أ.د. راندا حلمي السعيد تكتب: التكوين المعرفى فى مسرح الطفل – مسرح صلاح جاهين نموذجاً – (3 ـ 5)
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
أ. د. راندا حلمي السعيد
أستاذ التمثيل والإخراج
قسم العلوم الأساسية
نستكمل هنا الجزء الثالث من الدراسة والتي نشرنا الجزء الأول والثاني منها..
و قد أوضح سلوك (صحصح) فى أثناء لعبه ، و طريقة تفاعله مع مفردات البيئة ، أنه فى المرحلة الثالثة ( مرحلة العمليات المادية ) ، أى فى المرحلة الإبتدائية ، التى عرفها (بياجيه) [1]
“أن الطفل يمارس بها العمليات ، التى تدل على حدوث التفكير المنطقى ، إلا أنها مرتبطة على نحو وثيق بالأفعال المادية الملموسة ، و التفكير الصورى الذى يعتمد على تكوين صور حسية” مما جعل (جاهين) يوظف الماديات الملموسة ، و يجسدها أمام عين المتلقى ، لإيضاح أهمية الوقت ، و هو ما أوضحه البحث من قبل .
و أهم ما يميزتلك المرحلة :[2]
- الانتقال من اللغة المتمركزة حول الذات إلى اللغة ذات الطابع الاجتماعى:
” و تأتى أهميتها بفعل دخول الطفل فى شبكة علاقات جديدة ، تتمثل فى إلتحاقه بالمدرسة ، حيث تأخذ اتصالاته بالعالم الخارجى مساراً أكثر اتساعاً من مجتمع العائلة ، و هذا يعنى أن عدداً من الموضوعات المعنوية كالتقاليد و الأعراف و الدين ، ما إلى ذلك تبدأ بالطرق على ذهنه بطريقة فاعلة ، نظراً لاتساع قدراته الحسية و العقلية ، و يكون مستعداً لاكتساب الخبرات، و تمثل الخبرة مثيراً لابد من أن يفضى عن استجابة آنية و بعدية “[3]
و من المواقف التى طرحها النص ، عن وجود تفاعل اجتماعى خارج محيط الأسرة ، فكرة الثواب و العقاب ، لإكساب الطفل خبرة سلوكية ، تستهدف عدم تكرار الخطأ ، فنجد (صحصح) يدخل متأخراً حصة النبات ، فيعاقبه الأستاذ (زهرة حنك السبع) ، و يدخل (عم جمعه) حارس المدرسة منادياً (صحصح) للرحيل للبيت ، فيعترض الأستاذ.
حنك السبع: لا يا عم جمعه الولد ده متذنب ساعة بعد الحصص
عم جمعه: واه . معلش سماح النوبة
حنك السبع: مفيش فايدة دخل الحصة متأخر دقيقة
صحصح: معلش
عم جمعه: تستاهل إللى ميدخلش الحصة فى الميعاد ، علشان ايه يخرج من المدرسة فى
الميعاد.[4]
و من هنا يتضح إدراك (صحصح ) خطأه ، و هو عدم احترام الوقت ، خلال تفاعله الاجتماعى ، مع أستاذه و حارس المدرسة ، مما اكسبه خبرة سلوكية ذات طابع اجتماعى ، تؤهله لاستجابات مسبقة لمثيرات محتملة ،تستهدف احترام الوقت .
- يحدث تفكير الأطفال خلال استخدام الأشياء و الموضوعات المادية الملموسة :
و قد بنى (جاهين) نصه على طرح عدد من الأفكار و السلوكيات ، التى تتطلب تعديلاً خلال كم من الأشياء المادية الملموسة ، المنبثقة من مفردات البيئة ، التى يعيشها ( صحصح ) ، لتكون أكثر تأثيراً ، و إيجابية فى عمليات تعديل سلوكه مثل (الحذاء ، الساعة ، الشمس ، أبو الهول ، حنك السبع ، كراسة الواجب ، الشوكة …)
تلك المجسدات التى ظهرت فى صور بصرية متحركة أمام أعين المتلقى ، تجمع بين الواقع الملموس و التخيل الإبداعى للطفل . ” فالطفل حتى عمر الحادية عشر ، يكون قد انتقل إلى دور آخر أقرب إلى الواقع ، فهو يهتم بالواقع دون تخليه عن التخيل ، و يكون التخيل القائم على الصورة البصرية هو الغالب ، خلال فترة الطفولة المبكرة و المتوسطة”.[5]
- يتطور مفهوم البقاء و الاحتفاظ كتلة و وزناً و حجماً :
فبعد ما ينطح (صحصح) الدائرة الورقية ، و يظهر أمام الجمهور متحدثاً إليه تظهر الأشياء التى يستدعيها على التوالى (السرير – المكتب – الشباك – السفرة – ……….) فهنا يتجسد مفهوم البقاء، و الاحتفاظ عند (صحصح) ، خلال وجود كتلة و وزن و حجم للأشياء ، محققاً الرسوخ فى الذهن، و قد تحقق ذلك أيضاَ خلال اندهاشه من كبر حجم (الساعة)
صحصح: يا وعدى . إيه ده كله .[6]
- تتطور عمليات التفكير فى أكثر من طريقة أو بعد واحد :
فقد أكسب (جاهين) الأشياء أكثر من بعد فى عمليات التفكير ، فالشوكة أداة المائدة ، كانت خادمة – و زهرة حنك السبع ، كانت مدرس النبات – و أبو الهول رمز التاريخ ، كان معلم التاريخ – و الساعة رمز الوقت ، كانت الموجه و المعلم بقيمة الوقت و تنظيمه طوال النص …. و هو الذى يتحقق فعلياً فى حياة الطفل ، حيث منح الأشياء أكثر من بعد فى عمليات التفكير ، و هو ما اتضح عند (صحصح) ، حيث وظف الورقة فى صناعة المركب ، و الحوض أحاله بحراً ، و تخيل نفسه البحار.
5.تتطور عمليات التجميع و التصنيف و تكوين المفاهيم :
و من العمليات العقلية ، التى طرحها النص فى شكل لعبة ، خلال تجسيد مفاهيم حسابية ، اعتمدت على الجمع و الطرح ، وصولاً إلى تكوين مفاهيم رياضية ، المشهد الذى جسد فيه علامات الحساب ، و هى تغنى طارحة عدداً من المسائل الحسابية :
علامة الجمع : عندك أربع برتقالات ، و كمان أربع برتقالات
علامة الطرح : أكلت ثلاثة يفضل كام ؟………..
صحصح: يفضل خمسة .
الجميع : شاطر شاطر .[7]
- فشل التفكير فى الاحتمالات المستقبلية دون خبرة مباشرة بالموضوعات المادية :
اعتمد (جاهين) فى عملية تعديل سلوك (صحصح) على فكرة الفشل فى التفكير فى الاحتمالات المستقبلية ، دون خبرة مباشرة بالموضوعات المادية ، كاشفاً أن (صحصح) فى مرحلة عمرية، تتطلب وجود كماً من المعارف و المفردات ، التى تعمل على وجود أبنية عقلية ، تتيح له تكوين استجابات مسبقة ، لمثيرات متوقعة ، إلا أن النص طرح لـ (صحصح) عدداً من المثيرات غير المتوقعة المبنية على عدم احترام الوقت ، فأحدثت فشلاً فى التفكير لديه ، مما اضطره للبحث عن الطرائق و الوسائل ، لتكوين استجابات لتلك المثيرات الجديدة ، الأمر الذى تحقق خلاله عمليتى التعليم و التعلم ، وصولاً لتعديل السلوك .
- يتطور مفهوم المقلوبية (المعكوسية) :
فخلال رحلة النص ، حدث تطور لدى (صحصح) فى عملية النمو المعرفى ، خلال تكوين المعرفة حيث :
الساعة للعياقة الساعة لتنظيم الوقت
الهرجلة فى المظهر الانضباط فى المظهر
اللعب فى كل وقت اللعب فى وقت محدد
النوم و الأكل فى أى وقت النوم و الأكل فى وقت محدد
الحوض و القاذورات المركب الورقية و البحار
صحصح : مش قولتلكم حتقلب قصدى حتعدل [8]
و هذا يوضح عملية تطور مفهوم المقلوبية من السلبى إلى الإيجابى لديه ، خلال رحلة نموه المعرفى خلال النص .
” و من الصور التى تفصح عن كفاءة الطفل الذهنية ، و هى صور يؤثرها الطفل ( صورة اللعب، صورة التخيل و أحلام اليقظة ، صورة السؤال و الحكاية ، صورة الهواية ) ، التى تظهر بشكل واضح مجتمعة فى مرحلة العمليات المادية “[9]
و قد وظف (جاهين) تلك الصور ، بأنواعها المختلفة فى نصه ، فقد تحققت صورة اللعب عند (صحصح) فى أكثر من موضع مثل (لعبه بالكرة ، لعبه مع الفراشة، مع المركب الورقية ، مع الجردل، لعبة المساكة مع الساعة.).
أما صورة التخيل و أحلام اليقظة ، كان لها باعُ كبيراً ، خلال الحلم الكبير ، الذى مر به (صحصح) محلقاً فيه بين الخيال و التخيل ، وصولاً إلى الواقع ، و تحقيق التوازن بينهما ، عبر اكتسابه كماً من المعارف ، خلال طرحه عدداً من التساؤلات بحثاً عن إيجابات لها . أما صورة الهواية فتتمثل فى ( لعبة الكرة ، عمل المركب ، محاكاة الفراشة ، الغناء ، الحركات البهلوانية……… ).
و تعد تلك الصور الفنيات الرئيسة لتكوين البناء المسرحى للنص ، ذلك البناء الذى سار بالتوازى مع خصائص البناء المعرفى لنظرية (بياجيه) ، متخذاً من مرحلة العمليات المادية ، عاملاً مشتركاً بين النص و النظرية ، ماراً بحالة من التناغم و الاتساق فى مصطلحات النظرية ، و خصائص تلك المرحلة ، فالمصطلحات تتحقق فى كافة مراحل النمو ، إلا أنها ترتقى من مرحلة لأخرى ، و هو ما حدث بالفعل مع (صحصح) حيث الارتقاء على مستوى الزمن المسرحى ، الذى هو مقابل الارتقاء فى الزمن البيولوجى لدى (بياجيه) ، بهدف تحقيق النمو المعرفى .
المبحث الثانى :
أولاً : دلالات التشابك بين التراث و الحداثة فى (صحصح لما ينجح)
” انطلق (جاهين) من التراث إلى التأرخة ، خالقاً قالباً مسرحياً حداثياً ، فض فيه التشابك ما بين التراث و الحداثة ، صانعاً حالة من الانتقاء الإيجابى ، لشوائب الخرافة ، منحها صفة التحقق الفعلى ، دون التخلى عن التخيل الإبداعى عبر أجواء افتراضية ، التى يرتضيها الطفل ، يسبح عبرها وصولا إلى النمو المعرفى ، عبر اكتساب مفاهيم ، و مدركات تحقق أبنية عقلية ، تمنحه الإتزان خلال التعليم و التعلم .
فقد اتخذ الكاتب قالباً من التراث ، ليصب فيه أحداث مسرحيته ، خلال طرحه قضايا معاصرة ، وتخص الطفل فى فترة كتابته للمسرحية ، فالتراث مصدر ثرى ألهم عدداً كبيراً من كتاب المسرح. ” و الأصالة لا تعنى التخلف و الجمود ، و إنما هى الرؤية المعاصرة للتراث ، لأنه لابد لنا و نحن نتعامل مع التراث ، ألا نتعامل معه كمادة خام ، تنتمى للماضى البائد ، و إنما نتعامل معه كمواقف و حركة مستمرة ، تساهم فى تحريك التاريخ و تطوره “[10]
فـ (جاهين) يتعامل مع التراث تعاملاً نقدياً حداثيا ، قهو يستقى مادته الأساسية منه ، ثم يعمل فكره النقدى و خياله الإبداعى فيما استلهمه من تراث ، و يعارض الرسالة الفكرية فى المادة المستلهمة، فيفكك من جنس الموضوع مفسراً للتناقض ، و ليس التوافق .
فالقصة التراثية التى تنطلق منها المسرحية ، تتضمن رسالة تهدف تكريس فكرة الاعتمادية و التخاذل و انتظار اللا معقول ، لتحقيق المعقول ، دون إجهاد العقول ، و البحث عن فعل بشرى منظم مبنى على عمليات عقلية ممنهجة ، كردود أفعال لمثيرات متوقعة أو غير متوقعة .
فشبيك لبيك التى رددها (صحصح) فور خروجه الناطح ، أو المخترق للدائرة الورقية ، التى هى المعادل الرمزى الحداثى لقمقم الجنى فى الأسطورة ، تكشف استلهاما حداثيا قارئا لصورة الجنى و القمقم من منظور التأرخة البريختية[11] ، التى يكون على الكاتب المسرحى أن يعيد تصوير الحادثة المستلهمة من التراث على مجتمعه المعاصر ، لنقدها و الحكم عليها و تغييرها .
فجاهين يعيد عرض الجنى المحبوس فى قمقم على المتلقى الطفل ، خلال مخيلة معرفية تنويرية عصرية ، تناسب سيكولوجية التلقى الطفولى ، فاستبدل خروج الجنى من القمقم بخروج (صحصح) مخترقاً الدائرة الورقية ، التى تحمل عنوان (صحصح لما ينجح) ، فدلالة اسم (صحصح) تعبر عن حالة الوعى ، فهى دعوة لصحصحة أجيالنا ، و توعيتهم بمزالق الحكايات التراثية ، التى تنطوى على إيهام أسطورى خرافى سلبى ، يصيبهم بداء التقاعس عن توليهم لشؤونهم ، و تحقيق أمورهم بأنفسهم ، و اتكالهم على شخصية خرافية خارقة ، تحقق لهم آمالهم و طموحاتهم الخاصة ،
لذلك استبدل (جاهين) الشخصية التراثية الرمزية ، بشخصية مولود حداثى فى طفولة صحيان وعى المجتمع ، فكان (صحصح) بديلاً للجنى ، له قدراته الخارقة أيضاً ، فهو شخصية جنية ، توجد حاجاتها بنفسها ، دون اعتماد على كائن تراثى أسطورى جنى أو إنسى ، فما أن يلفظ اسم الشئ على لسانه ، حتى يظهر على الفور ظهوراً مادياً تراه العين .
(فى أثناء كلام صحصح تظهر الأشياء التى يذكرها على التوالى سرير – مكتب – كرسيان كبيران ……)[12]
و إذا كان ظهور الجنى التراثى ، تلبية لنداء من أخرجه من القمقم ، أو من لامست أصابعه المصباح السحرى ، فكهذا ظهر (صحصح) ، الذى ينطح الدائرة الورقية و يخرج منها ، كما نطح الجنى القمقم و خرج منه ، متحرراً من محبسه ، كذلك يخرج الطفل من سجن الحكايات الخرافية ، المقيدة لقدرته الذاتية إلى تحقيق ما يطمح إليه و يأمله بذاته .
هكذا يستبدل المؤلف الحداثى الشخصية الأسطورية ، بشخصية حداثية واقعية واعدة ، و يستبدل القمقم بشكل دائرى ورقى ، و يستبدل اختراق الجنى و تحرره من سجنه باختراق (صحصح) و تحرره من سجنه ، حبيس كتب التراث منذ أن كتبت فى مجلدات ألف ليلة و ليلة . كما استبدل (جاهين) فكرة الإستدعاء ، حيث يستدعى الأطفال (صحصح) ، طليعة حداثتهم المنشودة ، للحضور على المسرح ، ليعرض عليهم – بوصفه شخصية يتقنع خلفها المؤلف – خارطة طريق معرفية تنويرية ، مستعيناً بالأدوات المساندة لعرضه ، بتوظيفه لتقنية الاستدعاء التخيلى للأشياء ( ملحقات العرض ) مع الإستدعاء التخيلى الإيهامى للشخصيات المشاركة له فى عرضه التعليمى التنويرى ، بتخليق الشخصيات و مكونات الصورة المشهدية ، خلال تقنية (المسرحة) ، التى تعنى ” توظيف كل ما هو مسرحى خالص فى النص ” [13]
و فى توظيفه لعبارة ( شبيكو لبيكو صحصحكوا بين إيدكوا ) إلا للإيحاء بإستدعاء الصورة التراثية، و تنبيه لأذهان جمهوره ، أنهم بصدد فرجة إدراكية على صورة أو حكاية تراثية ، بطريقة عرض معاصر من منظور ثقافى تنويرى معرفى .
فالجنى التراثى يقول ( شبيك لبيك … عبدك بين إيدك ) تتجلى كاف المخاطبة فى نهاية الكلمات فى خطاب مباشر مقصور على الشخص ، الذى حرر الجنى ، بصورة فردية تعبر عن الأنانية و الاستحواذ و الذاتية ، و أن هذا الخير المفترض للشخص المحرر وحده ، كرد فعل لفعله ، كما أن كلمة (عبدك) تعبر عن التبعية و الجبرية ، فقد فرض المحرر على الجنى خدمته ، دون منحه حق الاختيار ، فتشاركا معاً فى علاقة جبرية مفروضة .
و لفظة ( بين إيديك ) تعبر عن صغر المساحة المكانية ، التى تحمل دلالات صغر المساحة العقلية، فالعلاقة بينهما طلب من المحرر ، و إجابة من المتحرر ، دون وعى المحرر بكيفية إمكانية تحقيق الطلب ، أى دون إعمال للعقل فى منظومة برجماتية نفعية ، تكرس فكرة الاتكالية و الكسل و الخنوع من الطالب .
“فالجن الذى يظهر للبطل خلال إحدى الأدوات ، التى يخدمها يأتمر بأمره ، و يحقق له ما يريد، و قد يكون الجنى سبباً فى شقاء الإنسان أو سعادته” [14]
“إن فحص آليات تكوين الأسطورة ، و دورها التاريخى و التراثى فحصاً درامياً ، يتحقق هذا الفحص الدرامى فنياً و فكرياً فى النص ، خلال جعل نمطين من التفكير هما : النمط الأسطورى، و النمط التحليلى من ناحية ، و جدل صبغتين مسرحيتين من ناحية أخرى ، إحداهما يرتبط بالتسلية و الإيهام ، و دعم الأساطير الموروثة و ترسيخها ، و اللآخر يسعى إلى كسر الوهم ، و إيقاظ التفكير النقدى و تنوير الوعى ” [15] فقد فكك (جاهين) الأسطورة ناقدها و انتقد سلبياتها ، ناسجاً منها مدخلاً تنويراً تثقيفياً ، يبعث على الكد و التعب من أجل الوصول للهدف .
(صحصح) يلبى استدعاء جمهوره ( شبيكوا لبيكوا … صحصحكوا بين إيديكوا ) فواو الجماعة كانت بديلاً حداثياً لكاف الخطاب ، و الواو تعنى التعاون و التفاعل ، على اعتبار أن الفرد جزء من المجتمع الذى ينتمى إليه .
و فى (صحصحكوا) بديل حداثى عن (عبدك) ، فحين دعت (عبدك) للانقياد و التبعية ، دعت (صحصحكوا) للتنوير و التفكير و اعمال العقل ، فكلمة (صحصح) تتكون من شقين تكررت بهما الحروف ذاتها (صح ، صح) ، و كلمة (صح) تعنى الفعل الصواب ، و بتكرارها تعنى تأكيد الصواب ، و عندما ضم إليها كاف الخطاب و واو الجماعة ، اكسبها الفاعلية و التفاعل ، فصحصح لا يوقظ ذاته و حسب ، و إنما جاء لإيقاظ المتلقين باعتبارهم رمزاً للمجتمع ككل .
أما (إيديكوا) فهى بديل حداثى لـ (بين إيديك) ، ليس على مستوى اللفظ ، بل على مستوى المضمون ، فإذا كان الجنى هو المنوط بتحقيق أحلام محرره ، فـ (صحصح) بيديه سيحقق ما يطمح إليه ، خلال رحلته فى البحث عن المعرفة ، باعثاً رسالته إلى متلقيه ، إنه لم يأت لتحقيق أحلامهم ، بل لإيقاظ وعيهم و مدركاتهم ، و منحهم السبل لاستثمار أوقاتهم ، لتحقيق الهدف من رسالة النص الأساسية ، تنظيم الوقت من أجل النمو الارتقاء .
كما دمج (جاهين) مع اسم (صحصح) على دائرة الاختراق من اللاوجود لتحقيق الوجود ، عبارة (لما ينجح) ، و هى تعبر عن أسلوب شرط ، مكوناته أداة الشرط (لما) و فعل الشرط (ينجح) ، و بحدوثهما يتحقق الهدف المنشود ، و هى رسالة وعى من (جاهين) لمتلقيه ، حيث لن يحصل أحد منا على هدفه و مبتغاه ،
إلا إذا نجح فى تفعيل متطلبات ذلك الهدف ، حيث تنظيم الوقت ، الكد ، العمل ، العلم ، المعرفة ، الأخلاق ….. التى تعمل فى النهاية على تكوين المعارف و بنائها ، و من ثم على نمو معرفى يرتقى بارتقاء المرحلة العمرية ، التى يمر بها الفرد . و لكن من لم يعرف قصة الجنى و القمقم عبر القراءة ، أو المشاهدة من أطفالنا ، قبل مشاهدة أو قراءة المسرحية المعارضة لها ، فكيف يتأتى له أن يميز قصة الجنى و القمقم ، فيتعرف على وجهة نظر (جاهين) و رأيه فيها و تفسيره المعارض المفكك لها ، إلا أنه لا يمكن أن نغفل فعل التنوير لجمهور المتلقين على اختلافهم ، فمن عرف الأسطورة الأصلية أدرك المعارضة ، و من لم يعرفها استمتع بالفرجة ، فضلاً عن أن كلاهما سيستوعب الرسالة المستهدفة من النص لكن تبقى الفرجة أنه لا أكثر إمتاعاً إذا توافرت لدى المتلقى ثقافة تراثية تتصل بموضوع المسرحية
ثانياً : البناء الدرامى و دوره فى تكوين البناء المعرفى فى (صحصح لما ينجح)
انتهج (جاهين) فى بنائه المسرحى للنص أسلوباً معاصراً ، لم يعتمد فيه على بنائه منطقى فحسب ، و إنما اعتمد على عدد من الأساليب مثل التكرار و الحلم و البنية الدائرية ، و اجتذاب المتفرج و مشاركته الكاملة فى العمل المسرحى ، كما أعطى العناصر المادية الملموسة المتمثلة فى الجمادات ، التى يشاهدها المتفرج تتجسد و تتحول حيث لعبت العناصر البصرية و السمعية ، دوراً مهماً على المستوى الدلالى ،
و من ثم كانت أولوية العرض على الأدب و الإنشاء فى مسرحه ، و هذا الإطار غير الواقعى للأحداث ، يعمل على إثارة دهشة المتلقى ، فالنص لا يطرح أى أسس واقعية ، لكنه يسعى للممكن عبر اللاممكن ، فالشخصية تعتمد على الأداء الكاريكاتيرى و النقلات الفجائية ، حيث كتبها (جاهين) لمسرح العرائس ، ذلك المسرح التى يتمتع بقدرات واسعة ، تمنح الشخصية أبعاداً مختلفة ، تخرج عن قدرات المسرح البشرى ، حيث الطاقة الكامنة داخل الدمية
و من ثم يتناول البحث المكونات الفنية التى بنى عليها (جاهين) نصه المسرحى ، التى ساهمت فى عملية البناء المعرفى و من ثم النمو المعرفى لدى (صحصح) و متلقيه .
- دائرية الحدث :
لم يجنح (جاهين) لدائرية الحدث المعتادة فى المسرح المعاصر عامة و مسرح العبث خاصة ، و إنما انتهجها بفكر آخر اعتمد فيه على تفكيك التراث خلال متغير حداثى .
فقد جاءت دائرية الحدث خلال شقين : الشق الواقعى و الشق الخيالى ، رابطاً بينهما بفكر الطفل، الذى تتزاوج فيه المعانى الواقعية و الخيالية خلال أجواءه الافتراضية ، التى اجتذبه منها (جاهين)، ليجعله يستكشف الواقع ، خلال منحه كماً من المعارف ، تعينه على تكوين استجابات حقيقية ، كردود أفعال لمثيرات محتملة أو غير محتملة .
ففى حين ظهر (صحصح) فى بداية أحداث المسرحية (يدخل صحصح مندفعاً ، يلبس على نصفه الأعلى جردلاً مقلوباً و الماء يتساقط من كل جسمه و ملابسه ، و صحصح يتكلم من داخل الجردل فى حالة من الاستياء من قبل الأب و الأم جراء أفعاله (
صحصح : (بهمهمة من داخل الجردل ، ثم يخرج من الجردل)
معلش غصب عنى أصل كنت مستعجل . عايز أجلكم أوام ، و الدنيا
كانت ضلمة . نزلت فيه بدماغى .
الأم: أنت غرقان ميه تعالى أما أنشفك . كل حاجة معلش .
الأب: إيه ده ولد ؟
صحصح: معلش يا بابا معلش يا ماما (يذهب إلى النوم)[16]
يظهر قرب نهاية أحداث المسرحية فى حلم اليقظة حيث يتكرر الموقف ذاته ، فى بنية دائرية خيالية مكملة للبنية الواقعية . (صحصح يدخل و هو يلبس الجردل على نصفه الأعلى ، و الماء يسيل من كل جسمه و ملابسه ، و يهمهم من داخل الجردل ، فيصطدم بالساعة)
الساعة: إيه ده يا ولد ؟
صحصح: معلش غصب عنى أصل الدنيا كانت ضلمة ، دست على رباط الجزمة
نزلت فى الجردل بدماغى .
الساعة: كل حاجة معلش معلش . تعالى لما أنشفك (تحمله على سريره لينام)[17]
تمثلت دائرية الحدث فى عدد من مكونات الحدث نفسه حيث :
- فعل الوقوع فى الجردل و سقوط الماء عليه .
- فعل الهمهمة بكلام غير مفهوم من داخل الجردل .
- غضب الأب و الأم و الساعة من الحدث .
- اعتذار صحصح فى الحدثين (معلش) .
- تماثل المبررات فى الموقفين (الضلمة) .
- رد فعل الأم و الساعة فى تنشيف الماء خوفاً على صحصح .
- رد فعل الأب و الأم و الساعة على سلوكه ( كل حاجة معلش – ايه ده يا ولد ) .
- الذهاب للنوم فى الحالتين .
و اختلف الحدثين حيث :
ارتقى الحدث الذى تم فى الحلم عن الحدث الواقعى ، حيث أضاف (جاهين) مبررات لسقوط (صحصح) فى الجردل ، حيث (رباط الجزمة) ، و دلالة ذلك أن عملية السقوط فى الجردل ، هى وقوع الطفل فى الخطأ بارتكابه سلوكيات مرفوضة ، فى عالم الواقع قبل أن يرتقى (صحصح) معرفياً ، كان مبررها ضعيف يتناسب مع الكم المعرفى البسيط فى بداية الأحداث ، و مع التطور الزمنى للنص / البناء المعرفى لـ (صحصح) ، ظهر (رباط الجزمة) كمؤرق مادى ملموس ، يسلبه أداة التفكير ، فكان سبباً من أسباب سقوطه .
و لم تكن دائرية الحدث هى التى أنتهت بها المسرحية ، بل كانت نهاية حلمه ، كى يعود بنا (جاهين) إلى أرض الواقع مذكرنا بالأزمة الأولى ، التى بدأ بها الأحداث ، و هى فوضوية السلوك و سقوط (صحصح) بالجردل ، فكأنما أراد أن يفصل بين عالم الحلم الخاص بـ (صحصح) و واقعه فى بيئته التى يعيش بها ، مقدماً لنا صحصحاً جديداً بعد أن ارتحل ، عبر أجواءه الافتراضية، التى أدرك بها فى النهاية أهمية الوقت .
- الحلم :
بالرغم من أن الحلم تجربة فردية يحظى بتفاصيلها الشخص النائم فى منامة ، إلا أن (جاهين) إبتدع من الحلم عالماً مادياً ، يتشارك فيه صاحب الحلم مع متلقيه ، محولاً إياه إلى أسطورة جماعية حداثية ، يحملها عدداً من المعانى التنويرية و التثقيفية ، خلال عدد من الرموز المجسدة فى صور بصرية مادية ملموسة .
و الطفل فى عمر (صحصح) ” يكون تفكيره لا منطقى ، و غير عقلانى ، و معظم رموزه ليست بحاجة إلى التفسير و التأويل ، إذ لا يستطيع أن يخلق رمزية منظمة ، لكنها مع ذلك تعتبر اجتماعية من نوع بدائى ” [18]
” و تتجسد ثقافة المجتمع فى الأشكال الرمزية ، التى عن طريقها يستطيع البشر الاتصال ، و إدامة و تقويم معرفتهم و مواقفهم إزاء الحياة ،فالرموز هى نماذج واقعية ، ما دامت تضفى على الحقائق الاجتماعية و النفسية ، ما يرتبط من معان و أشكال فكرية موضوعية ، حيث أنها تتشكل مع هذه الحقائق بصورة متبادلة ” [19]و الطفل يعمل على تحويل بيئته الطبيعية المباشرة إلى رموز، لكى يستطيع التواصل بها مع من حوله .
و استناداً إلى الصور الأربع المفضلة لدى الطفل (صورة اللعب ، صورة التخيل و أحلام اليقظة، صورة السؤال و الحكاية ، صورة الهواية) فضلاً عن الصورة الواقعية ، فإن هذه الصور تعد مدخلاً يمكن أن تحقق استجابة أوسع مدى و تأثراً أرسخ ، نظراً لكونها تشكل مدخلات للإيهام داخل العمل المسرحى ، مما يفتح مجالاً واسعاً ، يوفر قناعة لدى الطفل المتلقى، بأن ما يحدث أمامه هو جزء من عالمه الخيالى ، لا سيما إن حرص المؤلف على استعارة أحداثه و شخوصه من التراث ،
و عالم الحيوان و شخصيات من محض الخيال ، و المزج بين هذه و شخصيات واقعية [20]” كما يحدث فى عالم الحلم فعملية المزاوجة التى أحدثها (جاهين) فى نصه بين الواقع / بيئة صحصح و الخيال / الحلم ، عملت حالة من التوازن لدى الطفل بين الخيال و الواقع ، خلال تدرج الحلم فى البناء المسرحى ، مما أسهم فى بناء الطفل معرفياً .
- الإرشاد المسرحى :
و فيما يختص بالإرشاد المسرحى فقد اتجه (جاهين) إلى أفكار المسرح المعاصر ” خلال ما يعبرون به عن حدود هذا الفن ، و عن حدود الوسائل ، التى يمتلكها هى بداية التعبير عن الإيماءة و الحركة و التشكيل و الكلمة ” [21] خاصة و أنه كتب مسرحيته فى الستينيات وهى بداية ظهور الاتجاهات المعاصرة فى المسرح المصرى فقد تأثر فى إعطائه الإرشادات المسرحية الأولوية بكتاب مسرح العبث ، و بريخت و مسرحه الملحمى اللذين أولوا الإرشادات المسرحية أهمية بالغة ،
و من هنا جاءت أهمية الإرشاد المسرحى فى هذا النص ، فخلاله يقوم الكاتب بتوجيه المخرج ، لعناصر تتعلق بالعرض المسرحى ، و بعكس معظم مسرحيات الطفل الآخرى ، التى يهمل فيها المخرج الإرشاد المسرحى ، و يعمل دون النظر إليه إلا فى جوانب لا تذكر ، تحتل الإرشادات المسرحية فى هذا النص ، مكانة مهمة ، لا يمكن لأى مخرج أن يتجنب جزء منها ، حيث يعتمد تطور الحدث على الإرشاد المسرحى . و على سبيل المثال لا الحصر :
1.فى بداية المسرحية نجد المؤلف يحدد فى ثنايا نصه ( وجود دائرة من الورق تتوسط المسرح مكتوب عليها اسم المسرحية (صحصح) بخط كبير و (لما ينجح) بخط صغير ) فهذه العبارة الحداثية ، هى التى بنى (جاهين) استلهامه من التراث عليها ، فالدائرة الورقية التى يخترقها (صحصح) عند استدعاء الجمهور له هى مفجر الأحداث .
- ( فى أثناء كلام (صحصح) بعد اختراقه الدائرة ، تظهر الأشياء التى يذكرها على التوالى ( سرير . مكتب . شباك . سفرة . كرسيان كبيران …………) و لا يستطيع المخرج إغفال هذا المرفق ، لأنه يعبر عن التناول الحداثى ، لفكرة تحقيق الأحلام ، خلال عمل الإنسان و اجتهاده، بديلاً عن جنى القمقم .
- ( الجمهور يردد كلمة يا صحصح ) و فى هذا المرفق يود المؤلف جعل المتفرج جزءً من الحدث المسرحى ، خلال تفاعله الإيجابى مع الحدث .
- (السرير يتأرجح على الموسيقى ) و هذا يعبر عن الإنتقال من عالم الواقع إلى عالم الخيال ، بصورة إيهامية ، حيث أرجحت السرير على أنغام الموسيقى ، استعداداً للدخول لعالم الطفل الافتراضى .
- (صحصح فى نوم عميق ، ثم تظهر له الساعة) هذا النوم هو بداية الحلم ، الذى يعد تقنية فنية، وظفها (جاهين) عرض خلالها كماً معرفياً ، حقق بها النمو المعرفى ، خلال رحلته بصحبة (الساعة) التى اتخذها رفيقاً خيالياً ، معلماً و موجهاً ” فالرفيق الخيالى الذى ينبع من خيال الطفل، يأخذ أشكالاً مختلفة ، لا يحدد ملامحه و صفاته ، سوى خيال الطفل ، فيها يجسد الطفل رفيقه الخيالى ، فيقوم بإبداع الشخوص و المواقف ، التى يجد فيها تعبيراً عن مشاعره ” [22].
- (صحصح يظهر فى استعجال ، ينظر إلى قدميه ينحنى لربط حذاءه ، ينهض دون ربطه ) تنوعت الإرشادات ، التى عبرت عن إهماله فى ربط الحذاء ، بسبب عدم تنظيمه لوقته ، و من ثم تعثره فى كافة مراحل تعلمه ….
و من ثم كانت أهمية الإرشادات المسرحية ، التى تأتى فى ثنايا النص عند (جاهين) ، لما لها من دور فاعل فى تطوير أحداث المسرحية ، التى لا يمكن لمخرج الإستغناء عنها ، بل نجدها تساعده فى عمله المسرحى .
ثالثاً : أنسنة الحيوان و الجماد و توظيفهما
يستدعى المؤلف أسلوب أنسنة الحيوان و الجماد ، ” التى استخدمها القدماء فى أدبهم القصصى (كليلة و دمنة) عن (ابن المقفع) ، فالأشياء لها حركتها الذاتية ، و لها لسانها المعبر عن إرادتها – باعتبارها رموز- [23] ” مبرزاً المغزى التعليمى الذى يشير إلى أن الجماد هو وحده ، الذى يستمد حركته من خارجه ، بأوامر خارجة عن إرادته ، و كذلك الحيوان و إن امتلك إرادة كرد فعل لمثير غريزى كالخوف و الجوع و …………. دون ذلك فهو بلا إرادة حرة .
” و الأطفال بعد السابعة ، يطرأ عليهم حب التخيل فيما وراء الظواهر الطبيعية الواقعية ، التى خبرها بنفسه ، فيتخيل شيئاً غير مألوف فى بيئته ، و لهذا يجنح إلى بيئة الخيال الحر ، الذى يبدو واضحاً فى عالم الخرافة و الشخصيات الخارقة ” [24]، ” و الخوارق قد تكون من البشر ، أو من العالم الغيبى أو من الجماد أو النبات أو الحيوان ، و تمتاز بقدرتها على القيام بأفعال تتجاوز قدرة البشر” [25]،
” لكن يجب معالجة تلك الخوارق ، لكى تصب أهدافها الأخيرة فى البناء العلمى للأطفال، و تنمية تفكيرهم العلمى و الإبداعى .”[26]
” و تعتبر الكنوز من المحاور الرئيسة فى الحكايات الشعبية ، حيث يعثر البطل على كنز فينتقل من حالة إلى أخرى ، و يصبح بين عشية و ضحاها من ذوى الثراء و النفوذ ، دون عناء أو تعب” [27] إلا أن (صحصح) قد حصل على كنزه المستقبلى المشروط بالنجاح ، الذى سيطر على مخيلته، فخلق رفيقاً خيالياً رافقه عالم الأحلام و اليقظة ، مدمجاً فى تقنية صنعها (جاهين)، لتوظيفها فى طرح كم من المعارف حول ذلك الرفيق (الساعة) .
و بما أن الطفل يحول كل شئ إلى لعبه ، حيث أنه ضعيف أمام اللعب ، فقد حولها (جاهين) إلى أهداف تعليمية تربوية غير مباشرة مع التركيز على العناصر المرئية .
و يؤكد (أحمد زكى) ” [28] على أهمية الدور الوظيفى للمنظر و العناصر المرئية فى مسرح الطفل، فهو يشكل التعويض عن فهمهم غير المؤكد للغة و عن الحاجات كالحب و الراحة ”
و قد أكد (أرسطو) ” [29] أن عنصر المرئيات المسرحية ، كغيره من الأجزاء الكيفية ، يمكن استخدامه، لتبرير الفعل الدرامى ، فهى تساعد فى زيادة تأثير الكلام ، بل يمكن أن تكون بديلاً عن الأقوال”
” و الطفل يتفاعل مع الأحداث المرئية فى المسرح أكثر من تفاعله مع الحوار “[30]
و فى مسرحية (جاهين) تظهر قدرة عناصر التشكيل فى الفراغ المسرحى – خلال مسرحة النص– على استلهام عناصر فولكلورية فى تصميم المسرحية ، مما يحقق الأثر الذى تشيعه الفرجة من متعة بصرية و سمعية ، حيث استحضار البيئة الشعبية الدارجة القريبة للقلب ، لأكبر فئة من الشعب آنذاك ، منبثقاً من أسطورية الحدث ، مانحها طابعاً حداثياً معاصراً ، و من ثم إعادة توظيف التراث فى رؤى مختلفة ، حيث تم أنسنة الحيوان و الجماد .
لكن بطريقة مغايرة لما كانت عليه ، بطريقة أقرب لعالم الطفل و لعبه ، ففى حين كان توظيفها مباشراً حيث إكساب كل شئ صفته الحقيقية ، و إنطاقه بلسان البشر و تصرفاتهم ، كسر (جاهين) تلك القاعدة، و جعل الأنسنة ينتج عنها فرجة مغايرة تتفاوت فى الأثر الدرامى و الجمالى ، لتوصيل أهداف غير مباشرة بهدف التكوين المعرفى .
” فالطفل يضفى الحيوية على المواد ، بعد أن يعمل على تجريدها من صفاتها و دلالاتها الأصلية، فالصورة التى يحاكيها الطفل لها الأسبقية على رموز المحاكاة ، و بمقدوره أن يتقبل تحويلات الأشياء و تبدلاتها ، و نسخ دلالاتها ، و ذلك يرجع إلى قدراته التخيلية الواسعة ، و عدم رسوخ شفرات الثقافة ، و ثباتها لديه ، إنه ما يزال فى طور ما قبل ثبات المفاهيم ، الذى لا يتم إلا بعد سن الحادية
عشر ” [31] ، ” فلا يمكن تقبل مثل هذه الأشياء غير الممكنة ، إلا بمساعدة الخيال ، فهى تفرض نفسها على المتلقى ، فتدفعه عند دخوله عالم الحكاية إلى أن يبدأ اللعبة بالممكن و غير الممكن ” [32].
” كما أن الخيال يساعد على تفريغ الشحنات الانفعالية ، و إيجاد السبل لفك الاشتباك و التعقيدات الشعورية و الفكرية لدى الإنسان ، و إن المتحكم بمدى فاعلية الخيال ، و أداءه الأفضل هو درجة الاشباع الصورى المحفوظة فى المخيلة ، و المخزونة ضمن دائرة العقل ذاته ” [33]
و قد استغل (جاهين) المخزون الصورى لدى كل طفل فى مرحلة (صحصح) العمرية ، و كان مصدرها مفردات البيئة المحيطة ، صانعاً منها عالماً افتراضياً ، تتماثل فيه الصور المتخيلة مع الصور المختزنة لدى الطفل ، مع إكسابها وظائف مغايرة لوظيفتها المدركة ، مما أحدث الدهشة، وعمق الرسالة المستهدفة . ” فالصيغ الرمزية يعيشها الطفل وجدانياً فى محيطه و تنبثق منها أخيلته و حاجاته ، و لها حضور فى جميع أنشطته و فعالياته ، و لها دور فى بناء علاقاته و تنمية سلوكه، و مشاركته الاجتماعية ، كعضو فاعل بصورة إيجابية فى حركة المجتمع ” [34]
فقد لجأ (جاهين) إلى النص المسرحى البصرى ، و هناك فرق بين النص المسرحى الأدبى ، الذى يعتمد على الإنشاء و الأدب و البلاغة ، و البصرى الذى يرتكز على ركيزتين ” الأولى فى اللغة الأدبية البصرية (البعد البصرى و المادى للكلمة و دلالاتها التأويلية) ، و الثانية هى لغة التداعى البصرى للأنساق البصرية فى الفضاء الإبداعى ، و هما اللذان يعيدان خلق اللغة الفنية بصرياً سواء فى النص أو فى العرض ” [35]
[1] ) انظر جان بياجية ” علم نفس الولد ” سبق ذكره ص 138
[2] ) انظر فى : بيرد . م . روث . نفسه ص 57 : 106
[3] ) سلامة عبد الحافظ ” الاتصال والتغير الثقافى ” ( عمان – دار الباز مدى للنشر 2002 ) ، ص 16 .
[4] ) صلاح جاهين ” صحيح لما ينجح ” سبق ذكره ص 57
[5] ) هادى نعمان الهيتى ” ثقافة الطفل ” سبق ذكره 81 – 82
[6] ) صلاح جاهين – نفسه ص 25
[7] ) نفسه ص 64 – 65
[8] ) نفسه ص 55
[9] ) انظر فى بياجيه ” علم نفس الولد ” سبق ذكره ص 92
[10] ) سحر عبد العزيز سالم (د) المسرح العربى المعاصر ودورة فى ربط الماضى بالحاضر ” المؤتمر الدولى الأول ( قسم المسرح – كلية الآداب – جامعة الإسكندرية 31 مارس 1996 ) ص 71
[11] ) انظر فى : بوتولد بريخت ” نظرية المسرح الملحمى ” سبق ذكره
[12] ) صلاح جاهين . نفسه ص 20
[13] ) باتريس بافيس ” قاموس المسرحة ” مجلة المسرح ع 57 ( القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب أغسطس 1993 ، 74
[14] ) عبد الحميد يونس (د) ” معجم الفولكلور ” ( القاهرة – مكتبة لبنان 1983 ) ص 46
[15] ) محمد عبد المعطى ” مسرح الطفل بين الجمالية والتربية ” مجلة المسرح ع 21 – 22 ( القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – أغسطس – سبتمبر 1990 ، ص
[16] ) صلاح جاهين – نفسه ص 22
[17] ) نفسه ص 70
[18] ) بيرد : م . روث ” جان بياجيه وسيكولوجية نمو الأطفال ” سبق ذكره ص 25
[19] ) أينو دوزى ” جدلية علم الاجتماع بين الرموز والإشارة ” ت : قيس النورى ( بغداد . دار لشئون الثقافية العامة 1988 ) ص 78
[20] ) انظر فى : حبيب ظاهر حبيب (د) ” التشفير الصورى فى مسرح الطفل ” مخطوط رسالة دكتوراه ( جامعة بغداد – كلية الفنون الجميلة 2004 ) ص 112
[21] ) حمادة إبراهيم ” التقنية فى المسرح ” ( القاهرة – الأنجلو المصرية د / ت ) ص 33
[22] ) بيتر سليد ” دراما الطفل ” سبق ذكره ص 171 .
[23] ) انظر فى : عبد الله بن المقفع ” كليلة ودمنة ” ( القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001 )
[24] ) أبو الحسن سلام (د) ” الرفيق الخيالى ومسرح الطفل فى عصر العولمة ” ندوة مسرح الطفل ( الفيوم – مديرية الثقافة 2009 )
[25] ) انظر فى : محمد عبد المعطى ” مسرح الطفل بين الجمالية والتربوية ” سبق ذكره ص 17 – 18
[26] ) كمال الدين حسين (د) ” دراسات فى الأدب الشعبى ” ( القاهرة – كلية رياض الأطفال د / ت ) ص 69 ، وانظر فى : أحمد نجيب ” عوام فى بحر التراث ” ( القاهرة – المركز القومى لثقافة الطفل 1998 ) ص 59
[27] ) عبد الحميد يونس ” معجم الفوكلور ” سبق ذكره ص 46
[28] ) أحمد زكى ” اتجاهات المسرح المعاصر ” ( القاهرة . الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996 ) ص 28
[29] ) أرسطو ” فن الشعر ت : حمادة إبراهيم ( القاهرة . الأنجلو المصرية 1983 ) ص 206
[30] ) أبو الحسن سلام ( د ) ” مسرح الطفل ” سبق ذكره ص 92
[31] ) شاكر عبد الحميد ” التفضيل الجمالى ” ( الكويت . المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب 1983 ) ص 69 ، وانظر فى : محمد على الكردى ” نظرية الخيال ” مجلة عالم الفكر مج 11 ع 2 1980 ص 218
[32] ) ستيث طومسون ” الحكاية الشعبية ” ت : أحمد أدم محمد مجلة الفنون الشعبية ع 21 ( القاهرة – أكتوبر – نوفمبر – ديسمبر 1987 ) ص 74
[33] ) ماريان بيسر ” التنشئة العلمية ” ت . محمد سليمان ( القاهرة – الدار المصرية للتأليف 1966 ) ص 106
[34] ) أسعد ميخائيل ” سيكولوجية الإبداع فى الأدب والفن ( القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986 ، ص 148
[35] ) أحمد الماجد ” ثقافة الصورة وأثرها على الخطاب المسرحى ” جريدة الفنون – السنة الثانية ع 85 ( الكويت . المجلس الوطنى للثقافة والفنون والأداب 2009 ) ص 42