العرض المسرحي السوري ” تكرار “.. إسقاطات انثروبولوجية على الراهن!
اختتم عروضه على خشبة مسرح سعد الله ونوس ..في المعهد العالي للفنون بدمشق
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
سامر خالد منصور
في دول الغرب هناك مقاربات تخص الاتجاهات العلمية والنظريات والاتجاهات الاجتماعية والفلسفية للكثير من الأعمال الفنية.
وهذا مانفتقر إليه ربما ليس لعيب ٍ في مَن يسلط الضوء على العمل الفني بل لعيبٍ في العمل الفني العربي ذاته فهو اتباعي فيما يخص الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية أكثر منه رائداً في مواكبتها.
ولاينتقص من العمل الفني كونه يستند إلى موروث عالمي إن تم اسقاطه على الواقع الراهن كما هو حال العرض المسرحي بعنوان ( تكرار ) والذي اختتمت عروضه في المعهد العالي للفنون على خشبة مسرح سعد الله ونوس في دمشق ، كمشروع تخرج طلاب السنة الرابعة. وكان مدخل العرض مونولوج ألقته الممثلة فرح دبيات عن تشابه البشر وعدميتهم في كلّ الأزمنة:
(فلا جديد تحت الشمس)، والبشر هم البشر.
إذ ثمة (جرائم نرتكبها ولا يعاقب عليها القانون) جرائم تفتك بالروح والمعنى، وهي أشد انتهاكاً لإنسانيتنا من جنايات معروفة كالقتل والسرقة والاغتصاب.
قسمان:
انقسم العرض إلى ثلاثة أقسام حكمتها تبعيتها الزمنية فقد بدأ في القرن السابع عشر في عصر الباروك زمن النبلاء المزيفين.. ثم زمن طبقة الباشاوات ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سورية ، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد.
وكان للقسم الثاني أثر رجعي في قراءة ماسبقهُ وهذا يحتسب إيجاباً للعرض. وأظهر البعد النفسي لتلك الشخصيات والفئات المهووسة بالتباهي والاستعراض والادعاء والتي ينصب اهتمامها على زخرف الحياة و (اكسسواراتها) ، وبيَّنَ أن لافرق بينهم (فهم هم) في كل الأزمنة كائنات متلافة استهلاكية سطحية تُقدر الشيء أكثر من المعنى وتتمتع بحصانة الذات الإنسانية وحقوقها مع كل أسف..
وهي أشبه بدمى بلهاء مبتذلة في كل شيء. وأشار العرض إلى ابداع تلك الطبقات في استغلال قضايا البسطاء والفقراء بغية تحقيق الشهرة عبر فنون مزعومة دخيلة على مجتمعنا ، وكيف أن الأمر بدأ لدى النساء ثم انتقل مع مضي الزمن ليشمل الرجال أيضاً فجسَّد العرض نقداً اجتماعياً بليغاً. وكرَّسَ لفكرة أن الإنسان عندما يصبح عاشقاً للمظاهر تستيقظ غرائزهُ ويغدو تزيينه لجسده وترفيهه لحواسه سدّاً يحول بينه وبين الجمال الحقيقي وكل ما هو طبيعي وعفوي.
فجاء العرض ك(ملهاة معاصرة) تؤكد فيه سلوكيات شخصيات الإناث ما قاله الروائي ألفونس كار (تنظر المرأة إلى الرجل الذي تحبه نظرها إلى حليتها التي تلبسها وتعتز بها وتَدلُّ بمكانها على أترابها ونظائرها.. وترى في إعجاب المعجبين به وافتتان المفتتنات بحسنه وجماله إعترافاً منهم بحسن حظها ، وسطوع نجمها ، واكتمال أسباب سعادتها وهنائها ، وهذا كل ما يعنيها من شؤون حياتها)
كما حمل العرض أفكاراً عديدة مثل (وراء كل وصولي عاهرة) لكن أهم طرح للعرض هي مسألة (الزمان والذات الإنسانية) الزمان غير موجود.. وهو يوجد عندما يوجد عاقل يقوم بعملية حساب للحركة في نطاقات المكان.. وعندما تكون الحركة بهدف التجاوز والتقدم على ما تراكم معرفياً فإن مفهوم الزمان حقيقي ، ذلك لأنه مرتبط بالاصطفاء الطبيعي والذي يكون بالنسبة للذات الإنسانية بالتفوق على نفسها بهدف النجاة من الصراع ضمن الجنس البشري ذاته فهذا الصراع يشكل أكبر تهديد للبشرية ولمعظم أشكال الحياة المحيطة بها لا بل وللكوكب برمته.
فالاصطفاء الطبيعي في عالم البشر يقوم على تفعيل أداة تميز الإنسان عن غيره من الكائنات ألا وهي العقل. فمشكلة العقل وجماليته في آنٍ معاً هي الخيال . فالعقل إن لم ينشد العلم والمنطق يَنشدُهُ الجهل..
كلنا رأى كيف زالت الخرافات وانحسرت الأساطير بتطور فهم العقل البشري لمحيطه والعلاقات الطبيعية التي تحكم هذا المحيط. بينما يفقد الزمان معناه حين نعطل الاصطفاء الطبيعي ونحول الزمان إلى محض نمو وتبدل في (ديكور) الحياة.. أي نقل الانتخاب إلى حيز أشكال و تَمظهر اكسسوارات الحياة التي نستخدمها.
ورغم أننا لانستطيع أن ننكر أهمية التكنولوجيا ومنتجات المئة عام الماضية.. إلا أننا لا نستطيع أن ننكر أيضاً أن الإنسان عاش قرابة المليون عام دون كل هذه المنتجات التي تداهم أبصارنا كيفما اتجهت. وعند حصر مفهوم التطور بالشيء الذي يمتلكه الإنسان دون الإنسان نفسه فهذا باعتقادي شكلٌ من أشكال الاغتيال لأحد أبعاد وجوده ( الزمن ) وهو البُعد المنوط بالصيرورة والتطور ، وإخراجٌ له عن المسار الطبيعي الذي يضمن استمرار الأجناس وانتشارها.
لكن العرض وبرغم كونه مشروع تخرج لم يتضمن صراعاً داخلياً (ضمن العوالم النفسية للشخصية الواحدة) ولعل ذلك حرم الطلاب من فرصة ابداء مهاراتهم في هذا المنحى الذي يعتبر مركز اهتمام في الفن الحديث لكن لعل خصوصية العمل كونه يتحدث عن فئة ليس لديها عوالم عميقة داخلية لتتصل بها فهي كائنات سطيحة بالكامل وكونها تعيش لأجل ما هو خارجها من أشياء ثمينة ومزخرفة. ولعله عارض ما قاله كوستاس اكسيلوس ( إن مانسميه مستقبلاً لايزال مستمراً وإنه أكثر سعة من التاريخ).
الديكور والسينوغرافيا:
ولن أتحدث عن الفنيات المتقنة في العرض وسأكتفي بالحديث عن الديكور والسينوغرافيا اللذان كانا إبداعاً متكاملاً نجح في استحضار الأجواء القديمة والمعاصرة المراد احياؤها على الخشبة وقد تضمن الديكور قسمان ديكور ثابت متقن وفي الزاوية اليسرى ديكور متحرك ساهم في إحياء فضاء الخشبة بالإضافة إلى استثمار الظلال والظلام والإنارة الخافتة لإعطاء انطباع بامتداد القصر و البيت الدمشقي إلى مساحة تتعدى تلك التي نراها..
كما تضمن الديكور دقة في التفاصيل إلى درجة تجسيد الرطوبة على جدران البيت الدمشقي عبر الإضاءة بطريقة متقنة. وليس من السهل جعل الجمهور يشاهد شخصياتٍ لأناس سطحيين مبتذلين مُكررين لما يزيد عن الساعة من الزمن لولا أن الأداء الفني والتمثيلي في العرض جاء بسوية عالية جداً.
فقد تألق كلٌّ من الممثلين: سهير صالح ، لمى بدور ، مروى الأطرش وبلال مارتيني الذي صحح خطأ في الديكور أربك الحركة وكاد يتسبب بتعثر الممثلين.. صححه بشكل انسيابي وذكي دون أن يضيف أو ينقص من الحركة المرسومة له على الخشبة.
بطاقة العمل:
إشراف: بسام كوسا
مخرج مساعد: علي سطوف
مساعد مخرج: منصور نصر
دراما تورج: شادي كيوان
أزياء: مارال دير أركيليان
موسيقى: رعد خلف
تمثيل : أديب رزوق ، بلال مارتيني ، سهير صالح ، سيرينا المحمد ، لمى بدور ، مجدي المقبل ، مروى الأطرش ، مروان خلوف ، ومعن حمزة.