مقالات ودراسات
د. علي خليفة يكتب.. عن الخاتمة في المسرح اليوناني القديم
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالت ودراسات
ـ
د. علي خليفة
أعتقد أن تقسيم المسرح اليوناني القديم إلى كوميديا وتراجيديا في حاجة لمراجعة كبيرة، فإن الإغريق – كما يبدو من النصوص المسرحية التي وصلت إلينا منهم – قد عرفوا أشكالا إخرى من المسرح، ومنها ما هو قريب من الميلودراما بمفهوم عصرنا، كما نرى في مسرحية إيون، ومسرحية إفيجينيا في تاوريس ليوربيديس، كما أنهم عرفوا ما يمكن أن نطلق عليه بالتراجيكوميدي، كما نرى في مسرحية ألكستيس ليوربيديس.
وقد كان استكشاف الإغريق لفن المسرح يأخذ حالة من الابتكار المستمر، وأعتقد أن كتاب فن الشعر لأرسطو كان مقننا لبعض النماذج من الكتابات المسرحية للإغريق، وليس لكل الأشكال المسرحية التي توصلوا لها.
وسأكتفي هنا بالحديث عن أشكال مختلفة من الخاتمة في المسرح الإغريقي، وهذا التنوع في تلك الأشكال يؤكد ما ذكرته من أن الإغريق عرفوا تنوعا في الكتابات المسرحية يتجاوز التراجيديا والكوميديا.
أولا: الخاتمة الطويلة
لا شك أنه يعد عيبا كبيرا في مفاهيمنا الحديثة للمسرح أن تكون الخاتمة طويلة، فمن المتعارف عليه أن الخاتمة لا بد أن تأتي سريعة وقصيرة في ختام المسرحية، ولا بد أيضا أن تكون متلاحمة بما سبقها من أحداث، وفي الوقت نفسه فيجب أن يكون فيها قدر من المفاجأة والإدهاش للمشاهد.
ولكننا نرى بعض المسرحيات الإغريقية الشهيرة ذات نهايات طويلة، بل إن هذه النهاية في بعض هذه المسرحيات قد تصل إلى ما يعادل ربع مساحة هذه المسرحيات، ويبدو أن سوفوكليس – على وجه الخصوص – قد عرف بهذه النهايات الطويلة في بعض تراجيدياته، كما نرى في مسرحية أوديب ملكا، ومسرحية أنتيجونا، ففي مسرحية أوديب ملكا تنتهي الأحداث فيها حينما تكتشف جوكاستا أن أوديب ابنها فتشنق نفسها، وحينما يدرك أوديب هذا الأمر يفقأ عينيه، ويستعد لرحلة التشرد في البلاد غريبا بعد أن كان ملكا عظيما، ولكن هذه المسرحية لا تنتهي عند ذلك، ولكننا نرى عرضا مطولا بعد ذلك لعرض أوديب لآلامه ومعاناته، وهجومه على الأقدار التي قصدته بهذه الآلام، وأيضا نرى في هذه الخاتمة الطويلة الجوقة تردد العبرة من هذه المسرحية، وتمجد الآلهة الوثنية، وتتحدث عن مصير الإنسان الذي تحفه الآلام، وأنه لا يجب الحكم على أي شخص بالسعادة إلا بعد أن تنتهي حياته على الأرض.
وهذه النهاية الطويلة لهذه المسرحية بعد شنق جوكاستا لنفسها وفقأ أوديب عينيه لا تحمل أحداثا مهمة، وهي تبطئ حركة المسرحية، ولكن الجمهور اليوناني القديم كان يعجب بها؛ لأنه يشعر بالشفقة على أوديب بتكراره لآلامه، وأيضا كان يشعر بالخوف من أن يكون مصيره مثله، ومن ثم يحدث له التطهير، كما ذكر هذا أرسطو في كتاب فن الشعر.
وأيضا كان الجمهور اليوناني القديم يرى في هذه الخاتمة الطويلة أدعية وابتهالات لآلهته الوثنية، وذكرا لبعض الشعائر الدينية، فكان لا يشعر بضيق لطول هذه النهاية في هذه المسرحية وأمثالها.
ونرى الأمر كذلك في مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس، فالأحداث تنتهي فيها حين يقتل هيمون نفسه بعد انتحار خطيبته أنتيجونا، وانتحار والدة هيمون وزوجة كريون حزنا على موت ابنها، ويدرك كريون أنه تسبب في كل هذه المصائب، ولا تتوقف المسرحية عند ذلك فإننا نرى كريون يجأر بالشكوى كثيرا، ويتحدث عن الأقدار التي رصدته بانتقامها، وترثي الجوقة لحال الأشخاص الذين ماتوا في هذه المسرحية، وتشعر بالأسى لحال كريون، كما أن الجوقة تذكر العبر من حوادث هذه المسرحية، وما انتهت إليه، وتردد بعض الابتهالات للآلهة لتصرف أذاها عن البشر.
وأعتقد أن الجمهور كان يعجب بهذه النهاية الطويلة في هذه المسرحية أيضا للأسباب التي ذكرتها من قبل بخصوص مسرحية
أوديب ملكا.
ثانيا: الخاتمة التي تأتي من خلال تدخل قوى غيبية
وبعض المسرحيات الإغريقية القديمة تتصاعد فيها الأحداث، ثم نفاجأ بأن الحل يأتي فيها من تدخل قوى غيبية، وهي – في الغالب آلهة وثنية – وتذكر الحل لهذه الأحداث التي تم تصعيدها في هذه المسرحيات.
ونرى مثالا لذلك في مسرحية فيلوكتيتس لسوفوكليس، ففي هذه المسرحية يرفض فيلوكتيتس أن يصحب بعض الإغريق لحرب طروادة بعد أن أجبر على مغادرتها إثر إصابته بجرح في قدمه خرج منه صديد، ولكن الإغريق في حرب طروادة عرفوا من خلال نبوءة أن النصر لن يتم لهم في هذه الحرب إلا بعودة فيلوكتيتس لها ومعه قوس صديقه هرقل وسهامه.
ونرى نهاية هذه المسرحية في ظهور شبح هرقل – وكان هرقل قد مات – ويطلب إلى صديقه فيلوكتيتس أن يذهب لحرب طروادة ليأتي للإغريق بالنصر بصحبة قوسه وسهامه، وعند ذلك يوافق فيلوكتيتس على أن يعود مرة أخرى لحرب طروادة ليقاتل مع الإغريق.
وقد عرف يوربيديس في كثير من مسرحياته بكتابة هذه الخاتمة التي تتدخل فيها قوى غيبية وتحسم مصير بعض الشخصيات فيها، كما نرى في مسرحية أوريستيس، ففي نهايتها يتدخل كاهن من معبد أبوللو، ويذكر ما سيحدث لكل شخصية من الشخصيات الرئيسة في هذه المسرحية، ويرضى الجميع بأقواله؛ لأنها صادرة عن الإله الوثني أبوللو.
وكذلك نرى في مسرحية إفيجينيا في تاوريس ليوربيديس أن الإلهة أثينا تتدخل في نهايتها؛ لتصرف ملك تاوريس عن ملاحقة إفيجينيا وأخيها أوريستيس ومن معهما بعد أن فروا من أرضه، وأخذوا تمثال أرتميس معهم، وينفذ ذلك الملك كلامها.
وأيضا نرى في مسرحية المستجيرات ليوربيديس أن الإلهة أثينا تتدخل في نهايتها؛ لتعرف الأطراف التي فيها بمايجب عليها فعله، وتتنبأ لثيسيوس ملك أثينا ولبلاده بمجد عظيم.
ثالثا: الخاتمة التي حددتها بعض الآلهة الوثنية من بداية المسرحية
وبعض المسرحيات الإغريقية نرى فيها صراعا بين بعض الآلهة الوثنية الإغريقية، ويتم استخدام البشر في هذا الصراع، وقد يكشف بعض الآلهة في بداية هذه المسرحيات عن الأحداث التي ستحدث بها، وما ستنتهي إليه الأحداث فيها، كما نرى في مسرحية هيبوليت ليوربيديس، ففي بدايتها نرى الإلهة الوثنية أفروديت منزعجة لأن هيبوليت منصرف عنها، ولا يهتم بغير إلهة الصيد أرتميس، وتحوك أفروديت شركا لهيبوليت، فتجعل فيدر زوجة أبيه ثيسيوس تهيم به حبا، وتدعي أمام أبيه أنه هو الذي تحرش بها، مما يجعل والده ثيسيوس يدعو عليه، ويستجيب دعاؤه بوسيدون إله البحر الوثني، ويموت ابنه ميتة شنيعة بمساعدة بوسيدون، وتسير الأحداث في هذه المسرحية كما تنبأت أفروديت، وتنتهي بالخاتمة التي تنبأت بها أيضا، ولكن يضاف لهذه النهاية أنه تظهر أرتميس وتقول: إنها ستنتقم من أفروديت في بعض أتباعها جزاء لها لما فعلته في هيبوليت التابع لها.
رابعا : الخاتمة التي تأتي من خلال قوى سحرية
وبعض المسرحيات الإغريقية نرى نهايتها من خلال استخدام أشخاص فيها للسحر، فنراهم من خلال السحر يتخلصون من مصاعب يتعرضون لها، ويحققون الأهداف التي يرغبون في تحقيقها، كما نرى في مسرحية ميديا ليوربيديس، ففي نهايتها تقتل ميديا ولديها أمام زوجها ياسون انتقاما منه لأنه خانها بزواجه من غيرها بعد تضحياتها الكثيرة من أجله، وقد قتلت ولديها منه بعد قتلها زوجته الثانية ووالدها كريون، وجعلت ياسون يشعر بأنه وحيد، ثم استعانت بقدراتها السحرية في الخروج من مدينة كورنتة دون أن ينالها أي مكروه.
خامسا : الخاتمة التي فيها تمجيد لبعض الشخصيات ومكافأة على معاناتهم.
ونرى بعض المسرحيات الإغريقية تنتهي نهاية فيها تمجيد لشخصية تعذبت بأن تنال التكريم من بعض الآلهة الوثنية جزاء لها على معاناتها التي فرضها عليها بعض هذه الآلهة، كما نرى في مسرحية أوديب في كولونا لسوفوكليس، فأوديب في هذه المسرحية يبدو متشردا مطرودا من بلده ثيبة، ويستقر في كولونا، ويرحب به ملكها وأهلها، ويطلب إليهم أوديب أن يحموه من كريون ملك ثيبة أو من ابنه بولونيكيس إذا حاول أحدهما أخذه عنوة ليضمن النصر على خصومة، كما جاءت بعض النبوءات بذلك، ويحمي أهل كولونا وملكها أوديب من أي شخص يحاول إجباره على ما يكرهه، ثم نرى خاتمة طويلة لهذه المسرحية يختفي فيها أوديب بعد إن يقوم ببعض الشعائر الدينية، ونعرف بعد ذلك أنه حصل على التكريم، فقد صار في مكانة تشبه الآلهة الوثنية مكافأة له على تحمله المتاعب والآلام التي تسبب فيها بعض الآلهة الوثنية له، كما أنه صار بسموه يحفظ مدينة كولونا من أي خطر تتعرض له.
وأيضا نرى في نهاية مسرحية أندروماخا ليوربيديس نهاية قريبة من ذلك، ففيها نرى أن فيلوس والد أخيل قد كوفئ بعد أن عانى كثيرا بفقد أبنائه وأحفاده بأن تظهر له زوجته، وتعرفه أنها قد صارت إلهة في العالم الآخر، وأنه سيصير إلها مثلها.
سادسا: الخاتمة التي لا تأتي بحل حاسم وتوحي بأن الأحداث ما زالت مستمرة.
ونرى هذه الظاهرة في بعض مسرحيات أيسخولوس، فقد كان من أوائل كتاب المسرحيات الإغريقية، وكان يستكشف السبل لها، ولهذا ليس بغريب أن نرى بعض مسرحياته ليس فيها خاتمة واضحة، وتبدو الأحداث مع نهايتها قد توقفت فجأة، مما يوحي بأن المسرحية مفقود منها نهايتها، ولكن الحقيقو أن النهاية غير مفقودة منها، وإنما كان هذا السبيل في كتابة بعض المسرحيات ونهايتها بهذه الصورة.
ونرى مثالا لذلك في مسرحية الضارعات لأيسخولوس، ففي هذه المسرحية تلجأ بعض الفتيات المصريات مع والدهن لأرجوس هربا من أبناء أعمامهن، وتنتهي المسرحية، ولا نعرف نتيجة المواجهة بين أهل أرجوس وهؤلاء المصريين من أبناء عّم هؤلاء الفتيات، وكذلك لا نعرف مصير هؤلاء الفتيات على وجه اليقين؛ وكل هذا يدل على أن الأحداث غير مكتملة في هذه المسرحية، وأن الخاتمة جاءت مفاجئة فيها.
وهكذا رأينا في هذه الدراسة القصيرة تنوعا في الخاتمة للمسرحيات اليونانية القديمة، فيما اصطلح عليه بالتراجيديا، وقد عرفنا أن التراجيديا اليونانية تحمل في داخلها أن أنواعا أخرى من المسرحيات ذكرناها في هذه الدراسة، أما الكوميديا والخاتمة فيها فلها عرض آخر، سأتناوله في دراسة أخرى بإذن الله.