ننشر نص دراسة “د. هشام زين الدين” حول الرائد مارون النقاش..قبل إقامة مناظرة ريادة المسرح العربي في الجزائر قريباً(3/2)
ـ
الجزء الثاني:
المسرحيات
تضاربت أراء الباحثين والمؤرخين حول تحديد عدة نقاط تتعلّق بالمسرحيات التي قدّمها مارون النقاش إن لجهة التواريخ الثابتة للعروض أم لجهة أصالتها من ناحية التأليف، وخاصة فيما يتعلّق بالمسرحية الأولى “البخيل” التي لم يتم الاتفاق حتى اليوم على تاريخ عرضها ولا على أصالة موضوعها، والسبب الرئيسي لعدم التوافق هذا يكمن في سطحية التعاطي مع المسرح وتاريخ المسرح في لبنان والعالم العربي من الناحية البحثية، واستسهال طرح الآراء والاستنتاجات من دون التعمق في دراسة الوثائق التاريخية والمقارنة بينها، ولعل ذلك يعود الى عدم توافر شروط البحث وفي غياب المعلومات والمراجع الكافية، والى عدم الاهتمام الفعلي من قبل الدارسين والباحثين من جهة أخرى.
يؤكّد الدكتور محمد يوسف نجم في كتابه “المسرحية في الأدب العربي الحديث” أن مسرحية “البخيل” قد قُدّمت في أواخر عام 1847 فيما ذكر جرجي زيدان في كتابه “تراجم مشاهير الشرق” أنها عُرضت في عام 1848، وهذا الاختلاف في تحديد تاريخ عرض أول مسرحية في تاريخ لبنان والعالم العربي يكتسب أهميته من كونه تاريخ بداية المسرح في العالم العربي، وفيما تجمع غالبية المراجع على تاريخ 1848 يؤكّد الدكتور نجم على تاريخ 1847 مستنداً إلى كتاب نقولا النقاش “أرزة لبنان” الذي ذُكر فيه أن “البخيل” قُدمت عام 1847. وهو المرجع الأول والأهم عن مسرح مارون النقاش ومسرحياته. وعندما حاولنا التأكد شخصياً من صحة التاريخمن خلال الاطلاع على النسخة الوحيدة الموجودة في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت وجدنا أن هناك محاولة تصحيح بالحبر للرقمين 7 و8 ممّا أشكل علينا الأمر ولم نتوصل إلى معرفة حقيقة الرقم المكتوب في “أرزة لبنان”.رحية الأولى انسحب على باقي المسرحيات لأن الكلام عنها أتى ارتباطا بتاريخ عرض المسرحية الأولى.
المسرحية الثانية “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” عرضت عام 1850 وذلك بحسب شهادة الرحالة الانكليزي دايفيد اركيوهارت الذي حضر افتتاحها في 13 كانون الثاني من عام 1950. وقد ورد هذا التاريخ أيضاً عند جرجي زيدان فيما يؤكّد الدكتور نجم أنها قُدمت في أواخر عام 1849 بحسب سجلات الأوبرا المصرية. ويحق لنا الاعتقاد أن المسرحية عرضت لأكثر من مرّة خصوصاً إذا تزامن ذلك مع نهاية عام وبداية آخر.
أما المسرحية الثالثة “الحسود السليط” فهناك شبه إجماع على أنها عرضت سنة 1851 في كل المراجع.
وإذا اعتبرنا أن اشكالية تحديد تواريخ عرض المسرحيات يمكن حلها بالاعتقاد فإن اشكالية أخرى ما زال يشوبها الغموض حتى يومنا هذا وهي مرجعية النص المسرحي للمسرحية الأولى في تاريخ المسرح العربي “البخيل”. ففيما ترى الأكثرية أن موضوع المسرحية مقتبس عن “بخيل” موليير، فإن الحقيقة تبدو لنا أكثر وضوحاً عند قراءتنا للنص الأصلي في كتاب “أرزة لبنان” وهي أن لا وجود لأي صلة بين بخيلي النقاش وموليير، إن من ناحية القصة أو المغزى، ويمكن اعتبار الأمر منتهياً عند هذا الحد. فنَص النقاش مؤلَّف من ألفه إلى يائه، أمّا عن التشابك والتأثر في تركيب المشاهد والشخصيات وفي خلق الجو العام فهو من دون شك موجود بين النقاش وموليير، ونورد على ذلك بعض الأمثلة:
– التشابه في تسمية المسرحيات، “البخيل” عند موليير وعند النقاش، “الحسود السليط” عند النقاش و”كاره البشر” عند موليير.
– ورود حوارات مقتتبسة كلياً كالحوار بين جرجس وأبي عيسى في “الحسود السليط” عند النقاش والحوار بين جوردان وأستاذ الفلسفة في “المثري النبيل” عند موليير، الحوار بين قرّاد وخادمه في “بخيل” النقاش وبين هرباجون ولافليش في “بخيل” موليير، والحوار بين أبي الحسن وأخيه عن رأيهما في دعد في “أبو الحسن المغفل…” عند النقاش ومثيله عند موليير بين هرباجون وكليانت ورأيهما في ماريان في مسرحية “البخيل” لموليير.
– شخصية الخادمة أم ريشا في مسرحية “البخيل” عند النقاش وشخصية سجاناريل الخادم الماكر عند موليير، والبخيل قرّاد عند النقاش يقابله هارباجون عند موليير.
– الكتابة على طريقة السجع عند النقاش وتشابهها مع المسرحيات المكتوبة بأسلوب شعري عند موليير.
– ذكر أسماء المسرحيات السابقة في المسرحيات اللاحقة.
كما تجدر الإشارة إلى أن التشابه في الاجواء الذي يُلحظ بين “بخيلي” موليير والنقاش، نجد له مثيلاً بين موليير والكاتب المسرحي الروماني الشهير بلوتس إلا ان لا احد يشكّك باصالة النص المولييري، فالتأثّر والتأثير عملية طبيعية ومنطقية في حياة المؤلفين تاريخياً، وهي ليست ضاهرة جديدة على الفن والادبجتى أن مارون النقاش نفسه لم يخف أبداً تأثّره بموليير فقال: “أنا على رأي موليير أشهر المؤلفين بهذا الفن، الذي قال أن من لا يُحسن تشخيص روايتي بدون إشارات تدُل على ما ينبغي فعله من الأحسن أن لا يُشخّصها(7).
عندما قُدمت مسرحية البخيل في بيت النقاش قام بتمثيلها أفراد عائلته وبعض أصدقائه الذين سُمّوا فيما بعد تلامذته لأنهم تابعوا تقديم المسرحيات حتى بعد وفاته حيث يقول له شقيقه مخاطباً: “قم يا أخي وأنظر إلى تلامذتك الذين علّمتهم هذا الفن بعرق جبينك كيف أنهم ليس فقط داوموا على حفظ ما علمتهم إياه بل تقدّموا فوق الأمل”(8).
للأسف لم تحفظ لنا المراجع التاريخية وصفاً دقيقاً لمسرحية البخيل، والمعلوم أنها قُدّمت بمرافقة الموسيقى التي استعملت كخلفية وكعنصر غنائي في بعض المقاطع، كذلك استعمل فيها نشيد الثورة الفرنسية ما قبل الثورة المعروف بالـ “باريزيانا”، وهو من تأليف ديلافيني وتلحين أوبير، وذكر الرحالة الروسي الارشمندريت بوفيري اوسبينسكي في رسالة بعث بها إلى صديقه في روسيا في بداية سنة 1849 من بيروت، وذلك بعد مشاهدته لمسرحية البخيل: ” أعلمكم باختصار بعض أخبارنا، بيروت جن جنونها، ومن مظاهر هذا الجنون إنها تقوم بترجمة الفودفيلات الفرنسية إلى اللغة العربية وتتسلى بهذه الألعاب”(9)، أما لماذا اعتبر الرحالة الروسي مسرحية “البخيل” ترجمة للفودفيلات الفرنسية فالاعتقاد السائد أنه إما لم يشاهد المسرحية شخصياً المسرحية شخصياً أم أنه لم يكن يتكلّم أو يفهم العربية وقد بنى افتراضاته على عنوان البخيل الشبيه بمثيله عند موليير.
أما بالنسبة للبناء الدرامي للنص المسرحي في هذه المسرحية فقد ألّفها النقاش من خمسة فصول، فقد اقتصرت الأحداث والحبكة والتعريف بطبائع الشخصيات على الفصول الثلاثة الأوائل، ولذلك يمكننا القول أن المسرحية ذات ثلاثة فصول من ناحية التكامل الفني، أما الفصلان الرابع والخامس فقد أضافهما النقاش ربما لإطالة مدّة العرض أو ربما نتيجة قلّة الخبرة في هذا المجال. أمّا أسلوب المسرحية فكان شعرياً لا يخلو من ركاكة، وهذا ما حمل أخاه نقولا على الاعتذار عنه فقال: “إن المؤلّف لم يدقّق على ضبط الكلام العربي بالرواية، بل التفت الى المعنى فقط، فإذاً نرجو كل من طالعها أن يُلاحظ على ذلك ويعذر المؤلف رحمه الله”(10).
إن مسرحية البخيل هذه كانت نقطة البداية التي انطلق منها المسرح العربي، وقد تكرّر عرضها مرّات عدة بعد موت النقاش، وقام بتمثيلها تلامذته الذين قدّموها في لبنان وسوريا ومصر.
المسرحية الثانية “أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد” قدمها النقاش في نهاية عام 1849 وبداية 1950 في بيته أيضاً، وكما في المسرحية الاولى فقد مثّل فيها هو وأفراد عائلته وبعض أصدقائه.