مقالات ودراسات
أنور الشعافي يكتب:” عطيل و بعد ” : عرض حديث contemporain يّسائل خرافة شكسبير و شخصياته النموذجية عند تقديم النصوص الكلاسيكي
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
أنور الشعافي | تونس
بمعالجة كلاسيكية تحكم مخرجيها ضوابط جمالية تشمل مختلف مفردات العرض و لا يجوز الإنزياح عنها ففي مسرحيات شكسبير مثلا يعرف المخرجون تركيبة شخصية هاملت او الملك لير او مكبث ، فهي شخصيات نموذجية des personnages archétypeaux بتركيبات – نموذج Une composition- modele فتركيبة عطيل كلاسيكيًّا مثلا هو شخص شهم، مقدام، هادئ ، رجل حرب ، يمتلك كاريزما له إحساس قاتل بالغيرة.
قدم المخرج حمادي الوهايبي آخر أعماله ” عطيل و بعد” على ركح مسرح الحمامات إحياءً لستينيته فقد افتُتح بنفس النص – الاصل في إخراج لعلي بن عياد الذي ادّى دور ياغو Iago في حين لعب عطيل جميل راتب و يعرف المختصون أن شخصية ياغو أكثر إعراء للممثلين في لعبها لتركيبتها المعقدة.
ركح الحمامات يصعب التعامل معه سينوغرافبًّا نظرا لهندسته المبتكَرة – و التي شارك في تصميمها علي بن عياد – فركحه دائري يستعير الاوركسترا الإغريقية لكن دون ركح فأصبحت الاوركسترا هي الركح بينما الاوركسترا الرومانية كما مسرح قرطاج هي نصف دائرية
كان العرض وفيا لوظيفته الإنتظاربة – جسب المفهوم العلاماتي- إذ انطلق بوكثير دومة من مشهد قتل عطبل لديدمونة أي المشهد الثاني من الفصل الخامس و الأخير كما جرت عادة المسرح الكلاسيكي في عدد الفصول. لكن المشهد الإستهلالي رجع فيه الدراماتورج بذكاء و معرقة إلى حكاية شبيهة في الموروث العربي يمكن الرجوع إليها في كتاب ” الأغاني” للأصبهاني ابرازًا لحضور وجهة النظر الشرقية في رؤية العرض و أكد هذا دخول الممثلين من اليمين Côté cour أي من جهة البحر و كأنهم قادمين من ورائه هي حكاية ديك الجن الشاعر العباسي الذي عاش في مدينة حمص السورية و الذي قتل زوجته ورد بناء على وشاية من ابن عمه ” ياغو العربي” و “الياغوات” Les iagos” موجودون في كل مكان و زمان.
هذه الإستعارة الفطنة كان من الممكن أن تذهب بالنص بعيدا فيما يتعلق بالتفاطع بين الحادثتين و ابراز الرؤيتين المختلفتين بين الشرق و الغرب و هو ما اتجه إليه الدراماتورج و قصده حين قال عطيل – الرميلي ” جئتُ لإعادة ترتيب الاحداث” و سعيه لتقديم رؤية شرقية مختلفة عن رؤية غربية ظلمت عطيل و هنا يبرز ذكاء الممثل مهذب الرميلي و دهاء توجيهات المخرج حمادي الوهايبي فالرميلي قدم عطيل حديث Un othello contemporain لا يشبه مثلا مقترح Laurence Olivier الذي لعب عطيل سنة 1965 مع المسرح الوطني البريطاني و ظل عديد الممثلين في العالم بعده يستلهمون و أحيانا يستنسخون منه بناء الشخصية و طريفة أدائها و ربما كان الممثل Laurence Fishburne أحد القلائل الذي قدم عطيل بتركيبة مختلفة و عميقة في الشريط الذي شاهدناه سنة 1995 ،
لذلك نثمّن المقترح الذي تابعناه في ” عطيل و بعد” حيث كان الإنزياح الجذري عن عطيل-النموذج Othello-archétype كما بيّناه في مقدمة المقال، هذا الإنزياح كان متناسقا مع الخلفية الجمالية للعرض كما تصوّرها الوهايبي و هو ما يمكن أن نسميه السمفونية الحمالية للعرض و نستحضر هنا التجلّي الحركي الراقص الذي قام به مهذب الرميلي و هو المشهد الساطع la scène-phare للمسرحية و لكل مسرحية مشهد ساطع يبقى محفورا في ذاكرة المشاهدين كما في مشهد التفكيك décompositionثم إعادة البناء recomposition ثم إعادة التفكيك لمشهد التحوّل من الشيخوخة الى الشباب ثم العودة لها و الذي قدّمه بطريقة سحرية الثالوث جليلة بكار، فاطمة بن سعيدان و صباح بوزوبتة في مسرحية “فاميليا” للجعايبي أو مشهد رقصة السيرتاكي sirtaki التي قدّمه Anthony Quinn مع الممثل Alan Bates في فيلم Zorba le Grec على موسيقى Míkis Theodorakis و قد ظهر سنة 1964.
الممثلون كانوا من نقاط القوة في العرض فقد قدم محمد شوقي خوجة بتمكّن شخصية ياغو في دهائه و تلوّنه و أبرز في إيماءاته و حركاته شعور الحقد الدفين تجاه عطيل الذي رفع من شأن كاسيو Cassio على حسابه و يكفي خوجة فحرا أنه أعاد إحياء نفس الدور الذي لعبه علي بن عياد منذ ستين سنة على نفس الفضاء الركحي مستمدا منه طاقة الشحصية ربما خاصة و أن أبحاثا علمية تؤكد بأن الصوت لا يتلاشى بل يبقى يسبح في الفضاء و يطوّر بعض العلماء فرضية أصوات الماضي. و انزاح نور الدبن الهمامي عن أسلوب أدائه الذي عُرف به فقدم شخصية رودريغو Roderigo بشكل جاد في إيماءاته، أنيق في حركاته. سامية بوقرّة في شخصية مستحدثة لا توجد في النص الأصلي هي أم عطيل و هذا أضاف توتّرا دراميا مختلفا عن شخصية برابانسيو Brabantio – والد ديدمونة- التي فضل الدراماتورج تجاوزها و قد قدمت بوقرّة دورا لا يشبهها كما عرفناها بشحنات و طاقة استمدّتها من تراكم تجاربها الركحية مع نفس المخرج لذلك فإن هذا الأخير يعرف جيدا مساحات و أساوب أدائها.
بهرام العلوي في دور كاسيو cassio فهم شخصيته جيدا و قدمها باقتصاد في الحركة و عمق في الإحساس ، ديدمونة فاتن الشوايبي كانت ثابتة الشخصية و تعرف جيدا ماذا تفعل فهي التي بادرت عطيل إحساسا نبيلا رغم معارضة والدها و أصرّت على الزواج منه و هي بذلك تمثّل وجهة النظر الغربية المتسامحة.
إيميليا إباء حمدي كانت الإكتشاف الجميل و قدمت شخصية صعبة المسار الدرامي في هذا التمزق بين وفائها لزوجها ياغو و سيدتها ديدمونة.
الاكتشاف تواصل مع الراقصين شيماء رحاولية و ربان سلام في مقاطع الرقص المسرحي بنص حركي يجسد التقارب ثم التباعد ثم الصراع بين عطيل و ديدمونة بتأطير من المؤكَّد Le confirmé قيس بولعراس.
حضور أحمد الماجري كان وازنا بصوته و عزفه و حضوره الركحي الطاغي فهل كان من الممكن إستغلال هذا أكثر في تأكيد شخصية عطيل آخر كان محتشما يمكن أن تيفتح أفاقا أوسع دراماتورجيًّا و اخراجيًّا باعتباره الوجه الآخر لشخصية عطيل غير المحارب.
سينوغرافيًّا اختار الوهايبي الفضاء العاري L’espace nu و هي مجازفة تستدعي تمكّنا في التعامل مع الفضاء الركحي خاصة في مسرح مفتوح و بعدد قليل من الممثلين في مسرحية تحتوي في نصها الاصلي على أكثر من عشرين شخصية و زاد الامر صعوبة احتواء العرض على عديد الثنائيات لكن الوهايبي نجح في السيطرة على فضائه الركحي عبر تحكّمه في تحرّكات ممثليه و تموقعهم بترك مسافات مكانية في الثنائيات أو إضاءات -المنطقة و تسارع توالي المشاهد على كامل الفضاء الركحي و قد ساعد اختيار الفضاء العاري على خلق عدة أمكنة ركحية Des lieux scéniques تسمح بسرعة الانتقال بينها و نفهم تغيّر الامكنة من خلال الحوار و الوضعيات كما كان جمهور المسرح الإليزابيتي يستوعب تغير الزمان في مسرحيات شكسبير من خلال ثنايا الحوارات فلم تكن توجد وقتها الكشافات الضوئية و قد استغل المخرج بتمكّن كامل الفضاء الركحي و مداخله و كذلك فجوات الهيكل الاسمنتي في خلفية الركح.
مخطّط الإضاءة كان نصّا موازيا مُبرزا عزلة الشخصيات و اختلافاتها فتركزت على الاروقة المتقاطعة
Les couloirs croisés
وإضاءة-المنطقة Lumière de zone مع استعمال الغوبوات les gobos في شكل لمعات ضوئية متشظبة تجعل الممثل يراوح بين النور، و العتمة و الحضور و البروز ثم الغياب استعدادا لبروز جديد. المرشحات اللونية كانت مقتصدة فتركزت على العنبري بدرجتين حسب مقياس Lee filtres : الداكن 022 Ambre foncé و المتوسط 020 Ambre Medium في مزيج أحيانا مع Bleuالازرق bray 722 200والازرق، هذا المزيج كان تعبيريا و ليس واقعيا فخلق مناخات عاضدت التوتر الدر امي في بعض الوضعيات.
“عطيل و بعد” مقترح ينتصر لرؤية الوافد – الغريب Marocchino حسب لهجة أهل البندقية أين تدور الاحداث هذه الكلمة جعلت البعض يقع في خطأ متوارث في الإعتقاد أن عطيل أصله مغربي و أن شكسبير بنى شخصيته استنادا لسفير المغرب لدى الملكة إليزابات الأولى، و قد ظل عطيل مظلوما منذ 1603 تاريخ ظهور المسرحية.
و يطرح العلاقة-الإشكال في موضوع كان و ما يزال موضع جدل و هو الصلة بين الشرق و الغرب.
نتوقع للمسرحية نجاحا أكبر في الفضاءات المغلقة حيث يمكن للمخرج و كامل فريق العمل السيطرة على جميع مفردات العرض بشكل أفضل.
” عطيل و بعد” لا تُشاهد بعيون أرسطية أكل عليها الركح و شرب و لا معنى لتقديم النصوص الشكسبيرية كما هي بجماليتها الكلاسيكية فحتى في بلد المنشأ نكاد لا نرى شكسبير القرن السادس عشر إلا في مسرح شكسبير بلندن The Globe Theater كما لا نرى مسرحيات الكلاسيكية الفرنسية الجديدة سوى في مؤسسة La Comédie Française.