أ.د. راندا حلمي السعيد تكتب: التكوين المعرفى فى مسرح الطفل – مسرح صلاح جاهين نموذجاً – (1ـ 5)
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
أ.د. راندا حلمي السعيد
أستاذ التمثيل والإخراج
قسم العلوم الأساسية ـ
كلية التربية للطفولة المبكرة ـ جامعة دمنهور
التكوين المعرفى فى مسرح الطفل
– مسرح صلاح جاهين نموذجاً –
(1 ـ 5)
لا شك أن المسرح من أهم وسائل الاتصال الجماهيرى ، التى تعتمد فى إنجاز رسالتها الاتصالية على التلامس الوجدانى عبر الصور التعبيرية ، و التخيل الافتراضى الحامل للفكر و القيم ، بهدف إمتاع المتلقى بما يريد أن يقنعه به .
و القول بأهمية المسرح وسيلة اتصال جماهيرى ، لها أهمية نابعة من كون المسرح فن الحضور الاحتفالى ، الذى يلتقى فيه فنان المسرح برسالته الفنية ، و خطابه المسرحى ، لقاءً و جدانياً حميماً و مباشراً مع جمهوره ، اتفق فيه كلاهما على المشاركة فى لعبة إيهامية يتخللها وعى متبادل ، بالرسالة التى يطرحها النص المسرحى ، خلال عرضه على ذلك الجمهور ، الذى يحضر – خصيصاً – من أجل المشاركة الوجدانية / الإدراكية بأصول اللعبة المسرحية ،
بموافقة ضمنية على أنها احتفالية، لا تخلو من تحصيل معرفى على هيئة دعوة ، لتعديل بعض من السلوك الاجتماعى ، و البشرى السلبى المصادر على حرية الآخر ، و المعوق لمسيرة المجتمع ، نحو مستقبل أفضل ، أنفع و أرفع فى حياة مشتركة ، قائمة على المساواة فى الحقوق و الواجبات و قيم العدالة ، و احترام القانون ، و الرأى و الرأى الآخر ، و حل المشكلات عن طريق الحوار فى ظل قيم المجتمع المدنى.
تعد عملية التكوين المعرفى هدفاً أساسياً فى مجال الثقافة الخاص بجمهور الطفل ، فإنه يشكل الهدف الرئيس لمسرح الطفل ، مع الأخذ فى الاعتبار بما يتعلق بسيكولوجية الطفل ، و نظرية الاتصال و التواصل معه .
و قد كان و مازال لنظريات النمو المعرفى أثراً كبيراً فى الأعمال الأدبية ، التى تقدم للطفل ، و من أهمها المسرح ، و قد وقع الاختيار على نظرية ( جان بياجيه ) فى النمو المعرفى ، و اكتشاف مدى انعكاسها فى مسرح ( صلاح جاهين ) الموجه للطفل من ناحية – استناداً إلى نموذج من أعماله لمسرح الطفل العرائسى –و استكشاف مدى قدرة (صلاح جاهين) على تنقية ما استلهمه من تراث فى مسرحه، لتوصيل الحدوتة التراثية للطفل خالية من شوائب الخرافة ، و استبدالها بأخرى حداثية – من ناحية أخرى – خلال التطبيق على مسرحية ( صحصح لما ينجح ) .
تتمثل فى توظيف المعرفة ، خلال المسرح بطريقة ، تتلاءم و القدرات الإدراكية للطفل ، وتتناسب وسيكولوجية تلقيه ، و تسهم فى عملية التكوين المعرفى ، وفى قدرة الكاتب المسرحى على تفكيك الخطاب الخرافى المستلهم من التراث ، فى كتاباته المسرحية للطفل ، خلال تنقية العناصر الخرافية ، ذات الأثر السلبى على الطفل ، و إحلال قيم تعليمية إيجابية معاصرة ، تسهم فى عملية بناء
معرفة الطفل ، بناءً يدفعه إلى الاعتماد على نفسه فى إنجاز ما يطمح إليه ، و ما يسهم فى بناء مستقبله جنباً إلى جنب و إرشادات الأسرة و البيئة .و يرتكز البحث على عدد من الركائز أو تساؤلات افتراضية ، يجب الإجابة عنها لفض إشكاليته :
- ما مدى انعكاس نظرية النمو المعرفى لـ ( جان بياجيه ) فى مسرح الطفل عند (صلاح جاهين) ، و توظيفها خلال ( صحصح لما ينجح ) من باب اللعب الطفولى؟
- ما هى صور التشابك بين استلهام المؤلف المسرحى للطفل لعناصر من التراث بصورة حداثية ؟
- كيف استلهم المؤلف عناصر تراثية ، وصولاً إلى نتيجة تعليمية تنقى شوائب الخرافة فيما استلهم من تراث ؟ – خلال ( أسطورة القمقم و الجنى بصيحته الشهيرة : شبيك لبيك – عبدك بين إيديك ) فى ( صحصح لما ينجح ) .
- إلى أى مدى نجح ( صلاح جاهين ) فى معالجته لفكرة أنسنة الحيوان و الجمادات و توظيفهما فى مسرحه ، خلال استدعاء الأشياء و الأماكن ؟
المبحث الأول :
نظرية (بياجيه) فى ( النمو المعرفى ) و قراءات الباحثين حولها
ارتبط اسم ( بياجيه ) و نظريته بالجانب المعرفى ، أى تطور الكفاءة الذهنية . يرى (بياجيه) [1] ” أن النمو المعرفى هو نتيجة طبيعية لتفاعل الطفل مع البيئة ، التى يعيش فيها ، فالطفل يتعلم عن طريق تفاعله ، خلال الخبرات المباشرة ، فضلاً عن تعلمه كيفية التفاعل مع البيئة التى يعيش فيها ، دون إغفال المرحلة العمرية ، التى يمر بها ، لتضمنها عاملى النضج و الخبرة “.
” إنه تحسن ارتقائى منظم للأشكال المعرفية ، التى تنشأ من تاريخ الخبرات ، و السمات العامة لهذا النمو ، تتخذ صورة المتوالية الثابتة من المراحل ” [2]و تقوم نظرية (بياجيه) فى (النمو المعرفى) خلال التعلم على :
- القدرة على القيام بعمليات تحويل المعلومات ، التى تستقبل من البيئة ، و تتغير هذه العمليات بتغير السن ، و يطلق عليها ( بياجيه ) مصطلح البنى أو الخطط العقلية ، لمعالجة المعلومات ، و هذا تعريف ( الذكاء ) عند بياجيه [3].
- يحدث التطور أو النمو المعرفى ، خلال الانتقال من مرحلة العمليات إلى مرحلة جديدة .
- التطور هو علاقة بين الخبرة و النضج . “[4]
” إنه نتيجة تغير الأبنية العقلية ، بما تتضمنه من خطط أو صور إجمالية ، يزداد تعقيدها مع نمو الطفل، و تختلف هذه الأبنية العقلية اختلافاً كيفياً من مرحلة لآخرى ، و من هنا يميز ( بياجيه ) بين مراحل عدة يمر بها النمو العقلى أو المعرفى للطفل ، و هذه المراحل تتميز بعدد من الخصائص “[5] من أهمها :
- إن المتغيرات التى تحدث فى الأبنية العقلية ، ليست تغيرات كمية فحسب ، و إنما هى فى الأساس تغيرات كيفية ، بمعنى أن هذه المراحل متداخلة .
- هذه المراحل ثابتة فى نظام تتابع المراحل لدى كل طفل فى كل ثقافة .
- مراحل النمو المعرفى لدى الفرد متصلة و متداخلة ، بحيث لا نستطيع أن نضع حداً فاصلاً يفصل بين كل مرحلة ، و السابقة عليها و التى تتلوها “[6]
و قد ميز (بياجيه) بين أربع مراحل للنمو المعرفى ، تتعلق بالمفاهيم البيولوجية :
” ( المرحلة الحس حركية – مرحلة ما قبل العمليات – مرحلة العمليات المادية – مرحلة التفكير المجرد ) ” [7] ، و لأن هذه المراحل تتعلق بالتطور بيولوجى للعمليات العقلية ، فسينطلق البحث من المصطلحات الرئيسة لنظرية ( النمو المعرفى ) عند (بياجيه) ، و مدى انعكاستها فى مسرح
( صلاح جاهين ) ، و توظيفها بفنية مسرحية مراوغة ، تتناسب و سيكولوجية الطفل ، و قدراته الإدراكية ، وفق النظرية ، ثم تضمين البناء الدرامى فى النص للمرحلة العمرية . و تلك المصطلحات هى :
” 1- الذكاء ( النضج ، الخبرة المادية و الخبرة الاجتماعية ) .
2- الاستراتيجيات.
3- الثوابت الوظيفية ( التكيف : التمثيل ، المواءمة ) ، ( التنظيم ) .
4- الأبنية العقلية .
5- التوازن . “[8]
” القراءة المنتجة حول نظرية ( جان بياجيه ) ، و تطبيقاتها فى مسرح الطفل لـ ( صلاح جاهين ) “
قصدت بالقراءة المنتجة ، ما أشار إليه (سارتر) فى كتابه ( ما الأدب ) [9]، حيث حددها بالمعنى الجديد ، الذى ينتج عن قراءة منتج فكرى ، أو إبداعى ما ، و لا يتطلب الأمر أن نثبت ما إذا كان ( جاهين ) قد استند إلى نظرية ( بياجيه ) فى كتابته لمسرحية ( صحصح لما ينجح ) أم لا ، الأمر الذى لا يستقيم و حرية الإبداع ،
فالمبدع يحلق مع فكرة تسلب لبه ، ناسجاً أبعادها ، خالقاً منها كائناً يحيا فى عقل جمهوره و وجدانه ، أياً كان نوعية الجمهور ، و هنا يأتى دور العين الثاقبة للبحث العلمى ، ليوازن و يواءم بين النظريات و الأعمال الإبداعية، كاشفاً ما إذا كان بينهما علاقة ما ، خالقاً ما أطلق عليه القراءة المنتجة .
و فى هذا الإطار استعرض تحت هذا العنوان المصطلحات الرئيسية للنظرية ، و انعكاساتها فى مسرح ( جاهين ) تطبيقاً على ( صحصح لما ينجح )[10] إنطلاقاً من اللعب الطفولى ، ثم تضمن البناء الدرامى فى النص لمرحلة من مراحل النمو المعرفى فى نظرية بياجيه .
وحين نسلط الضوء على مسرحية ( صحصح لما ينجح ) ، يتضح لنا أن ( جاهين ) يبعث رسالة إيقاظ لمتلقيه ، خلال نصه المسرحى ، ذلك النص الذى استطاع كاتبه أن يتبنى فكرة تراثية متروكة ، عبر عنها ( عفريت القمقم ) فأكسبها ( جاهين ) لوناً حداثياً ،
حيث يبدأ النص باختراق ( صحصح ) دائرة مغطاة بغطاء شفاف ، كأنما ولد من رحم اللاوجود ، باحثاً خلال رحلة النص عن وجوده ، فيبدأ النص بوصف حالة الفوضى الناجمة من البراءة و الطفولة المنطلقة ، التى تتطلب منظماً و مدعماً لها ، كى تستقيم عبر مراحل النمو المعرفى ، التى تختلف باختلاف المرحلة العمرية ، تلك المرحلة العمرية ، التى يعبر عنها الزمن ، فالنص يظهر ( ساعة ) كبيرة بحجم الدائرة ، التى اخترقها ( صحصح ) فى بداية النص ،
و فى هذه المرة تتمخض ( الساعة ) بعدد من السبل و السوائل ، التى تعمل على التكوين المعرفى للطفل، فى مرحلته العمرية ، التى كثفها النص ، صانعاً بناءً درامياً يخطو ب (صحصح) خطوة تلو الأخرى ، صانعاً درباً منطقياً ، يمهد للطفل سبل النمو المعرفى ، وفق ما جاء به (بياجيه) فى نظريته ، استناداً إلى المصطلحات الرئيسة للنظرية.
أولاً: الذكاء :
و يشمل ( النضج ، الخبرة المادية و الاجتماعية )
يرى (بياجيه) “[11] أن الذكاء نشاط عقلى ، يتغير عندما ينضج الكائن الحى ، و عندما يكتسب خبرات جديدة فى حياته و هو عملية تكيف .”
” هذه الخبرات نوعان اجتماعية و مادية ، تلك الخبرات التى تنمو، و تطور بتطور العمر الزمنى للفرد ، سواء نمواً فسيولوجياً أو معرفياً ، و هو ما يسمى بالنضج “[12] و فى إطار (الخبرات الاجتماعية) ” التى تنتج عن تفاعل الفرد داخل الإطار الاجتماعى ، الذى يعيش فيه “[13] يتفاعل ( صحصح ) مع أسرته و متلقيه ، وفى حالة من الحالات التفاعل الإيجابى بين ( صحصح ) و متلقيه يبدأ النص بأغنية تعبر عن حالة نداء ، و استماتة من المتلقى لـ (صحصح).
الجمهور : ( يردد الجمهور كلمة يا صحصح )
صحصح يا صحصح يا ورد مفتح ……يا صحصح
اطلع على المسرح ……………………يا صحصح
اطلع من فضلك ……………………..يا صحصح
ورينا عمايلك………………………..يا صحصح
خلى الأطفال كلها تفرح .[14]
يدرك ( جاهين ) أهمية التفاعل الاجتماعى للفرد ، لما له من أهمية فى التبادل المعرفى ، الذى يحقق نمواً معرفياً ، وفق ما نظر له (بياجيه) ، جاعلاً شخصية (صحصح) شخصية منتظرة ، مرغوباً فى ظهورها لما تحققه من البهجة و السعادة ، و هو حال البشر فى انتظار مولود جديد ، فيعبر عن حالة المخاض فى إطار حداثى ، ملبياً ( صحصح ) النداء بقوله :
شبيكو لبيكو صحصحكو بين ايديكو [15]
و بظهور كافتى التواصل ، يتحقق التفاعل الاجتماعى ، الذى يحقق الخبرة الاجتماعية ، ينقل
( صحصح ) لمتلقيه تفاصيل المكان الذى يعيش فيه ، مكسباً إياهم كماً من المفردات اللغوية مثل:
ده بيتى – هنا بنام … هنا بذاكر …………[16]
و يتابع (صحصح) منح متلقيه ما يختزنه من خبرات ، حصل عليها خلال تفاعله فى إطار البيئة التى يعيش فيها .
صحصح: ده المطبخ ممنوع ألعب فيه ممنوع خالص…..
و لا ألعب فى أودة بابا و ماما أصلها دايماً متسوية [17]
و توضح عبارات (صحصح) أن قوله منطقياً ، مكتسباً خلال تفاعله الاجتماعى، فيطرحه (جاهين) على لسانه ، لينقل إيجابيات سلوكية خلال هذا التفاعل .
و لم يغفل (جاهين) أهمية الأسرة فى النمو المعرفى ” فالطفل ينمو جسمياً و عقلياً و حسياً و أخلاقياً و لغوياً و اجتماعياً فى آن واحد ، و تعتبر الأسرة مرتعاً خصباً لنمو هذه الجوانب المتعددة فى شخصية الطفل ” [18].
وذلك خلال تكوين معارفه فقد تناول (جاهين) أسرة (صحصح) ، تناولاً يعبر عن أهمية الأسرة فى حياة الطفل ، مظهراً مدى اللهفة و القلق من جانب الأم و الأب على (صحصح) ، جراء أى سلوك غير لائق يرتكبه ، خلال رحلة نموه المعرفى ، الأمر الذى يتضح فى النص ، حيث رفض الأم و الأب لموقف (صحصح) الفوضوى .
( تدخل الكرة من النافذة ، فتضرب الأب فى رأسه و تسقط نظارته )
الأب : إيه ده ؟
الأم : النظارة اتكسرت .
( نسمع صوت دربكة هائلة ، يدخل صحصح مندفعاً يلبس فى نصفه الأعلى
جردلاً مقلوباً ، و الماء يتساقط من جسمه و ملابسه) [19]
فيظهر على الأب و الأم الاستياء من جراء سلوكه مع إطلاق عدد من التساؤلات الاستنكارية لهذا السلوك .
الأب : بأه ده بنى آدم ؟
الأم : ايه ده يا ولد ؟ ده [20]
و يحاول (صحصح) الإجابة عن التساؤلات من داخل الجردل بصوت فوضوى ، لا تتضح حروفه ، الأمر الذى تناغم مع شكله الفوضوى الذى لا تتضح ملامحه .
و هنا يرسل (جاهين) خبرة اجتماعية لمتلقيه ، توضح الرفض و الاستياء من هذه السلوكيات، معضداً رسالته بالقول و الفعل ، انطلاقاً من عالم اللعب الطفولى ، فهدف (صحصح) اللعب و المتعة ، دون أن ينتبه للسلبيات و المخاطر ، و هنا يكمن دور الأسرة فى الإرشاد و التوجيه، و إكساب الخبرات الاجتماعية السليمة ، المنظمة لعملية اللعب .
” فاللعب نشاط فطرى يقوم به الكائن الحى، لكى يتعرف خلاله على نفسه ، فيدرك ما يتمتع به من استعدادات ، كما يتعرف على البيئة من حوله ، و ما يتمتع به من خصائص و صفات” [21].
فصلاح جاهين يدرك تماماً أن نافذة الطفل على بيئته ، و عالمه المحيط هى اللعب ، ذلك اللعب الذى يعد صفة بارزة من صفات (صحصح) ، فهو يجرى أى سلوك خلال اللعب ، الذى عرفه على إمكاناته ، كغيره من الأطفال يجرى و يقفز و يغنى و يقلد ………….
و لا يمكن إغفال العواطف و المشاعر ، و دورها فى خلق جو من الألفة ، التى تنعكس على سلوك الطفل بشكل إيجابى فى إطار تفاعله مع أسرته ” فعواطف الطفل و مشاعره ، تظهر قبل عقله ، ويمكن الإفادة من أحاسيسه قبل ذخائره العقلية بكثير ، ففى الوقت الذى لا يفهم الطفل فيه المسائل العلمية و لا يدركها ، يدرك القضايا العاطفية ، و تؤثر فيه ، كالحدة و الغلظة و اللين و الرفق
و الحنان ….. ، فإن موضوع تنمية مشاعر الطفل يشغل قسطاً مهماً من المسائل التربوية ” [22].
فعملية التبادل العاطفى التى أوضحها (جاهين) فى نصه بين الأبوين و صحصح، تخلق حالة من الطمأنينة و الرضا عن الذات ، الأمر الذى يكسب الطفل ثقة فى نفسه و من حوله ، تساعده على الصفاء الذهنى ، الذى يدعم عملية النمو المعرفى ، فنجد ( الأب ) يتناسى سلوك (صحصح) السئ ، و تسيطر عليه عاطفة الأبوة.
الأب: مدفى كويس ؟ ( يميل عليه و يقبله و هو نائم ثم تقبله الام )
الأم : متغطى كويس ؟ نايم زى الملاك
الأب : يكسرلى النضارة معلش…. إنما ييجي لى مبهدل و لابس لى جردل و
غرقان ميه و حالته تغم . ده ياخد التهاب رئوى بالشكل ده
الأم : بعد الشر….أنا نشفته كويس و غيرت له.[23]
و لكى يوضح (جاهين) أن عملية التبادل فى الخبرات الاجتماعية داخل الأسرة ، نابعة من التبادل العاطفى ، يجعل (صحصح) يدعى النوم ، فيتحقق التواصل العاطفى الإيجابي الفاعل، الذى يغذى الطفل ، و يمنحه القدرة على نمو معرفى سوى .
أما فى إطار (الخبرات المادية) ” و هى ممارسة عمليات حسية على البيئة و استكشافها كما عرفها (بياجيه) “[24]
فقد تناولها (جاهين) تناولاً منطقياً نابعاً من البيئة المحيطة ، ليس لـ (صحصح) فحسب بل لكل طفل ، هى عملية التبادل المعرفى للخبرات خلال بيئة المدرسة ، التى تناولها (جاهين) تناولاً درامياً يجمع بين المتعة و التعلم ، دون اللجوء إلى المباشرة الوعظية .
حيث ينقلنا (جاهين) إلى عالم الطفل الافتراضى عبر أجواء متخيلة ، لا يمكن أن نطلق عليها كلمة الحلم فى مطلقه ، إنما هى حالة من الاستدعاء المقصود من (صحصح) كان مفتاحها الساعة التى وعد والده بإهدائها له عند نجاحه .
و نلاحظ أنها هدية مشروطة بالنجاح ، و هو ما يؤكد أن ما حدث لـ (صحصح) ليس حلماً ، لأنه فى حالة من حالات التوتر و الأرق ، فلن تتم سعادته بالساعة ، إلا عندما ينجح ، ذلك النجاح الذى شغله كثيراً ، فتصاعدت أصوات التلفاز و المذياع ، معلنة نجاحه، و فى إعتقادى أن هذا الصوت نابعاً من (صحصح) ذاته ، فى حالة من حالات اللعب الطفولى ، القائم على فكرة التخيل ، لتحقيق الرضا ، و التوازن النفسى لديه .
يقول (سارتر) ” [25]إن الخيال هو نسخة ثانية من واقع محتمل ، فهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت فى الذهن أولاً ، قبل تجسيدها المادى” .
الأمر الذى حدث بالفعل لـ (صحصح) ، فقد تجسدت صورة (الساعة) فى ذهنه ، بمجرد تلفظ والده باسمها ، ثم بدأت حالة التخيل الإبداعى ، محولة الواقع المحتمل إلى واقع فعلى عن طريق الخيال.
حيث يرى (فرويد) [26]” أن اللعب و التخيل يكشفان عن الحياة الداخلية للفرد ، و إسقاط الرغبات، و إعادة تمثيل الأحداث المسيطرة عليه ”
” فالطفل يحيا فى عالم يهيمن عليه الكبار بأساليبهم و طرقهم ، و كثيراً ما يستعين بخياله ، ليخفف من مظاهر الضغط ، متجاوزاً حدود الزمان و المكان ، و الواقع و المنطق ، و يضفى على بيئته ألواناً سحرية غريبة ، تساير فى جوهرها مظاهر نموه و آماله و أحلامه” [27]، فاستدعاء (صحصح) لصورة (الساعة) تجسيداً لواقعه المحتمل ، هو وسيلة (جاهين) لعرض الخبرات المادية ، التى تعمل على تحقيق النمو المعرفى ، خلال المراحل التى يمر بها (صحصح) عبر رحلته ، متقلداً الخيال و التخيل و اللعب و الاستدعاء ، وسائله لإثراء قاموسه المعرفى و الوجدانى و الإدراكى ، وصولاً إلى التكيف و من ثم النضج .
و بظهور (الساعة) كبيرة الحجم ، بعد غناء (صحصح) لها ، مستدعياً إياها فى حالة من البهجة، بدأ اللعبة ظناً أنه يستمتع خلالها بسلوكه الفوضوى ، و فى بداية الأمر يصاب بالدهشة من كبر حجمها ” و تستثار غريزة الدهشة لدى الطفل ، عندما يكون أمام أمر يهمه معرفته ، و قد يكون لديه معرفة بجزء منه ، و قد يكون يجهله تماماً ، و هى غريزة ذات أهمية كبيرة بالنسبة للطفل ، لأن استثارتها تدفعه لاكتشاف الحقائق بنفسه ، و الحصول على الخبرات ، التى يحتاجها فى الحياة ، كى تدفعه إلى الدراسة ، و التتبع و الاستمرار فى الكبر ، بغية الوقوف على كل ما يجرى من تطور و تغير حوله ” [28].
و يتضح الأمر لـ (صحصح) فى أن هذه (الساعة) ليست كما يظن وسيلة من وسائل استهتاره ، فيعقد (جاهين) حواراً بين (صحصح) و (الساعة) كاشفاً حقيقة (الساعة) التى يجهلها (صحصح) ، و قد جعل الحوار مبنياً على النقاش خلال استراتيجية السؤال و الجواب .
صحصح: كنت عاوز ساعة
الساعة: ليه ؟
صحصح: عشان نجحت فى الإمتحان
الساعة : افهم السؤال كويس ليه عايز يكون عندك ساعة ؟ ( الساعة تضربه بعقربها ضربة خفيفة ……)
صحصح: بس متضربيش
الساعة: (ملاطفة) طب قول عشان ايه ؟
صحصح: اتعايق بيها [29]
و يستمر (صحصح) فى طرح إجابات لأسئلة الساعة كلها خاطئة ، محققاً إثارة غضبها ، خلال جو من اللعب الطفولى و الفانتازيا و المرح و العنف أحياناً ، حيث ” تشير الدراسات إلى أن محتوى اللعب الإيهامى للأطفال غالباً ما يكون غريباً و عنيفاً ، و ينسحب هذا أيضاً على موضوعات و شخصيات لعبهم ” [30].
و يستغل (جاهين) إخفاق (صحصح) فى إجاباته ، وسيلة لإكسابه خبرات مادية ، خلال تصحيح خطأه ، مستنداً إلى أهمية الوقت فى حياة الفرد ، و أن تنظيمه أساس النمو المعرفى، و تحقق اكتساب الخبرات ، متخذاً من ( الساعة ) معلماً متفاعلاً على مستوى اللفظ و الفعل و الصورة ، فنجدها تشير إلى الزمن ، الذى حوله إلى شئ مادى ملموس ، خلال تجسيد مفرداته، التى جسدها و شكلها فى صورة شخصية تتحدث ،
و هو يتفق فى ذلك و مفردات عالم الطفل، الذى يجنح دائماً إلى الماديات ، ليكتسب الخبرات ” فالصورة البصرية تشغل حيزاً واضحاً فى نشاط الطفل الخيالى ، خاصة فترة طفولته المبكرة و المتوسطة ، فالخيال طريق لامتصاص الأطفال للثقافة ، و هو أسلوب لتجسيد عناصرها فنياً ” [31]، فتتحول الساعة / الزمن إلى شئ مادى ملموس ، يختزن مفردات مادية ، فعندما تدق السابعة تخرج (الشمس) ، و هى من مفردات البيئة ، التى تعبر عن الصباح بطريقة مباشرة و بسيطة ، يستكشف خلالها الطفل طبيعة الصباح ، الذى يرتبط ارتباطاً كلياً بالشمس
صحصح: ييييه من إلى فتح الشباك ؟
الشمس : أنا ماجيتش من الشباك .
أنا جيت من هنا……..
صحصح: من الساعة الكبيرة ؟[32]
نلاحظ خلال حواره مع (الشمس) أن (جاهين) اختزل حياة (صحصح) فى الساعة/الزمن ، بل أصبح (صحصح) جزءً من مفرداتها ، فهى – الساعة – التى تعبر عن النمو الفسيولوجى فى صورته المقتضبة خلال النص ، مكتفياً (جاهين) بالنمو المعرفى خلال (النضج) الذى تحدث عنه (بياجيه) فى نظريته ، الذى حققه (جاهين) لـ (صحصح) خطوة بخطوة ، خلال التدرج فى المعرفة . ” و لما كان من المفيد فى تربية الطفل الحيلولة دون استيعاب البيئة استيعاباً تاماً ، حتى تنمو مدركاته خطوة خطوة ، فإن تضمين الكاتب المسرحى للمعلومات فى مسرح الطفل ، يجب أن يكون خطوة بخطوة “[33]
و يتقلد (جاهين) زورق الإبداع الدرامى سابحاً ، خلال مفرداته المسرحية فى حبكات بسيطة ، طارحاً عدداً من السلوكيات السلبية ، و إحلال قيم إيجابية ، تسهم فى بناء معرفة الطفل مثل (الإهمال – الكسل – الملل ……) .
صحصح: أما أروح أشرب
( بقرف ) .. الحوض مسدود .. أنا عارف ايه الأولاد دول اللى بيرموا
حاجات فى الحوض يسدوه ؟ مش يعرفوا ان فى غيرهم كمان عاوزين
يستعملوه ؟
حاجة وحشة أوى ..[34]
فنلاحظ من هذا الموقف اكتساب (صحصح) خبرة مادية ، خلال ممارسة فعلية لعملية حسية، عن طريق مفردات البيئة المتمثلة فى ( الحوض و المياه و القاذورات ) ، التى تسببت فى سد الحوض ، و يعتبر استنكاره لهذا السلوك ، عملية اكتشاف نتجت عن طريق وعيه بمفردات الموقف ، فعملية الاستنكار هى نوع من تعديل السلوك ، الذى يؤكد سلبية ما رآه و رفضه له ، فـأرسل لمتلقيه خبرة تعليمية فى ذلك الرفض ، محققاً نمواً معرفياً مبنياً على خبرة مادية،
فالخبرات المادية وسيلة حيوية فى عملية النمو المعرفى ، لما لها من قدرة فاعلة على اكساب الطفل قدرة على التعلم ، خلال رموز البيئة المحيطة به ، التى تحولت إلى مثير ، حفز الطفل على استكشافها ، وصولاً إلى اكتسابه الخبرات محققاً التعلم ، ” الذى يجب أن يتدرج من الخبرة إلى رمزها ، فالخبرة تختزن فى الذاكرة بصيغة رمزية ، و متى ما وجدت مثيراً لها ، فإنها تستقدم لتصبح و تعبر عن استجابة ، و هكذا يحدث التفاعل ، حيث يستمر الطفل بالنمو و التطور المعرفى ، لأن الرمز هو نتاج طبيعى لعقل الطفل ” [35]،
فالساعة و محتوياتها من شمس و جرس و حذاء و جمل و أبى الهول و شوكة و كراسة الواجب و المسألة الحسابية ……….و غيرها ، كلها رموز مختزنة فى ذاكرة الطفل ، كان المثير لاستحضارها و تجسيدها تخيلاً هو كلمة الأب ( الساعة ) ، ذلك التجسيد الذى حقق التفاعل فى عالم الطفل الافتراضى ، و انعكس عليه انعكاساً فعلياً دالاً على اكتسابه عدد من الخبرات المادية ، التى بنيت على حالة من الاستكشاف لمفردات البيئة محققة النمو المعرفى ، الذى يعبر عن حالة من النضج على مستوى المعرفة و التطور الزمنى ، التى تتيح للطفل حالة من التكيف التى تعبر عن الذكاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر و المراجع:
[1] ) انظر فى : جان بياجيه ” سيكولوجية الذكاء ” ت : سيد محمد غنيم ( القاهرة – دار الأمل للطباعة والنشر 1978 ) ص 197 .
[2] ) فؤاد أبو حطب ، آمال صادق ” علم النفس التربوى ” ( القاهرة – الأنجلو المصرية 1996 ) ص 196 .
[3] ) جودت عزت عبد الهادى ” علم النفس التربوى ” ( عمان – دار الثقافة 2000 ) ص 86 .
[4] ) روث . م . بيرد ” جان بياجية وسيكلوجية نمو الأطفال ” ت : فيولا الببلاوى ( القاهرة . الأنجلو المصرية 1977 ) ص 9 .
[5] ) انظر فى : محمد عودة وآخر ” الطفولة والصبا ” ( الكويت – دار القلم 1984 ) ص 92 .
[6] ) انظر فى : عبد المجيد نشوانى ” علم النفس التربوى ” ( الأردن – دار الفرقان – 1986 ) ص 88 – 89
[7] ) انظر فى : فاضل محسن الإزير جاوى ” أسس علم النفس التربوى ” ( الموصل – دار الكتب للطباعة والنشر 1991 ) ص 88
[8] ) انظر فى : جان بياجيه ” علم نفس الولد ” : ت : خليل البحر ( بيرت – المنشورات العربية 1972 ) ص 140 .
[9] ) جان بول سارتر ” ما الأدب ؟ ” ت : محمد غنيمى هلال (د) ( القاهرة – دار نهضة مصر د / ت )
[10] ) صلاح جاهين ” صحصح لما ينجح ” – الأعمال الكاملة ( القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008 )
[11] ) مقتبس فى : فؤاد أبو حطب ، آمال صادق ” علم النفس التربوى ” سبق ذكره ص 184
[12] ) محمد عودة وآخر ” الطفولة والصبا ” سبق ذكره ص 92 .
[13] ) نفسـه .
[14] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 21 .
[15] ) نفسه 22 .
[16] ) نفسه ص 22 .
[17] ) نفسه ص 22 .
[18] ) محمد كامل النحاس ” سيكولوجية الضمير ” القاهرة – دار الفكر العربى 1996 ) ص 79 .
[19] ) نفسه ص 26
[20] ) نفسه ص 26
[21] ) نبيل سليم على ” الدراما عند الطفل ” مجلة الفنون ع 26 ( القاهرة – دار المعارف 1985 ) ص 56
[22] ) محمد تقى فليسفى ” الطفل بين الوراثة والتربية ” ( بيروت – مؤسسة الأعلى للمطبوعات 1969 ) ص 234
[23] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” نفسه ص 32 – 33
[24] ) مقتبس فى : جودت عزت عبد الهادى ” علم النفس التربوى ” سبق ذكره ص 93
[25] ) سارتر ” ما الأدب ” سبق ذكره ص 32
[26] ) مقتبس فى : سوزانا ميلر ” سيكولوجيه اللعب ” ت : حسن عيسى – عالم المعرفة ع 120 ( الكويت – المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب 1987 ) ص 11 – 12
[27] ) نفسه ص 179 .
[28] ) أبو الحسن سلام (د) ” مسرح الطفل ” ( الإسكندرية – دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر 2004 ) ، ص 24
[29] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 41
[30] ) سوزانا ميلر ” سيكولوجية اللعب ” سبق ذكره ص 306
[31] ) هادى نعمان الهيتى ” ثقافة الطفل ” ( الكويت – مطابع الرسالة د / ت ) ص 82
[32] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 44
2) أبو الحسن سلام (د) ” مسرح الطفل ” سبق ذكره ص 41
[34] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 53
[35] ) هربرت ريد ” تربية الذوق الفنى ” ت : ميخائيل أسعد ( القاهرة – الأنجلو المصرية – 1975 ) ص 236 .