المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. علي خليفة
(١)
شخصية عطيل هي إحدى الشخصيات التي ابتكرها شكسبير، ومن شدة قدرته على خلقها جعلنا نشعر أنها شخصية حية، ولها وجود إنساني، شأنها في هذا شأن سائر الشخصيات التي ابتكرها شكسبير، وأفاض عليها من موهبته الكبيرة حتى صارت تضج بالحياة.
وعطيل كما رسمه شكسبير في مسرحية عطيل هو من أصول إفريقية، ويبدو أنه أصابته العبودية في صغره، ولكنه نال حريته بشكل أو بآخر، واستطاع من خلال فروسيته وشجاعته ومهاراته في الحروب أن يكون له دور في مجتمع هو دخيل عليه، هو مجتمع البندقية في القارة الأوروبية.
ويرفع أمير البندقية من قدر عطيل لتلك المهارات الكبيرة منه في القتال، وقيادة الجيوش.
ويعجب عطيل بإحدى فتيات البندقية الجميلات، ويكون من حسن حظه أنها تعجبت به هي أبضا، وتحول إعجابها به لعاطفة قوية، وكان إعجابها به وحبها إياه؛ لإعجابها بمهاراته في القتال وقيادة الجيوش، وللمغامرات العجيبة التي تحكى عنه في ذلك، وكان عطيل يستميل قلبها بهذا الأسلوب، وبتوده لها، كلما استطاع أن يلتقي بها.
ويرفض والد ديدمونة رغبة عطيل في أن يتزوج من ابنته الوحيدة ديدمونة؛ لأنه يستشعر أنه غير كفء له لسواد بشرته، ولا يرى في بطولاته الحربية ما يمحو عنه كونه غريبا على هذا المجتمع من أصحاب البشرة البيضاء.
ويتفق عطيل مع ديدمونة على أن تهرب من بيت والدها، ويتزوجا رغما عنه، ويتم لهما ما يريدان، وحين يعرف والد ديدمونة بذلك يستنكر بشدة ما فعلته ابنته، ويراها خائنة له، ولسلالتها البيضاء التي تنتمي لها، ويحذر عطيل من أنها ستخونه كما خانته.
وعلى الرغم من براعة عطيل في فنون القتال، وحسن إدارته للمعارك، لكنه يستشعر عقدة نقص في ذلك المجتمع الذي يعيش فيه من أصحاب البشرة البيضاء، ولعله كان يحاول أن يتناسى تلك العقدة بسعيه المتواصل لتحقيق انتصارات جديدة في كل حملة يقودها في أي معركة من المعارك.
ويدرك ياجو عقدة النقص هذه عند عطيل، فيوحي له بأن حب ديدمونة له شيء لا يتفق والمنطق والمعقول، وأنه من الطبيعي أن تخونه، وبعد أن يلمح له ويشعل جذوة النقص الخامدة بداخله، يصارحه بأنها تخونه مع مساعده كاسيو، ويأتي ببعض الأدلة المصطنعة من ناحيته التي استغلها لهذا الأمر، وكان ياغو يقصد من ذلك أن ينتقم من عطيل؛ لأنه غير مقتنع بأن يكون شخص زنجي مثله قائدا على جيش لبلده، ويكون هو وغيره من أهل هذا البلد تابعين له، فهو شخص تتضح فيه العنصرية، ويضاف لهذا أن عطيل كان قد اختار كاسيو مساعدا له، وكان ياغو يرى أنه أحق بهذا المنصب منه، فقرر أن ينتقم من عطيل وكاسيو بأن يبث الشك في نفس عطيل بأن ديدمونة تخونه مع صديقه ومساعده كاسيو.
وتنفجر عقدة النقص التي عند عطيل، ويصدق الأدلة التي اصطنعها ياجو ليؤكد لعطيل خيانة ديدمونة له، ولا يتأنى عطيل في غضبه، بل إنه يبادر باتهام ديدمونة، ويقرر قتلها ظانا أنها تخونه.
وبعد أن يقتل عطيل ديدمونة يكتشف براءتها، ويدرك أن ياجو تلاعب به، وأوقعه في مصيدة الشك، وانتهى به الأمر بقتل زوجته الطاهرة ديدمونة.
ويستطيع عطيل أن يغافل من حوله، ويمسك بسيف ويقتل نفسه؛ لأنه لم يكن قادرًا على مواجهة من حوله بعد ارتكابه هذه الجريمة، وكذلك لم يكن يرى أنه يستطيع أن يواصل العيش بعد أن فقد ديدمونة العفيفة الطاهرة التي قتلها ظانا أنها تخونه.
(٢)
وفي مسرحية عطيل يعود لكازانتزاكيس نرى شخصا معاصرا – هو ألكو – يقوم – في مسرحية تتم من خلال تمثيل داخل تمثيل – بتمثيل شخصية عطيل، وتقوم زوجته ماريا بتمثيل دور ديدمونة، ويقوم ممثل ثالث صديق لهما هو ميتسو بتمثيل شخصية ياجو، وذلك قي مسرحية قام مدير أحد المسارح بتأليفها واخراجها بعد أن رأى فيما يشبه الحلم أن عطيل قد عاد للحياة، وحاوره، وأخبره عطيل أنه عرف في العالم الآخر من شخص يدعى وليم – هو وليم شكسبير – أن ديدمونة بريئة، وأنه يتمنى أن يجمعه بها في مسرحية يعيشان فيها في سعادة وهناء، ويعجب مدير المسرح باستدعاء عطيل في مسرحية جديدة، ولكن في أحداث متوترة كالتي كانت في مسرحية عطيل، وليس من خلال أحداث هادئة.
ويتصادف أن تكون الممثلة ماريا قد كتبت رسالة تطلب فيها إلى مدير المسرح هذا أن يضعها في دور في إحدى المسرحيات تخون زوجها فيه، لتسكت الوسواس الذي يدفعه لخيانة زوجها في الواقع.
وفي تلك المسرحية الني كتبها وأخرجها ذلك المدير يتم إعادة عرض جوانب من مسرحية عطيل برؤية جديدة، ونرى قدرا كبيرا من الارتجال في ذلك العرض، ونرى أيضا أن مدير المسرح يمزج في تلك المسرحية التي يؤلفها ويخرجها بين واقع حياة هؤلاء الممثلين الذين يمثلون في ذلك العرض، وما يمثلونه فيه.
ويتفق مدير المسرح مع الممثل ميتسو على أن يوهم ألكو أنه يخون زوجته في الحقيقة حتى يندمج في أداء شخصية عطيل، ويتأكد ألكو وهو يقوم بشخصية عطيل من خيانة زوجته له، وقبيل أن يتم تمثيل الموقف الذي فيه يقتل عطيل ديدمونة يعترف ميتسو لألكو بأن زوجته ماريا شريفة، وأنه لا يوجد أي علاقة بينه وبينها، وأن كل ما رَآه من إشارات تدل على حبه لها كان بتوجيه من مدير المسرح لإثارة غيرته؛ ليندمج في أداء دور عطيل.
ومن الغريب ألا يقتنع ألكو بكلام ميتسو، ويفرح بذلك مدير المسرح، فهو لا يهمه غير أن يندمج ألكو في أداء دور عطيل.
وخلال قيام ألكو بتمثيل الموقف الذي يقتل فيه ديدمونة الذي تقوم به زوجته إذا به يقتل زوجته ماريا بالفعل، وعند ذلك يشعر مدير المسرح بأنه أسرف في استدراج ألكو ليشعربالغيرة على زوجته، وإشعاره انها تخونه.
ثم نرى مدير المسرح يضحك، ويقول للمشاهدين: إن كل ماشاهدوه كان تمثيلا، ويطلب إلى الممثلة التي قامت بدور ماريا أن تقف لتحيي الجمهور، وتفعل ما طلب إليها فعله.
وكما نرى فألكو في هذه المسرحية هو عطيل الذي عاد من جديد، وتداخل عليه الأمر في الربط بين المسرحية التي يمثلها، والواقع الذي يعيشه، وظن أن زوجته التي تقوم بدور ديدمونة تخونه بعد أن أوهمه مدير المسرح وميتسو بذلك، وانتهى الأمر بأن قتلها، ثم يقول مدير المسرح للجمهور: إن ما شاهده الجمهور كان كله تمثيلا في تمثيل.
ونرى أن ألكو في هذه المسرحية قد انساق للطريق الذي سار فيه عطيل في الشك في زوجته، وتم المزج بين الشخصيتين حين تماهى ألكو في شخصية عطيل، وقتل ماريا، في الواقع وهو يمثل الموقف الذي قتل عطيل فيه زوجته ديدمونة.
ومن هنا نرى أن كازنتزاكيس يريد أن يقول في هذه المسرحية: إن ما فعله عطيل يمكن أن يفعله غيره من الرجال دون أن يكون دافعهم لذلك عقدة نقص عندهم كعطيل، ولكن لأنهم انساقوا وراء من خدعوهم وأوهموهم بخيانة زوجاتهم لهم كحال مدير المسرح وميتسو مع ألكو في هذه المسرحية.
ومن الطريف في هذه المسرحية أن نرى الممثل الذي يقوم بدور ياغو هو نفسه الذي يحاول أن يظهر لألكو طهارة زوجته وعدم خيانتها له معه، ولكن ألكو كان قد صار مثل عطيل شكسبير لا يرى غير اتهام زوجته بالخيانة، وضرورة قتلها.
(٣)
وفي مسرحية المخرج لتوفيق الحكيم نرى علوي الممثل قد اندمج أكثر مما ينبغي في دور عطيل الذي مثله في أحد الأفلام، حتى لقد جن وصار يعد نفسه عطيل، وبحث عن الممثل الذي قام بدور ياغو في ذلك الفيلم، ووجده في مقهى وقتله، وانتهى الأمر بعلوي في أن عرض على طبيب نفسي خلال حبسه، واستطاع أن يفر من محبسه، وجاء للمخرج الذي أخرج ذلك الفيلم يسأله عن المكان الذي وضعت فيه جثة ديدمونة؛ ليطبع على خدها قبلة قبل أن توارى التراب، ويحتال مساعد المخرج على علوي، فيوهمه أنه سيذهب به للمكان الذي فيه ديدمونة، في حين أنه كان سيأخذه ليعيده للحبس الذي كان فيه.
وأغلب الظن أن توفيق الحكيم كان قد قرأ مسرحية عطيل يعود قبل أن يؤلف هذه المسرحية؛ لأننا نرى في هاتين المسرحيتين شخصا يقوم بدور عطيل، ويندمج فيه، ويقوم بجريمة قتل خلال ذلك، وفي مسرحية عطيل يعود يقتل الشخص الذي يمثل شخصية عطيل زوجته التي تقوم بدور ديدمونة في تلك المسرحية التي يشتركان في تمثيلها، وفي مسرحية المخرج يقتل الشخص الذي يقوم بشخصية عطيل الشخص الذي قام بشخصية ياغو بعد أن اندمج في التمثيل، وأصابه الجنون، وظن أنه عطيل في الواقع.
ويبدو في مسرحية عطيل يعود ومسرحية المخرج أن الشخص الذي يقوم بدور عطيل يستثير الضحك ببعض تصرفاته وأفعاله، ولكن عطيل عند شكسبير في مسرحية عطيل شخص جاد، وانساق لقتل زوجته باستثارة ياجو شعوره بالنقص.
