د. محمد حسين حبيب يكتب: حين يكون الجسد المسرحي فكرا
المسرح نيوز ـ العراق| د. محمد حسين حبيب*
ناقد وأكاديمي من العراق
ـ
تتخذ لغة الجسد الإنساني وبالمعنى العام أهمية خاصة في التعاملات الحياتية , بوصفها الأسلوب الامثل لتبادل المعلومات والأفكار بين الأشخاص دون استخدام لغة اللسان , ويعتقد علماء النفس بأن 60 % من حالات التخاطب والتواصل بين الناس تتم بصورة شفاهية , أي عن طريق الإيماءات والإيحاءات والرموز , لا عن طريق الكلام اواللسان , والبعض منهم يرى إن هذه الطريقة ذات تأثير قوي , أقوى بخمس مرات من ذلك التأثير الذي تتركه الكلمات , ويذكر أن هناك مائتان وخمسون ألف حركة / إيماءة جسدية معروفة الدلالات تصدر بأفعال مرئية , بل يذكر آخرون رقما آخر يبدو فيه شيئا من المبالغة وهو وجود ( سبعمائة وخمسون ألف ) حركة / إيماءة تصدر من مختلف مناطق الجسد الإنساني وأعضائه ومكوناته الحاوية على ( أربعمائة مليون خلية ) تعد الأساس البيولوجي للإنسان .
لغة الجسد هي لغة المجتمعات القديمة , لغة بدائية سائدة ومهيمنة آنذاك , وباتفاق عدد كبير من علماء الانثربولوجيا , وحتى بعد اكتشاف الكتابة ظلت الإيماءات الجسدية بوصفها أشكالا ناتجة عن ثقافة البيئة نفسها , ” وان هذه الإيماءات تكون متوارثة , ضمن العائلة او القبيلة او المنطقة الواحدة , معناها ينحصر بين أهلها ولا يفقه معناها ممن هم خارج الدائرة .. ” (1) فلغة جسد رجل الجبل مغايرة للغة ابن الساحل , والجسد في الحرب شكلا وحركة يكون مغايرا في حركته وشكله في أيام السلم .
ويرى عبده خال إن مصطلح ثقافة الجسد ” قفز الى واجهة الثقافة العربية .. وان هذا المصطلح لم يؤخذ بزاويته المنفرجة , بعيدا عن التجنيس فتمركز في هذه الدراسات حول ثقافة الجسد متخذا من الأنثى أنموذجا . ” .. فما الذي يدفع ادوارد سعيد مثلا بتقديم دراسة عن الراقصة ( تحية كاريوكا ) إلا إعطاء الأنثى أهمية غيّب من خلالها الذكورية الجسدية .
ويمكن أن نشير هنا , الى توظيف الجسد الأنثوي نفسه بلغته الباثة وسط فضاءات الكبت والتابو وغريزة الآخر , توظيفه في مجالات التجسس سياسيا وعسكريا , فالزعيمة ( شولاكوهين ) جاسوسة إسرائيلية عراقية الأصل وبحسب فريد الفالوجي الذي يشير الى كيفية توظيف الموساد لجسدها في التجسس وتكوين علاقات جنسية مع اكبر الشخصيات من ذوي المناصب العليا وسقوط عدد من المسؤولين حينها ( في خمسينات القرن الماضي ) سقوطهم ( صرعى لغة الجسد ) على حد قوله .
ونشير أيضا الى لغة الصم والبكم ووجود المعاهد او المدارس الخاصة بتعليمها بوصفها لغة عالمية موحدة تستند على حركة اليدين وملامح الوجه حصرا بهدف تقديم معان يفهمها الجميع , مثالنا في ذلك الشخص الذي يؤدي لنا نشرة الأخبار كاملة في زاوية شاشة التلفاز معتمدا حركات ايمائية وعلى يديه ووجهه حصرا دون باقي جسده هي ذات الحركات الايمائية الذي يفهمها جماعة الصم والبكم , ولو قيض لأحدنا متابعة الحركات مع سماعه الكلمات وبشكل مستمر فسوف يصل لمرحلة يفهم فيها تقريبا معنى كل حركة إيمائية من دون الحاجة الى سماع كلمات النشرة الإخبارية .
في ضوء ما تقدم , يمكننا تقسيم حركة الجسد الى : حركات غريزية , تعبر عن حاجة ما . وحركات تقليدية , تعبر عن الحاجة والرغبة في آن واحد . وحركات قصدية ( فنية ) غير تقليدية ( لغة جسد مسرحية ) وهذه الأخيرة هي موضوعنا الأساس في هذه السطور .
لقد مر المسرح وعبر عصور ومراحل تاريخية قديمة ومتعددة كان الاعتماد فيها على جسد الممثل في أدائه وخاصة في المسرح الشرقي المتكون ( من الهندي / والصيني / والياباني ) .. بل تزايد الاهتمام بلغة الجسد , حقبة بعد اخرى , لدى الكثير من مخرجي المسرح الحديث , انطلاقا من التشكيك بقدرة اللفظ في المسرح في إيصال المعاني والدلالات المسرحية , من جهة , والبحث عن لغة عالمية مسرحية موحدة من جهة اخرى .. فما محاولات وتجارب وتنظيرات كل من : ادوارد كوردن كريج , و ادولف ابيا , و ماير خولد , و انطوان ارتو , و غروتوفسكي , و يوجينو باربا , و بيتر بروك , و روبرتو بوتشللي , و ليشيك مونجيك , و الفن ايلي , و جورجيت جبارة , و جنى الحسن , و عبد الحليم كركلا , … إلا إيمانهم بان للجسد قدراته الخلاقة وإمكانياته الجمالية لا بوصفه جسدا يتحرك , بل جسدا يفكر وينتج المعنى والجمال صانعا توازنا ما بين الروح والجسد من جهة وما بين الجسد والواقع من جهة اخرى .
ترى مالدافع وراء تحويل كبرى المسرحيات العالمية الى باليه راقص دون حوار يذكر تصل إمكانيات الجسد فيه الى مديات خرافية فوق الواقع .. نجد هيبة للجسد فيها مخيفة جماليا …
ويصف ضياء يوسف غداة مشاهدته لمسرح الباليه الأمريكي في مقالته الموسومة ( التنفس من خلال الجسد كله ) يقول : ” مع راقصي الباليه الأمريكي , يمكن تخيل الجسد آلة موسيقية منفردة , كل حركة هي نقرة , وكل ميل هو استعداد لغزو الأذن بالتواء حنون .. ” ونجد مرح ألبقاعي تكتب عن فريق الفن ايلي للرقص المسرحي بقولها : ” استطاع فريق الفن ايلي أن يأخذ المشاهد في سيالة تقوسات الجسد .. وضربات الأقدام , وشهقات السواعد , من خلال تصعيد مكثف للاداء الجسماني العضلي تتحول بواسطته الحركة الى قراءة ضمنية لنص غير معلن في سلوك درامي يميل الجسد الى لغة شعرية تتراص فيها المعاني وتندفع الانفعالات في حمى مشهدية بازخة لها لسعة التحدي – النشوة . فالراقصون والراقصات على المسرح إنما يكشفون عن لغة العالم الواحدة التي تتشكل في إسقاطات العاطفة – الجسد , وتنتشر يايماء من العلاقات الإنسانية المعقدة بجل التباساتها ونتوءاتها وانجرافاتها الصاخبة . ”
(( مقدس / لعبي / جمالي )) مقولة من ثلاث كلمات يستعين بها كريماس , ليكشف عن مختلف أنماطه الإيمائية ويخرج بتصنيف ثلاثي :
– إيماء ذو طابع مقدس ( الطقوس الأسطورية ولا تهدف الى التواصل )
– إيماء لعبي ( لا يهدف الى شيء )
– الرقص الفلكلوري وقد يهدف الى التواصل وقد لا يهدف .
إن تقسيمات كريماس لأنواع الإيماءات المستعملة في المسرح قد أسعفت الدارس في التعرف على والتعامل مع – لغة الجسد المسرحية , برغم وجود – أحيانا – بعض المقاطع الإيمائية الخالية من المعنى كالذي نجده مثلا في الباليه الذي لا يمكن أن ننسب معنى محددا لكل وحداته الحركية .
وعراقيا ولا سيما في السنوات الأخيرة أخذت لغة الجسد وفن إخراج الحركة ( الكوركراف) والرقص الايقاعي والإيمائي , أخذت شيوعها في فضاءات العرض العراقية , ولو إنها جاءت متأخرة عن التجارب العالمية والعربية التي أسلفنا ذكرها .. ولو إنها أيضا – أي المحاولات العراقية – برغم كونها تجارب لم تزل غضة في هذا المجال , إلا أن ما قدم من عروض جسدية إيمائية راقصة , يعد إشارة مهمة على استعداد أصحابها لتقديم الأفضل برغم الحاجة الملحة على اكتساب الخبرات العلمية وتحسين مستلزمات ذلك التخصيص ووضع برنامج مستقبلي عبر سنوات ليست بالقليلة .. وإيجاد المدارس والمعاهد المتخصصة, وقبل ذلك تطوير الخبرة العراقية المتمثلة بمدربين ومخرجين كوركراف يمتلكون المواصفات العلمية والتي من شأنها الأخذ بلغة الجسد العراقية الى مصاف الجهود العالمية والعربية الساعية لتأسيس لغة عالمية للمسرح في هذا الكون برمته .
ومن المهم الاشارة هنا الى زيارة فنان الحركة ومخرجها ومؤديها ( طلعت السماوي ) الى العراق عام 2000 م واثر زيارته تلك على تفعيل هذا الفن الأدائي المسرحي المهم وتقديمه العروض والمحاضرات والاماسي الثقافية عن تخصصه وفي أكثر من محافظة عراقية .. فضلا عن تشكيله أكثر من جماعة او إشرافه على تدريب مجموعات شبابية نذكر منها إشرافه وتدريبه لفرقة مردوخ وتوليه المهام الإخراجية لمسرحية نار من السماء .. كل هذا كان من شأنه ان ينبه الى أهمية هذا اللون من فنون الأداء المسرحي ذات الأبعاد الجمالية التي احتضنها بعد ذلك شبان المسرح العراقي برغم عدم تكاملية تجاربهم وحاجتهم للاستمرارية التدريبية التي يعاني منها ممثلنا العراقي كثيرا .
ولكي لا تذهب جهود ومحاولات كل من : ( طلعت السماوي ) / ( منعم سعيد ) / ( محسن الشيخ ) / ( ضياء الدين سامي ) / ( احمد محمد عبد الأمير ) , وغيرهم من أسماء وفرق شبابية تشكلت مؤخرا .. لكي لا تذهب جهودهم المهمة سدى , ولكي نبقي على استمرارية البعض منهم , يتوجب على مؤسسة المسرح العراقي ( أشخاصا وواجهات ) العمل على زيادة خبراتهم وتوفير السبل الكفيلة بترصين تخصصهم بغية إظهار لغة الجسد المسرحية بصورتها التي نتمنى ونحلم .
وهناك وظيفة للنقد والناقد المسرحي العراقي في دراسة ومتابعة هذا الجانب المهم من الخطاب المسرحي القابض على ارفع مستوى من الدلالات الإنسانية السامية .
وأختم حديثي مع ما قالته ( مارتا جراهام ) وهي صاحبة تعاليم ومنهج في الرقص الحديث لمسرح ما بعد الحداثة في مجال المسرح وفنون الأداء , ولها خبرتها الشخصية الهامة في تعليم الرقص المسرحي .. ولقد وجد فيها دوريس همفري في كتابه اشكال الرقص الحديث , عام 1961م .. وجد إن ابتكارات ( مارتا جراهام ) ومعاصريها هي محاولات لإعادة اكتشاف الوظيفة التعبيرية للرقص من خلال التوجه المباشر للعناصر الجوهرية للشكل الكوريغرافي ( أي التصميم الحركي) بعد أن رفضت ( جراهام ) اللغات التقليدية للرقص الكلاسيكي ومفرداته.
فهي ترى في الرقص تجسيدا خارجيا يرتبط فيه التعبير الجسدي عن المشهد الطبيعي الداخلي للنفس , بالخصائص الشكلية للرقص كأحد وسائط التعبير . وهكذا تصبح الوظيفة التعبيرية للرقص أمرا يتخطى مجرد انتهاج أسلوب معين او السعي الى التعبير عن شيء معين , بل تصبح طاقة تكمن داخل الشكل نفسه كأحد الخصائص المتأصلة في الطبيعة الأساسية للحركة .. وفي هذا تقول ( جراهام ) :
” إن الرقص طريقة مختلفة للتعبير عن الأشياء . ورغم انه لا يعبر بصورة حرفية او أدبية إلا أن كل ما يأتيه الراقص من أفعال – حتى في أعماق اللحظات تعبيرا عن العواطف الذاتية – له معنى محدد يقينا . ولو كان بمقدورنا أن نعبر عن هذا المعنى بالكلمات لفعلنا , لكنه يكمن خارج دائرة الكلمات , وخارج دائرة فنون النحت والتصوير . فخارج هذه الدوائر , وداخل الجسد , يوجد ذلك المشهد الطبيعي الداخلي للنفس الذي ينكشف من خلال الحركة ” .
ـــــــــــــ
نشرة التجريبي 2018