظهر ثلاث وجوه أحدها فوق الآخر، وجوه ممتقعة كأن ذلك من أثر صدمة. و العيون تنظر إلى شيء ما، رغم أنها تحدق إلا أنها في الفراغ تحدق.
إنا في الحقيقة لا تنظر إلى الخارج بل إلى الداخل تنظر. ثم تتحرك تلك الأجساد و تتلوى، كأنها من أثر الاحتراق تتلوى. و تصل تلك الشخوص إلى مقدمة المسرح في حركة لولبية، كأنها تتصارع على المكان.
كل منها يريد أن يظهر تحت الضوء في المقدمة وحده دون البقية. و يتداول ثلاثتهم المرور على المكان الأول، كل يحاول إبعاد الآخر. وما يلبثون أن يلفهم جميعا ظلام. ذلك هو المشهد الذي يفتتح عرض مسرحية “مراهين” لخليل الرحيمي التي عرضت في بداية هذا الموسم على مسرح المبدعين الشبان بمدينة الثقافة التونسية.
بهذا التمثيل الرمزي لشخصيات قلقة مشوشة وخائفة وضائعة في صراع نفسي داخلي كما هو خارجي مع الآخر، بشرت المسرحية بموضوعها عن التخبط والعجز و العزلة. ثم يُضاء المسرح على فضاء لا أثاث فيه سوى حاملة ملابس و مقعد خشبي بلا مسند، لا يتسع لأكثر من شخصين، وحُزم من الجرائد. المكان واحد، وهو منزل ممثلة مسرحية ظلت طوال حياتها تعاني آثار حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها في شبابها. يشاركها السكن إبنها الذي خلفته حادثة الاغتصاب.
فنشأ نشأة غير سوية مع أم تعاني اضطراب ما بعد الصدمة و تعامله بشيء من حب ورعاية مخلوطان بقسوة وكراهية دفينة ورغبة قديمة في التخلص منه، كأنها تحمله مسؤولية حياتها الشقية، وعبء أمومة لم تردها و عارا لم تستحقه. ظلت رغبة التخلص من الولد تترد في فؤادها منذ حملت به، فكبُر مشتتة ذاته مبعثرة شخصيته. فها هي تنفذها الآن فتخنق ولدها في نهاية المسرحية وهو كهل. لا تقتله إلا لتقتل صدماتها وتخبطها و اجترارها للعذابات و عجزها عن التجاوز. و لكنها لا تمحو ذاكرة ملعونة إلا بقدر ما تخلق ذاكرة ألعن، و لا تداوي جراحا إلا بقدر ما تفتح جراحا أكبر. إنها لا تقتله إلا لتقتل أكثر الأشياء نقاء فيها وبراءة. كيف تتفاقم تمزقات الذات و صراعاتها،
و تحتقن النفس صدماتها الأليمة لتتحول إلى طاقة عنف و يتحول الضحية إلى جلاد ؟ لا يجلد إلا نفسه و لا يدمر إلا ذاته في النهاية. و لكن مأساة الأم وولدها هي كذلك صورة لمجتمع مريض يسمح بالاعتداء الضحايا في البدء وفي المنتهى و لا يكف عن تجديد دورة العنف.
لطالما ألهمت الحالات الذهانية كالفصام (الشيزوفرينيا) و جنون الارتياب (البارانويا) صُناع المسرح لتصوير العوالم المتداخلة التي يعيش فيها المريض وتصوير تخبطه في الاضطراب النفسي وعزلته عن الواقع.
كانت مسرحية بسيكوز لسارة كاين أحد أشهر المسرحيات التي جسد الاضطرابات النفسية الحادة التي تؤدي إلى الانتحار. فقد كانت الكاتبة المسرحية الشهيرة تعاني من حالة اكتئاب شديدة أثناء كتابتها لنص مسرحية بسيكوز، و دخلت المستشفى بعد تناولها جرعة زائدة من مضادات الاكتئاب قبل أن يُعثر على جثمانها في مراحيض المستشفى حيث شنقت نفسها.
ومازال العمل الذي ارتبط بالحالة الصحية للكاتبة و حادثة موتها يلهم المخرجين منذ أكثر من 25 سنة. أما في تونس فما زلنا نذكر مسرحية جنون للفاضل الجعايبي التي تعمقت في تناول شخصية “نون” الفصامي وبقي تجسيد الممثل محمد علي بن جمعة لهذه الشخصية في ذاكرة المشاهدين باعتباره أداء أيقونيا. وها هي مسرحية مراهين تستعيد الاشتغال على حالات الفصام والاضطرابات النفسية العميقة.
و لكنها لا تقوم على مجرد تدفق تيار الوعي أو مجرد التعبير عن أعماق النفس التي تعاني الاضطرابات الحادة، مع تتداخل الجمالية التعبيرية ببعض وجوه العبثية من حيث غياب المعنى أحيانا و ما بعد الدرامي من حيث الابتعاد عن البنية الدرامية التقليدية، كما هو شأن مسرحية بسيكوز لسارة كاين. كما أنها لا ندرج ضمن واقعية الجعايبي المتحولة و أسلوبه النقدي الاجتماعي المباشر.
في مسرحية مراهين لدينا مقاربة لعلها تقترب أكثر ما تقترب من الجمالية التعبيرية، حيث لا تغيب البنية الدرامية التقليدية إلا بقدر ما تكسر الترتيب الخطي و تلاشي المدلولات الزمنية الواضحة. تنحو المسرحية إلى مقاربة نقدية اجتماعية و لكن من منظور نفسي داخلي يصور في الحقيقة أزمة مجتمع كامل من خلال ما تتورط فيه الشخصيات من أزمات، فتعاني العزلة والتخبط و الاغتراب عن الآخر و لكن عن النفس ذاتها.
إنها محاولة مسرحية تحاول تجاوز تصوير المعاناة و سرد وقائعها إلى تشريك الجمهور فيها، كأن شكل العمل ومضمونه يندمجان في تجربة واحدة يكون الجمهور شريكا في المعاناة داخلها. فليست شخصيات المسرحية فاعلة مريدة، غاضبة مزمجرة، بل أقرب إلى أن تكون شخصيات تجتر هزائمها، تلوك بواعث آلامها، تأكل نفسها، و تحترق ببطء. أما الممثلون وأدائهم فقد اتسم بالبحث في الأعماق، و معايشة ضروب التمزق الداخلي و الاضطرابات النفسية. كانت العلاقة بين الأم التي قامت بدورها الممثلة سميرة مسيخ، و إبنها الفصامي الذي لعبه الممثل كمال الصغيّر، علاقة معقدة وجريحة. أما الشخصية الثالثة فقد لعبتها الممثلة إشراف بن فرج فكانت طيفا من خيالات مريض الفصام لا تحضر إلا في انفصاله عن الواقع تعبيرا عن هواجسه وآماله.
تدور أحداث المسرحية من أولها لآخرها في مكان واحد معزول عن العالم تقريبا. وهو أقرب ما يكون لمخبر كوابيس ممضة. عالم لا نعيش فيه إلا بقدر ما نريد التخلص منه. تلك حال الشخصيات و قد اجتهد الممثلون في التجسيد الصادق لها باعتبارها شخصيات تعاني إعاقات روحية عميقة. كانت حاملة الملابس جزءا من محتويات البيت
و لكنها كانت جزءا من عالم كواليس المسرح الأم ممثلة و ابنها أخذ عنها الولع بالتمثيل و كلاهما يغيّر ملابسه لتجسيد بعض شخصيات المسرح العالمي المحببة إليه. لم تكن معاناة الشخصيات التي يحبون التدرب على أدائها بمعزل عنهم معاناتهم الحقيقية. هناك أيضا كرسي خشبي بلا مسند تغير موقعه أثناء المشاهد وتغير دوره أيضا، و تم استعماله كمنبر للخطابة. كان الإبن الفصامي يتمرن على التمثيل في غرفته و يتوهم أنه ينظم حفلا لتكريم الممثلين الراحلين.
أما حُزم الجرائد فشكلت ديكور الفضاء و أعادت تشكيله عدة مرات، فتحولت إلى سرير وإلى كراسي وإلى غير ذلك. و في النهاية تحولت إلى مذبح ضحت عليه الأم بابنها عندما قتلته خنقا. بدت حُزم الجرائد الثقيلة بما انكتب فيها من حوادث الأيام و مصائبها، ذاكرة للهموم و الآلام. و الممثلون ينقلون حُزم الجرائد عن تغيير المشاهد تنوء بها كواهلهم كما تنوء ذاكرتهم بثقل الماضي.
ثم إن جانبا من تلك الجرائد تمزق في النهاية، وامتلأ المسرح بأجزاء الورق التي ترمى في كل مكان كأن قطع من الأزمان الماضية تفككت و تشظت. لا بد في النهاية أن نشير إلى أن وحدة المكان الدرامي و قلة العناصر السينوغرافية التي تكوّن الديكور لم تحل دون الإحساس بالتنوع البصري، بل كانت غنية بالدلالات و خدمت في النهاية المقاربة التعبيرية للعمل و موضوع الاضطرابات النفسية.