العرض المسرحي قمر الغجر.. يستعرض المذابح الوحشية والانتهاكات اللاإنسانية في قطاع غزة!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
نور الهدى عبدالمنعم
كاتبة وناقدة | مصر
لا أنكر أنني كنت قلقة جدًا حين بدأ د. عمرو دوارة البروفات بعد توقفه عشرة سنوات كاملة عن الإخراج المسرحي والتفرغ للتأريخ والنقد كذلك الانتهاء من موسوعة المسرح المصري.
وهي إنجازات ضخمة، فخشيت أن يكون هذا العرض أقل نجاحًا من عروضه السابقة التي شاهدت منها: “ملك الأمراء”، “السلطان يلهو”، “الخداع البصري”، “عصفور خايف يطير”، “يوم من هذا الزمان” وكلها عروض قوية حققت نجاحًا كبيرًا خاصةً “يوم من هذا الزمان”، لكنه أبهرني بهذا الأوبريت الضخم في كل تفاصيله وعناصره، من حيث العدد الكبير للفنانين المشاركين به وتنوع الفنون التي يحتويها غناء، أشعار، موسيقى، استعراضات ومادة فيلمية.
عرض “قمر الغجر” فكرة محمود مكي، كتابة وإخراج د. عمرو دوارة الذي يقدم حاليًا على مسرح البالون التابع للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية بقيادة الفنان أحمد الشافعي، ولابد هنا من وقفة مهمة لتوضيح مفهوم (كتابة د. عمرو دواره) فقد قرأت نص “قمر الغجر” المنشور بسلسلة نصوص مسرحية (العدد 127 عام 2013) تأليف محمود مكي، ثم شاهدت العرض الذي قدمه د. عمرو دوارة ككاتب ومخرج فكان من السهل علي أن أرصد على الفور الاختلافات الكبيرة والجذرية بين النسختين، حيث يجمع بينهما الإطار الخارجي وبعض الشخصيات الرئيسة فقط، في حين اختلفت تماما المعالجة الدرامية بكل منهما، كما تم حذف وإضافة بعض الشخصيات الدرامية الرئيسة، وكذلك تم حذف بعض الأحداث الدرامية وإضافة أخرى مما استدعى إعادة كتابة الحوار بما يتناسب مع كل شخصية،
وبالتالي يمكن وصف هذا النص الجديد بأنه إعادة كتابة، أو كتابة فوق الكتابة ((Re-writing، وهو ما يمكن إدراجه تحت مسمى “التأليف”، وذلك قد سبق تحقيقه كثيرًا بكل من المسرح العالمي أو العربي والأمثلة كثيرة منها: حينما اعتمد راسين في كتابة عدد كبير من نصوصه على الإغريقيات، وكذلك حينما أعاد الكاتب الفرنسي يوجين يونسكو كتابة المسرحية الشهيرة “ماكبث” لوليم شكسبير بالعنوان نفسه “ماكبت”.
كذلك تنيسي ويليامز حين كتب مسرحية سقوط أورفيوس المأخوذة عن أسطورة أورفيوس الشهيرة، كذلك “بيجماليون” لبرنالد شو، و”بجماليون” لتوفيق الحكيم، وحين قام الكاتب الكبير محمد أبو العلا السلاموني بتأليف نص “الساحرات” عن نص “ساحرات سالم” للكاتب الأمريكي الكبير آرثر ميلر، وكذلك مؤخرًا حينما كتب د. سامح مهران مسرحية “هاملت بالمقلوب” عن النص الشهير “هاملت” للكاتب العالمي وليم شكسبير.
تدور أحداث المسرحية في إحدى القرى السياحية في ثلاث خطوط درامية متوازية ومتقاطعة في ذات الوقت حيث فئة الصيادين، فئة الغجر، طلب كلية الفنون الذين حضروا مع أستاذهم لإنجاز مشاريع التخرج من رسم ونحت، وخلال الأحداث يقع أحد الطلاب الفنان التشكيلي أمير السنهوري ابن الوزير الذي يجسد شخصيته علاء حسني، في حب “قمر الغجرية” ويقع زميله فادي في حب الغجرية نوارة صديقة قمر، وهي قصص الحب التي واجهت كثير من الصعاب نظرًا لاختلاف المستوى الاجتماعي، كذلك رفض الغجر– طبقا لعادتهم زواج بناتهم من أغراب،
فهم يعيشون في عزلة ومجتمع مغلق ويتمسكون جدًا بعاداتهم وتقاليدهم المتوارثة، ولكن الخطاب الدرامي بالعرض ينتصر للحب الذي ينجح في إلغاء جميع القيود وتكسير جميع الحواجز، بفضل ثقافة د. رؤوف عبد المجيد، ومؤازرة وتشجيع جماعة الصيادين، حيث يرفض العرض تلك التقاليد والعادات القديمة المتوارثة ويدعو إلى نبذ الطائفية ومواجهة جميع مظاهر التعصب والتزمت،
ويدعو لتعايش الجميع في أمان وسلام مع إعلاء القيم النبيلة والمساواة، وتجدر الإشارة إلى أنه برغم أن جميع الأحداث الدرامية تجرى بمصر، فالعرض يؤكد أيضا على عمق البعد العربي لمصر وعلاقتها الوطيدة مع كافة الأشقاء العرب، وذلك من خلال شخصية الأديبة اللبنانية والأستاذة الأكاديمية د. وطفاء حمادي التي تجسد شخصيتها آمال رمزي، حيث جاءت إلى مصر للاستجمام وإنهاء بعض الأمور، فأقامت بنفس القرية السياحية حيث نشأت بينها وبين “قمر الغجرية علاقة صداقة، وبينها وبين طلبة كلية الفنون الجميلة والمشرف على رحلتهم ومشروعات التخرج لهم د. رؤوف عبد المجيد الذي يجسد شخصيته سيف عبد الرحمن، فتتلاقى وتتوحد توجهاتهم تجاه الصراع العربي الصهيوني ومواقفهم برفض التطبيع وتضامنهم مع ثوار غزة وشجبهم لصمت العالم أمام المذابح والمآسي والانتهاكات اللاإنسانية التي يقوم بها العدو،
وهنا لابد من الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن قمر الغجر هي أول مسرحية بمصر والوطن العربي تتناول وتستعرض الأحداث والمذابح الوحشية والانتهاكات اللاإنسانية التي تحدث بقطاع غزة، حيث تفضح بالبيانات والصور مدى قسوة وبشاعة ما يتعرض له حاليا الشعب الفلسطيني بالأراضي المحتلة من حرب إبادة وتطهير عرقي علي يد العصابات الصهيونية بمساندة أمريكا وبعض الدول الغربية،
وهي بذلك تستكمل دور المسرح العربي في شحذ الهمم ورفع الروح المعنوية ومؤازرة المناضلين كما حدث مسبقا بمسرحيات “النار والزيتون، “وطني عكا”، و”العمر لحظة”، و”رأس العش” و”أغنية على الممر”، و”مدد مدد شدي حيلك يا بلد”، وجميعها مسرحيات كشفت مدى صلابة المناضل الفلسطيني وإصراره على استعادة أرضه.
يحسب للعرض تكامل عناصره الفنية وتضافرها حيث جمعت بين الفكر والمتعة السمعية والبصرية حيث تحقيق المتعة البصرية بالديكورات المعبرة حيث المقهى، والفندق، حي الغجر للفنان د. محمد سعد، والملابس التي صممتها د. مروة عودة، فقد ساهمت بشكل أساسي في تصنيف كل فئة بجانب، قدرتها على الإبهار من خلال التشكيلات في التصميم والألوان وتناسقها مع الديكور، والإضاءة الموحية للفنان أبو بكر الشريف، والمكياج للفنانة روبي، وأيضا بلقطات الشاشة الخلفية التي أبدع في إخراجها الفنان ضياء الدين داود،
حيث نجحت في تشكيل ملامح كل منطقة عن الخرى على الرغم من أن البحر واحد، لكن مكان الصيد بكل تفاصيله يختلف عن شاطئ الفندق، كذلك منطقة الصخور والبحر ليلاً، ثم إضفاء الملامح المميزة لحي الغجر، أحداث غزة الأخيرة -والتي كانت تحدث أثناء بروفات العرض- وأخيرًا عرض كليب مصر الذي شارك في جميع الفنانين.
ثم توجت تلك المتعة البصرية بمجموعة الاستعراضات الجميلة والمتنوعة والمبتكرة للفنان القدير محمد زينهم الذي وفق في تصميمها بصورة مبهجة ومبتكرة بعيدًا عن التصميمات التقليدية المكررة، وبما يتناسب مع الأجواء الثلاث التي يتضمنها العرض (الصيادين الغجر، الطلبة المعاصرين)، فشارك فيها كل أبطال العرض ولم تكن لأعضاء الفرقة فقط، خاصة وقد جاءت جميعها متناغمة ومتضافرة مع نسيج العمل والأحداث الدرامية بحيث لا يمكن فصلها عن المشاهد الدرامية، مما يؤكد على أهمية التناغم بين جميع المبدعين وليس مجموعة الممثلين فقط، فالصورة تلعب دورًا كبيرًا في تحقيق المتعة.
لم يخل العرض من دروس مستفادة منها معرفة تاريخ الغجر وعاداتهم وتقاليدهم وكل شيء عنهم وهي المتعة الفكرية التي ذكرتها فيما سبق، بالإضافة للشعر والغناء الذي جاء بأصوات الممثلين، بكلمات الشاعر سعيد شحاته الذي اختاره د. عمرو بعناية فكل شيء موظف بدقة شديدة هكذا عرفت د. عمرو منذ أكثر من ٢٥ عام. طبعا اختيار الشاعر فبالإضافة لكونه شاعرًا متميزً فهو ابن بار لبيئة الصيادين التي نشأ بها نظرًا لانتمائه لإحدى قرى محافظة كفر الشيخ، ولديه كل المفردات والمعلومات التي تخص هذه الفئة، مع موسيقى وألحان أحمد الناصر.
بجانب كل العناصر السابقة يأتي العنصر الأهم الأداء التمثيلي، فالمسرح ممثل على الرغم من أن العرض ينتمي لفرقة الفنون الشعبية والاستعراضية ويعتمد بالدرجة الأولى على الاستعراضات إلا أن الأداء التمثيلي يلعب دور كبير جدًا في الأحداث، فأعاد اكتشاف ميرنا كممثلة بأداء مختلف عن كل تجاربها السابقة تتكلم بلهجة الغجر وتغني وترقص، كذلك كل الممثلين اعتقد أنها التجربة الأولى لهذه الشخصيات وبأداء مختلف تمامًا عن تجاربهم السابقة:
علاء حسني الفنان التشكيلي ابن الوزير الذي وقع في حب الغجرية التي كان قد رسم صورتها من خياله بنفس ملامحها وفضلها عن ابنة السفير زميلته سهام التي أشعلت الفتنة للتفريق بينهما وجسدت الدور بحرفية عالية بوسي الهواري على الرغم من كونها التجربة الأولى لها كممثلة محترفة، نجوم الزمن الجميل وأدائهم المميز آمال رمزي في دور د. وطفاء، سيف عبد الرحمن في دور د. رؤف عبد المجيد، فتحي سعد في دور الشيخ شعلان والد قمر الغجري قارئ الكف، وفاء السيد نوارة الغجرية بخفة دم وأداء مميز جدًا،
حسان العربي الذي جسد الكوميديا والمرح من خلال شخصية كابوريا القهوجي خفيف الظل، عصام عبد الله مهران شاعر القبيلة الذي اختزل تجربته الطويلة في التمثيل في تجسيد هذه الشخصية بهذا الأداء المختلف، خاصة الدويتو الذي كونه مع الفنانة هالة خليل التي جسدت شخصية نجمة بائعة اللبن حيث الصوت الغنائي الجميل مع أداء تمثيلي المميز، باختصار كل الممثلين والراقصين الذين يصعب ذكر أسمائهم جميعًا نجحوا في تقديم فرجة مسرحية مكتملة العناصر، بشكل يليق بالمسرح المصري والأسر التي تشاهده، بقيادة فنان كبير د. عمرو دواره.
وأخيرًا فإن العرض به بعض النقاط التي ربما لم يلمحها الكثير والتي تبين مدى إنسانية ووفاء د. عمرو دوارة منها: استخدام اسم الكاتبة والناقدة المسرحية اللبنانية التي رحلت عن عالمنا منذ فترة وجيزة د. وطفاء حمادي، وهي شخصية حقيقية ولها دور مؤثر ومهم بالمسرح العربي، واسم د. رؤف عبد المجيد وهو فنان تشكيلي معروف وله إنجازات عظيمة وقد رحل عن عالمنا عام 1989، كذلك ولاءه لأستاذه كرم مطاوع الذي يسير على نهجه ومدرسته التي تعلم فيها حتى الآن بتوظيف أحداث حالية ومهمة في العرض.
كما فعل حين قدم أول عرض يتناول أحداث نكسة 1967، بعنوان “كوابيس في الكواليس”، وكذلك أول عرض يتناول نصر أكتوبر المجيد بعنوان “حدث في أكتوبر” بالإضافة إلى عروض أخرى تناولت الصراع العربي الصهيوني كعرض “عودة الأرض”، “وطني عكا”، “النسر الأحمر”،
وهنا لابد من الإشارة إلى أن هذا العرض هو الرابع لمخرجه الذي يتناول فيه قضية الصراع العربي الصهيوني حيث سبق له إخراج عرض خاص بعنوان “الضرب والقسمة” لفرقة مسرح الارتجال عن أحداث صبرا وشاتيلا، وكذلك عرض “النار والزيتون والدم” لألفريد فرج، وعرض “اغتصاب” لفرقة فرسان المسرح تأليف سعد الله ونوس.
ليس هذا فحسب بل أنه أعاد نجوم الزمن الجميل سيف عبد الرحمن وآمال رمزي إلى خشبة المسرح بعد غياب طويل، بل جعل سيف عبد الرحمن يذكرنا بأفلامه مع يوسف شاهين فجعله يغني ويرقص.