مقالات ودراسات

الكاتبة والناقدة البحرينية زهراء المنصوري تكتب: الدخول إلى بوابات الدهشة.. والمسرح أبو الفنون


زهراء المنصور 

ناقدة ومسرحية من البحرين

ـ

يواكب المسرح في البلدان النشطة ثقافيا الأحداث الكبيرة، في الانعطافات التي تشهدها خريطة الوطن العربي، وربما أيضا تقدم النصوص العالمية بتطعيمات شرقية ترمي إلى عكس الأوضاع القريبة بهيئة مغايرة لما هي عليه في الواقع، وهي وظيفة الفن بالدرجة الأولى: المتعة.

دعت كل الفنون، وناصرت أو خالفت أو حتى واكبت المتغيرات السياسية، وحملت «ثيمات» الوطن/الوطنية/ الثورة/الحرب/السلام، كتلك التي في روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، وفي الأغاني الثورية لكبار المطربين: فيروز وأم كلثوم وعبدالحليم وأغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، والمسرحيات في سوريا وتونس ومصر والعراق ولبنان لسعد الدين وهبة والماغوط وعزالدين قنون والرحابنة وأسماء كثيرة أخرى مؤثرة بالتأكيد، قدمت ما يثري المسرح العربي بكل ما يتعلق بالوطن، ولا شك أن أغلب هذه الأعمال الفنية لازالت راسخة في الذاكرة الجمعية للجمهور الذي يتلقى هذه الأعمال بلهفة المتفرج الذي يرى علاج جرحه المفتوح!

ولو تابعنا تاريخيا بالتوقيت، سنجد أن جل هذه الأعمال الناجحة قدمت على خشبة المسرح – أو غيرها – بعد فترة من حدوثها، أي أنها نضجت بشكل يسمح بعرضها على العامة كمنتج يستحق التقييم، وهذا جزء من سر بقائها في الأذهان لوقت طويل، بحيث صارت تمثل تكملة أو جزءا من الحدث الرئيسي، أي أن الوقت عامل مهم جدا لتقديم التجربة بشكل ناضج، إذا ما قسنا هذا بالأعمال المسرحية تحديدا التي قدمت من بعد أزمة 2011، والتي جاءت تساوقا مع مد ما يسمى «الربيع العربي» وحمل نتائج كارثية على معظم المستويات، – حسب مشاهدتي ورأيي الشخصي – فكانت هذه الأعمال التي قدمت محض تماه مع السائد على ما يجري، ولن أتجاسر وأقول إنها «ركوب الموجة»، لأن المسرح بوصفه المهم لابد أن يكون له وجهة نظر فيما يحصل، لكن أعيب حقيقة على المستوى غير المقروء بعناية وعن دراية، والذي هدف إلى توجيه رأي الجمهور إما مع أو ضد، ولا شيء غيرهما، بطريقة قد تكون كرست للتفرقة أكثر من لأمها، وفي مزايدة على الوطنية بغير مكانها، وبعد ذلك لا يحق لك كمتلق أن تكون لك وجهة نظر مغايرة أو جزئية، وإلا ستكون خارج المنظومة من الطرفين. فمن يجرؤ على أن يكون مختلفا وحرا سيصنف أنه خارج عن التفاعل الثقافي، فلا محايدة في الأزمات، ولا تخفيف أحكام شخصية على الآخرين.
في البحرين الغنية الفخورة بتعددها المذهبي والطائفي والعرقي، كنتيجة طبيعية لكونها جزيرة استقبلت منذ القدم القادمين من كل مكان- ولازالت -، لذلك لا عجب أن نرى العلاقات الطيبة غير المتكلفة بين الأطياف المختلفة المسلمين بهذا الاختلاف ببساطة، بساطة التعايش بلا افتعال ولا تصنع القبول والرضا، هو إيمان داخلي بالمختلف غير الدخيل ولا الطارئ. هو أيضا تعدد اللهجات التي تشتهر بها البحرين، برغم صغر حجمها على الخريطة وعظم مكانتها لدى الآخرين، حتى لو اصطبغت الفنون الدرامية بشكل يوحد ما يصنع هذا التميز، فدون التيقن من الانفعالات، قد تأتي النتائج عكسية على نحو مغاير عما تصورناه. فما جدوى العمل المسرحي إذا لم يحرك في المتلقي التساؤل أو يثير الشجن في نفسه أو يعري مشاكله ومجتمعه؟! وهذا يدفعنا لتساؤل ملح أيضا عن مفردة تقال في العموم وبعيدا عن نطاق الدراما: «كف عن مسرحياتك!» لماذا مسرحية بالتحديد؟ إذا كنا نستند على الدراما في تشبيه أفعال البعض التي لا تروقنا بالحياة الواقعية، لماذا لا تكون فيلما؟ أو مسلسل؟ أو سهرة؟ هل توحي مسرحة أي فعل/قضية إلى أهمية حقيقية للمسرح عند الناس فعلا وإلى مقاربة هذا الفن لوجدانهم والتعبير عنهم بشكل يختلف عن الفنون لدرامية الأخرى؟

الجانب الآخر المهم يكمن اختيار الزمان والمكان في العروض المسرحية، ذات التماس بالقضية المنشودة، له تأثير كبير. فلربما يحمل العرض أفكارا مهمة، لكنه يأتي مبكرا أكثر من اللازم أو متأخرا أكثر من اللازم، مما يفقده قيمته الفنية والدهشة المفترضة فيه. وكثيرا ما تساءلت بعد خروجي من هذه العروض: هل تحركنا المسرحيات فكريا، أو تبث فينا الحماس المطلوب بالقضايا التي تثيرها؟ هل الخلل في المسرحيين؟ أم في طريقة الصنع الآلية والاستسهال؟ لم لا أحس بنفس حماس فيروز وهي تغرد بأغنية بـ«يا حرية» في مسرحية (ناطورة المفاتيح)، وأسمعها في كل مرة بنفس الروح التي تدعو مستمعها بـ «اهربوا».. «خبوا حرياتكن في جيابكن» وتؤكد مرة أخرى «اهربوا» إلى البلاد «المنسية والمضوية» كما تصدح، ويخطر ببالي كل أمر يتعلق بمفردات مثل الحرية/ الوحدة/ حب الأرض، غير غافلة عن لحن عميق محفز ومتساوق مع كلمات الأغنية الحماسية الملهمة. في مثال آخر للفنان المتمرد زياد رحباني، ورغم مضي ما يقارب الخمسة عشر عاما على إنتاج أغنيته «شو هالأيام»، إلا أنها لازالت حاضرة في كل «كوبليه» لتمثل أحوال الماضي والحاضر وربما القادم، وبخاصة في المقطع الأخير «كل المصاري اللي مضبوبة.. اللي ما بتنعد وما بتنقاس.. أصلها من جياب الناس مسحوبة.. ولازم ترجع ع جياب الناس». أما الأغنية التي لا تكاد تنسى، وتغنى في كل محفل وطني، أغنية سيد درويش «أهو ده اللي صار» والتي كتبها بديع خيري وغناها درويش منذ ما يقارب 80 سنة ومطربون آخرون فيما بعد، وفي اعتقادي أنها أكثر أغنية عبرت عن الوحدة الوطنية في «بدل ما يشمت فينا حاسد..ايدك في ايدي نقوم نجاهد..
واحنا نبقى الكل واحد.. والأيادي تكون قوية». وفي تأكيد أن الأغاني الوطنية والحماسية تشق طريقها بشكل مختلف عن المسرح، لكننا في وضع المقارنة للحضور الذهني في ذاكرة المتلقي رغم اختلاف طريقة الاستقبال من ناحية بساطة حضور الأغنية في كل مكان، بينما يتطلب المسرح جوا مختلفا آخر يستدعي جمهوره إليه – إلا إذا كان سيشاهد العرض المسرحي عبر التلفزيون. وبناء عليه أتصور أن المعضلة ليست في الفنون التي تشكل جزءا من وجهة نظرنا – وهو الجزء الاختياري الحر- بل في الإتقان الذي يقودنا إلى التماهي بكامل إرادتنا وننحاز أو لا ننحاز لقضية معينة.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock