مقالات ودراسات
صباح الأنباري يكتب عن مسرحيات “طائر الظلام”.. من الواقع الافتراضي المتخيل الى الواقع المعيش
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
صباح الأنباري/ أستراليا 2022
من الواقع الافتراضي المتخيل الى الواقع المعيش
العنونة:
ثلاث مسرحيات للكاتب المسرحي العربي عبد الفتاح رواس قلعه جي (طائر الظلام) استلهم موادها من الأسطورة انطلاقاً، ومن الواقع الراهن غاية. وطائر الظلام ليست عنونة شاملة عامة، ولا معبرة عن أجواء وموضوعات نصوص المجموعة الثلاث. كل ما في الأمر أن القلعه جي اختارها من النص الثالث الموسوم بالعنونة نفسها جاعلاً منها عنونة للمجموعة كلّها على الرغم مما بينها من العوامل المشتركة، واشتغالها على الأساطير قاعدة، وعلى مادتها الأولية مستنداً، وارتكازها على مجريات الحاضر غاية. ولغاية في ذاته كتب مقدمة لهذه النصوص الثلاث بيّن فيها، باختصار شديد، أفكارها وما ترمي إليه من الأهداف فكانت في الأولى محددة في أمل الإنسان بالعبور الى “حياة أفضل” وتمحورت حول الحكايات السبع لسبع شخصيات تاريخية وواقعية. وكانت في الثانية محددة ببيان الصراع الأزلي بين (الإنسان وأخيه الإنسان وما ينجم عن ذلك من كوارث وتدمير للذات والحياة) وكانت في الثالثة محددة في تعرية الشخصيات الحاكمة الجائرة الظالمة التي عشش في أذهانهم وذواتهم الظلم والظلام أو كما تعرّفه أسطورة ما بين النهرين (طائر الزو). ويختم مقدمته بتأكيد ما قاله هيرودوتس في مسرحية (طائر الظلام):
كل شيء هباء
كل شيء عبث
إنها البشرية النازفة أبداً
ووجدنا من الجدير بمكان الرجوع الى الأسطورة لمعرفة ما يعنيه طائر الزو، ووجدنا انه من قوى العالم السفلي التي تتمتع بقوة تدميرية هائلة وهو كائن بهيئة نسر ووجه أسد، وهو سارق الواح القدر السحرية من الإله أنليل التي تمنح مالكها القوة المطلقة والسيطرة التامة على الناس، وحتى على الآلهة العظام. وربما بسبب ما يلحقه من الظلم والظلام والسطوة، وما يثيره من خراب ودمار في الوجود استوحى القلعه جي عنوان مجموعته المسرحية لاتصاف بعض شخوصها بصفات الزو نفسها أو الشبيهة بها. ولما كانت أغلب هذه السمات غالبة على نصوص المجموعة لذا متح العنوان نفسه منها ليصير دالا عليها وبهذا تميز على العنوانين السابقين له: (المركب والمعبر) و(أوزوريس يعود ولا يعود) هذا فضلا عن أنها كتبت في فترة واحدة وبحجم يكاد أن يكون واحدا، ولا يزيد عن الثلاثين صفحة وكما يأتي:
المركب والمعبر 2/6/2016
اوزوريس يعود ولا يعود 24/11/2016
طائر الظلام 1/6/2016
رؤيا النصوص:
ينقسم النص الأول (المركب والمعبر) على قسمين تحت مسمى واحد هو العبور: العبور الأول والعبور الثاني، وهما بمثابة مشهدين أو بالأحرى فصلين من فصول المسرحية. منحهما المؤلف هذه التسمية كعنونة تعكس دور كل منهما في بلورة موضوعة المسرحية، وحيثياتها، ورصدها للوقائع والأحداث التي تقع أمام سور المدينة الذي يتسنّمه (القاضي) كما لو كان في محكمة تقرر من يستحق الدخول ومن لا يستحق.
ومن سياق الأحداث نعرف أنها مدينة آمنة (لا يدخلها شخص مع سلاحه) وفاضلة تمنع دخول الممنوعات إليها. يعيش أهلها بسلام ووئام ويحظون بسعادة غامرة، وعيش إنساني رغيد. وجميع سكانها من الأخيار فهي مدينة مثالية فاضلة يسعى إليها كلّ من فقد أو استلبت كرامته وإنسانيته ولم يحظ بالحياة التي يستحقها. وعليه يحدد المؤلف نوعية البشر من طالبي اللجوء ويختار أغلبهم من الشعراء مثل الحلاج، الشنفرى، قيس بن الملوح، زهير بن أبي سلمى وهم جميعا شخصيات تاريخية يضيف إليهم شخوصا من الواقع مثل الأم وولديها والفتاة عاشقة الموسيقى (أورنينا) وقد جاء هذا الاختيار بدافع الربط بين الماضي الافتراضي (التاريخ) والحاضر القائم (الواقع) المعاش.
لقد وسمتُ الماضي بكونه افتراضياً وسبب هذا أن المؤلف جاء بقيس بن الملوح على سبيل المثال وافترض قصة له ليست مرتبطة بما شاع عنه من القصص والحكايات الشائعة ربطها برؤيته الخاصة لشخصية قيس الحقيقية يقول المؤلف على لسان بن الملوح:
الناس هم الذين اخترعوني واخترعوا قصتي فوُلِدت وكبرت
وبالنظر لما حدث له وافق القاضي على استلام ملفه الى حين يقضي قاضي القضاة بفتح المعبر له ليدخل المدينة. وسار المؤلف على طريق الافتراضية مع القصص (الدعوات والقضايا) الأخرى ففي قصة زهير بن أبي سلمى جعل المؤلف زهيرا يرى العجب من شأن البشر وما يحدث لهم في الشرق والغرب، في مجتمعات الشقر والسمر والسود والفقر المدقع والغنى الفاحش، والشبع، والتخمة، والاقتتال. وهذه الرحلة في مركب اورشنوبي الأسطوري رحلة افترضها المؤلف وعززتها موضوعة المسرحية ولم يرد ذكرها في كتب التاريخ أو السير الذاتية. وهكذا الحال مع بقية القصص،
وهذا يعني أن المؤلف لم ينقل لنا سطوراً معروفة من تاريخ الشخوص أو نسخاً من سيرهم الذاتية، بل أراد ابتكار غيرها مما يصلح لنصه المسرحي كقيمة إبداعية ابتكارية دون محو سماتها التاريخية. وعود على بدء لا بد من الإشارة الى أن المؤلف استخدم الأناشيد الواردة على لسان الجوقة في (العبور الأول) بما يشبه الطقس كما استخدمها على لسان أورشنوبي في مستهل (العبور الثاني) وهما ممهدان أوليان للدخول الى أجواء المسرحية منحت القارئ/ المشاهد حالة من الاستعداد النفسي والروحي للدخول الى موضوعة المسرحية المرتبطة بالأساطير والتاريخ من جهة، وبالواقع المعاش من جهة أخرى. إن وجود المدينة الفاضلة المسورة بسور ضخم، والمفصولة عن العالم الواقعي بمعبر لا يفتح إلا بأمر قاضي القضاة يدل على مدى تردي الوضع البشري المنهك بالحروب والاقتتال والاستغلال والاحتلال والجشع والطمع، والشره، والتسلط، والاستعلاء.
من الناحية الواقعية لا وجود لمثل هذه المدينة إلا في الذهنية المتقدة في عقول فئة محدودة من البشر. وهي مجرد أمل نسعى إليه لتحقيق العدل بين الناس وقد لا يتحقق على مدى الحياة المحكومة بالنزف الدائم على وفق ما جاء به المؤلف على لسان هيرودوتس في مقدمة النصوص الثلاثة.
أما المشهد الأخير وهو مشهد ابتكاري يقع حدثه الرئيس في ذات المكان الذي وجد فيه السور والقاضي وبقية الشخوص في المعبرين الأول والثاني، وفيه تلتقي شخصيتا الرجل والمرأة وهما يمثلان الموت والزمان ووجودهما يدل على دورة زمنية دائبة، وحضور مستمر للموت الذي يلتقي معها ويفترق عنها ليلتقي بها ثانية على المدار نفسه، وكأن الحكاية التي رواها المؤلف مستمرة في دورانها اللانهائي وهذا ما وضح في الحوار الآتي:
المرأة: سنظل ندور وندور على محيط الدائرة إلى أن نعبر إلى المركز فيلفنا الموت بصقيعه وينعدم
الزمان والمكان.
الرجل: والموت؟
المرأة: في المركز سيموت الموت.
الرجل: هذا يعني أننا سنلتقي ثانية في نقطة أخرى على محيط الدائرة.
في المسرحية الثانية (أزوريس يعود ولا يعود) تغيرت العنونة التي وردت بعد مقدمة النصوص مباشرة الى (دموع إيزيس) لسبب لم ينوه عنه المؤلف وربما سنكتشفه في سياق بحثنا في تفاصيل النص القائم على شخصيات أسطورية وأخرى واقعية ولكي يتم اللقاء بينهما فقد عمد المؤلف الى كسر الجدار الرابع ليكون المسرح تفاعلياً مفتوحاً على الصالة ويكون الجمهور قادراً على مناقشة ما تطرحه المسرحية من حياة الشخوص الأسطورية.
الحدث الافتتاحي يقع داخل صالة العرض حيث يكون الجمهور منتظراً عرض المسرحية ومستهجناً تأخره، ومعبراً عن استيائه وضجره ولم يعرف سبب تأخير العرض عن وقته المحدد. ثم تظهر المخرجة/ الراوية بعد رفع الستار وتقدم نفسها للجمهور معتذرة عن تأخرها بسبب الاختناق المروري وما حدث أمامها من صراع غريب بين أخوين أحدهما بلحية طويلة شعثاء والآخر بلحية جرداء سحب الملتحي سكينا فهرب الثاني لكنه رمى السكين عليه فانحرف عنها فانغرست في بطيخة كبيرة محدثة فيها شقا كبيرا دخل منه الأخ الهارب واختفى ثم تبعه ذو اللحية واختفى أيضا وقاد الفضولُ المخرجة فدخلت هي الأخرى من ذلك الشق الكبير لتجد أمامها مدينة كبيرة مسورة بسور أحمر وفيها الجند مدججين بأنواع الأسلحة ومنتظرين وصول الملك ليعلن عن بدء الحرب على “أخيه المارق الكافر” ولما كان المنظر مروعاً لذا ذهبت المخرجة الى الجامع لترى العجب هناك فالمصلون أدار كل منهما ظهره الى الآخر متخذين لهم قبلتين متعاكستين في الاتجاه شرقاً وغرباً، وتزداد الحكاية غرابة حين ترى الناس في السوق العامرة بأنواع البضائع ولكنهم لا يشترون غير الأكفان استعدادا للموت في حرب لا تبقي ولا تذر. وحين تغادر السوق تسأل المارة عن مكان المسرح ويأتيها الجواب التحذيري: إياك أنْ تذكري ذلك “فهو من المحرمات” بعد ذلك رأت نفقاً طويلاً في نهايته ضوء أخذت الطريق إليه وعندما خرجت منه وجدت نفسها أمام باب المسرح. عند هذه النقطة يبدأ تفاعل الجمهور معها فيسأل أحدهم:
هل هذه خرافة؟
وتكثر التعليقات مستهجنة أحيانا، ومتفقة في أحيان أخرى. وحين يسأل أحدهم قائلا:
هل دفعنا ثمن البطاقة لنسمع مثل هذه التخاريف غير المعقولة؟
وترد المخرجة عن السؤال بسؤال قائلة:
وهل الحياة التي تعشونها اليوم معقولة، أليست هي واحدة من كوابيس اللامعقول؟
لقد سردتُ هذ الحكاية والتعليق عليها من قبل المعلقين لأصل الى أن التفاعل مع المسرح يتطلب إيجاد المبررات المنطقية للدخول الى مطباته العسيرة. والا أصبحت العملية برمتها محض هراء. ولما كانت الحياة على المسرح خاصة تماماً، وغير مستنسخة عنها لذا وجب أن يكون لها منطقها الخاص ولهذا يشدد أساتذة المسرح على أن لا وجود لشيء على خشبة المسرح خارج مفهوم السببية أو العلاقة المباشرة التي تربط بين الأحداث ونتائجها (السبب والنتيجة)
يقول الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (Plato): كل ما يولد هو يولد بالضرورة بفعل سبب… لأن من المستحيل أن يولد أي شيء كان دون سبب” ويمكنني اعتبار مبدأ (السبب والنتيجة) بمثابة قانون عام للمسرح. ومن دونه تتحول الخشبة الى هراء محض، فمهما كان العمل المسرحي مغرقا في غموضه أو لا معقوليته أو جنوحه الى الخيال المطلق لا بد للكاتب من إيجاد المنطق الخاص بعمله أولا، وإيجاد المبررات المعقولة حتى لغير المعقول ثانياً. هذا من الناحية الفلسفية أما من الناحية التطبيقية فلا وجود لأي شيء على الخشبة خارج مبرره فلو شاهدت كرة على سبيل المثال لا الحصر فلا بد لهذه الكرة أن تتدحرج أو تستخدم بشكل أو بآخر وإلا لا حاجة تدعو لوجودها على الإطلاق.
المسرحية بنيت على تسعة مشاهد وتسعة شخوص. في المشهد الثاني يعرض لنا المؤلف الحوار الذي دار بين إيزيس وحبيبها اوزوريس انطلاقا من تغريدة الطائر العاشق وما ورد فيها من كلمات رقيقة وأحلام وردية وخيالات مجنحة من اجل حبيبته السجينة في قفص في الجهة المقابلة. إن في حبس الطائرين في قفصين منفصلين دلالة على البعد الشائك بينهما وربما هو ذات البعد بين ايزيس وحبيبها أو هو إشارة أولية لما سيحدث بينهما من مرارة الفراق لسبب ما. تغريدة الطائر كتبت بأسلوب الأناشيد الطقسية التي يعرفها معرفة دقيقة كاتب النص وتكشف عن لوعة ومعاناة الطائر/ الحبيب ووعده لحبيبته بما لا يستطيع تحقيقه واقعياً، وهذه الأناشيد هي الأقرب لأجواء المسرحية وطقسها التقليدي مع احتفاظها بالقدرة على أن تكون بأسلوب الشعر العمودي المقفى لدلالته الكامنة على زمن الحدث أو زمن الأسطورة. وأقرب الى ما حكم به اوزوريس على التغريدة قائلا:
الشعراء عادة يقولون ما لا يفعلون، فكيف حالهم إذا كانوا عشاقاً؟
وهو حكم فيه تناص واضح مع ما ورد في سورة الشعراء (ألم ترَ أنهم في كل واد يهيمون…) ثم سارت مسار المثل الذي يضرب ولا يقاس.
هذا المشهد الرومانسي الجميل والمؤثر ينتهي نهاية عذبة إذ يأخذ اوزوريس حبيبته ايزيس في رحلة نهرية ليقضيا ليلة رومانسية على نهر النيل تحت ضوء القمر الذهبي. وبينما هما هكذا تتهادى حول مركبهما (عرائس الماء) وهن ينشدن لهما نشيد عرائس النيل في مشهد الثالث. وهنا لا بد لي من الإشارة الى أن هذا النشيد وحده لا يشكل مشهداً مستقلاً لأنه ببساطة شديدة تكثيف لمقطع مكمل للمشهد الذي سبقه إلا إذا كان للمؤلف وجهة نظر مختلفة عما ذهبنا إليه.
في المشهد الرابع تبرز لنا المأساة متجلية في حرب (الأخوة الأعداء) والتي تدور رحاها بين اوزوريس وأخيه (ست) بعد أن نعمت البلاد بالسلام والأمان والرخاء الذي شهدناه من على شاشة العرض (وهذا ما حصل، فقد سقط أوزوريس قتيلاً في معارك الأخوة الأعداء) وتحولت البلاد الى مقابر وسجون وجلاوزة يكفرون الناس ويزهقون أرواحهم باسم الدين وباسم الإله آمون. فاختفت مظاهر الفرح والأعراس، وهربت عرائس النيل الى الأعماق، وصارت دموع النيل تفيض من شدة الحزن على أزوريس وهكذا فقدت إيزيس حبيبها فغلف الحزن قلبها، ومن هنا جاءت تسمية المسرحية (دموع ايزيس)
وقد اختلف المشاهدون فيها فمنهم من أيد رواية المخرجة ومنهم من جاء بغيرها، ولكنها جميعا تصب في مصب واحد هو أن البلاد دمرت، وخربت، وتمزقت جراء اقتتال الأخوة الأعداء. ويبدو لي أن صورة البلاد وناسها في المسرحية ما هي إلا انعكاس طبيعي لما يحدث في بلداننا الآن، وإشارة الى حجم الدمار الذي حل بها ومسخها الى أبشع صورة من صور الخراب، وهذا هو الهدف المركزي الذي سعت إليه المسرحية لتطهير المشاهد من كل هذه الانكسارات والهزائم. وعلينا ألا ننسى أن فلسفة القلعه جي ورؤيته ارتكزت على تعرية شخصية البطل الذي حسب الناس انه زعيم عادل استناداً على ما قدمه لهم بشكل هبات (مكرمات) من المأكل والملبس والأعراس، وسلبهم مقابل هذا كله حرياتهم المشروعة وحولهم الى عبيد له الأمر وعليهم الطاعة. وفي هذا كلّه تنعكس لنا ظلال أكثر من قائد عربي في راهننا لم يشأ القلعه جي الإشارة إليهم بشكل صريح لأنه لم يشأ أن يكون المغزى مقتصراً على شخصية دون غيرها نظرا لتكرارها منذ ازوريس وحتى أيامنا الراهنة. وعلى الرغم من ذلك أكد لنا على بعض مشاغل الزعيم التمويهية الخادعة إذ يقول:
كان حريصاً على أن يزور المعابد وبعض البيوت ويوزع بعض الهبات التافهة على الكهان وبعض
الفقراء ليبدو بمظهر الحاكم الشعبي الطيب.
هذا في المقام الأول وفي المقام الثاني يذكر أنه:
بنعومة فائقة أمر الناس أن يعبدوه ويقيموا له التماثيل في ساحات طيبة، ويبنوا له المعابد، ويسجدوا
له ولزوجته إيزيس.
لقد عاش الرفاه وتنعم بالجاه والسلطة والحضارة بينما ظل أخوه هائما في الصحراء والبداوة وكان من الطبيعي أن ينقلب على أخيه ويستهدف سلطته، ويستأثر بها بعد حروب مدمرة وقعت بين الطرفين مات ازوريس فيها وقطّعت جثته ورميت أجزاؤها الست عشرة في أماكن مختلفة من البلاد، لكن ايزيس جمعتها فعاد إليها الحبيب ثانية. ومن هنا برأيي الخاص جاءت العنونة الأولى للمسرحية (أزوريس يعود ولا يعود) ويظل السؤال الأهم ماثلا في نهاية المشهد:
هل تنجح عملية جمع أجزاء الجسم الميت، أو أجزاء البلد المقسم، وهل تعود الحياة كما كانت لهما
ويعود الخصب مرة أخرى؟
لقد جمعت أجزاء اوزوريس ولكنه لم يظهر إلا كشبح لا حياة له غير حياة الموت يتحاور مع حبيبته ويتذاكر معها أيام الترف ليقر بعقوبته وتحمله لقسوة تلك العقوبة وقبل انبلاج الفجر يعود لاستكمال عقوبته مودعاً ايزيس للمرة الأخيرة.
عند هذه النقطة انتهت المسرحية مع أن القلعه جي ارتأى إضافة مشهدين أخيرين لها لم تجر أحداثهما في صالة العرض بل في المكان نفسه (خشبة المسرح) بعد تغييرات كثيرة إذ لم يبق من المكان غير بئر الماء، ووعاء الشرب، وشجرة زيتون كصلات للوصل مع النص الأصل، وتبدلت أسماء الشخوص فتحول ازوريس الى ازر وتحولت ايزيس الى ايزي وهما شخصيتان قرويتان غير مرتبطتين بشخوص النص الذي اكتمل إلا بصلات بسيطة، وللاثنين قصة مختلفة عن قصة المسرحية وفقط تلتقي معها ببعض الدالات الشكلية مثل حلم الزوجة بايزيس وازوريس الذي تردد عليها مراراً، وصورتهما المعلقة على الجدار وهذه الدالات لم تعزز كثيرا العلاقة بينها وبين النص القائم على الأسطورة إلا قليلا فبدا المشهد وكأنه حدث لمسرحية هي الأقرب الى أدبيات السجون منها الى النص الذي بني على الأسطورة وانفتح على جمهور النظارة. أما خاتمة المسرحية (المشد الأخير) فقد اشتغل فيها المؤلف على المؤثر الصوتي فقط:
(المسرح يعتم بالتدريج وصوت آلية مجنزرة تقترب من بعيد، يرتفع الصوت شيئاً فشيئاً مع ازدياد الظلمة في المسرح، يصبح الصوت قوياً جداً يملأ فضاء المسرح، ثم يسود الصمت والظلام التام).
في مسرحية (طائر الظلام) اشتغل المؤلف على عدد من الشخصيات الأسطورية ولم يقرنها بشخصيات واقعية أو تاريخية كما فعل في المسرحيتين السابقتين. استبدل مصطلح المشهد المسرحي باللوحة المسرحية وهو العارف بالفرق بين المشهد واللوحة، فكانت اللوحة الأولى وصفية نقلت لنا صورة موجودات المسرح من الشاشة التي عرضت عليها صورة طائرة الزو، والتل المرتفع الذي يقف عليه أبو التاريخ (هيرودوتس) وحركة الممثلين المضطربة، وقيام أحدهم بتفجير نفسه باثا الرعب والموت بين الجميع. وأخيرا صوت الناي الحزين القادم من بعيد والذي أضفى على الحدث طابعا مأساويا مؤلما. ونقل الحدث من حالة الفوضى والضجيج الى حالة السكون والصمت.
اللوحة الثانية انفرد فيها صوت هيرودوتس (أبو التاريخ) ليقدم لنا مع الخلفية (الشاشة) صورة، بل صورا عما حدث للإنسانية من دمار جراء الحروب الكثيرة المستمرة على مر التاريخ مشيرا الى أن طائر الزو استيقظ من سباته الحجري ليخرب العالم وهو من سرق الواح القدر السحرية من الإله أنليل فصارت له قوة مطلقة لا تضاهيها قوة في الأرض أو في السماء. هو من أفسد كل شيء ودمر كل شيء فعمت المجاعة الآفاق، ودمرت البيوت والحجارة، وتفشى الطاعون، وامتلأت القبور بجثث القتلى، واندلعت حربان عالميتان فضلا عن الحروب القديمة فأي طائر هذا الذي عشش في نفوس البشر وملأها ظلاماً وظلماً ورغبة في امتصاص الدماء؟ بهذه الإشارة البسيطة حاول الكاتب أن يعصرن أحداث المسرحية لتلقي بظلالها على الحاضر الراهن وتبتعد ولو قليلا عن المراوحة في زمنها وبقائها رهنا بالزمن الماضي.
في اللوحة الثالثة يبدأها المؤلف بأغنية (آدابا) على شاطئ الفرات والأغنية اجتذبت إليها (إنانا) التي كسرت الريحُ شجرتها كما كسرت مجداف آدابا، وفي هذه الأغنية يستبدل المؤلف الفصحى باللهجة الشعبية الدارجة مستكملا اللوحة بحوار ليس طويلا بين إنانا وآدابا يكشف فيه كل منهما عما جرى معه بشكل يشبه كثيرا شكل الأساطير والملاحم القديمة كملحمة كلكامش على سبيل المثال لا الحصر، وهو أقرب من حيث الشكل الى قصيدة النثر المحدثة. القلعه جي أراد لمسرحيته أن تتماثل شكليا مع الأساطير وألواحها دعما لأجواء تقرّب القارئ/ المشاهد من الطقس الأسطوري. وما قدمه أيضا هو انه صنع أسطورة جديدة لكلكامش مستلهمة من الملحمة الأصل لكنها اختلفت عنها من حيث الفعل والحدث والسرد فقالت ما لم تقله المثيولوجيا. وهذا يعني أن القلعه جي لا يزال قادرا على الخلق والابتكار وهذا هو ديدنه في كل نصوصه الإبداعية السابقة.