الكاتب المسرحي السعودي”فهد ردة الحارثي” يكتب: ليست مجرد شهادة!
فهد رده الحارسي*
كاتب مسرحي سعودي
ـ
ذات يوم في منتصف عام 1990م كنا في خِضَمّ عروض مسرحية يا رايح الوادي حينما طلب مني الزملاء مشاركتهم تقديم عرض مسرحيّ في مهرجان الجنادرية، قبل أن يكون هناك مهرجان مسرحيّ؛ اتصلت بالأستاذ عبدالله الجار الله الذي كان مشرفًا على أنشطة المهرجان، وفي أثناء الاتصال كان الزملاء يتحلّقون بعضهم حول بعض في إحدى زوايا المسرح في حالة صمت مهيب، جرى الاتصال ولم تنجح المحاولة، فقد اعتذر الجارالله؛ بسبب تأخرنا في التنسيق.
دخلت المسرح محاولًا نقل ما جرى في المحادثة الهاتفية، واستغرق الأمر مني استطرادًا طويلًا في الحديث؛ لأني كنت أعرف ما تَعْنيه كلمة الاعتذار لهم من إحباط. لم أَكَدْ أنتهي من جُمْلتي الأخيرة حتى صرخ عبدالحكيم النور -رحمه الله- مُعلِنًا أن المسرح لا فائدةَ منه، وأن أحدًا لا يمكن أن يعرفك ما دُمتَ تعمل مسرحًا فحسب، وأكمل عبدالله الوجيه الناقص في تلك الجملة بأنه يُفضِّل العودةَ إلى الموسيقا: فمهما تعبتَ في المسرح ونجحتَ لن يذكر أحد لك فضلًا، وستبقى في مدينتك التي عملت بها ولن تخرج من إطارك الذي عملت فيه.
وكادت السبحة تنفرط لولا محاولاتي -مع صديقي أحمد الأحمري- ترميم ما يمكن ترميمه على وعد بالبحث عن عرض المسرحية في مدينة أخرى قريبًا.
ونحن الآن في بدايات عام 2016م؛ اعتذرنا العام الماضي عن عدم المشاركة في سبعة مهرجانات مسرحية عربية ودولية وجّهت الدعوة إلينا للمشاركة فيها؛ لأننا لم نجد الدعم الكافي، ولم نجد الوقت للمشاركة.
مشاركة واسعة
نحن الآن نقف على تلّ من المشاركات في المهرجانات الداخلية والخارجية يفوق تعدادها المئة، ولدينا ما يتجاوز 70 جائزة مسرحية، ولدينا أعمال تتجاوز 50 مسرحية، قدّمت عروضها في 12 مدينة سعودية، و33 مدينة عربية، ولدينا قاعة مسرح جيدة كانت ملعبًا لكرة السلة، وجرى تجهيزها بشكل مقبول؛ لتقدم عروضنا المسرحية عليها، وجرى تكريمي والزملاء أحمد الأحمري وعبدالعزيز عسيري ومساعد الزهراني وإبراهيم عسيري وسامي الزهراني وجميل عسيري محليًّا وعربيًّا أكثر من مرة.
وشاركت الزملاء: أحمد الأحمري، وعبدالعزيز عسيري، وإبراهيم عسيري، وسامي الزهراني، ومساعد الزهراني، وجمعان الذويبي في تحكيم كثير من المهرجانات المحلية والعربية.
تصوُّر غروتوفسكي
إنه فارق كبير بين المرحلتين؛ مرحلة البناء في البدايات الشاقة، ومرحلة ما نحن فيه الآن، يقودها طريق طويل من العمل الجادّ المكثف في 27 عامًا.
أتذكّر في بداياتنا المسرحية كيف كان الحديث يدور عن ارتباط ورش العمل المسرحيّ بالمسرح الفقير، وفي تصوُّري أن ما تؤدِّيه ورشة العمل المسرحيّ بالطائف لا يخرج عن تصوُّر غروتوفسكي حينما قال: يأتي أُناس لا يرتاحون لأوضاع معينة في المسرح الاعتياديّ، فيأخذون على عاتقهم خلق مسارح فقيرة تضمّ ممثلين قليلين مجموعة المسرح الصغير، ويقومون بتحويل المسارح إلى معاهد لتثقيف الممثلين، أو يأتي هواة يعملون على هامش المسرح المحترف، وبجهودهم الخاصة يحققون مستوى تقنيًّا أرقى بكثير مما يتطلبه المسرح السائد، وهم باختصار عدد قليل من المجانين الذين لا يملكون ما يَخشَوْنَ فقدانه، ولا يخافون العمل المرهق.
هذا ما حدث لنا في ورشة العمل المسرحيّ بالطائف، فقد كنا نرفض شكل المسرح التقليديّ الذي كان سائدًا في تلك الحقبة، وكنا نعتمد على إرث مسرحيّ صغير من العروض التي رفضت الشكل التقليديّ.
لقد ظهر الشكل الملحميّ عند بريخت واضحًا في مسرحية يا رايح الوادي، ثم بَدَتِ الصورة تختلف تدريجيًّا، فحينما عرضت مسرحية النبع عام 1414 اعتمدنا على تفقير الديكور، والاعتماد على سُلمين، وخلفية تُجسّد بيت العنكبوت وبكرة، وقد اعتمدنا في هذا العمل على حركة الممثل وتشكيلات المجاميع الجمالية، انطلاقًا من مفهومين حول ملحمية بريخت ومسرح الصورة، إضافة إلى استخدام تداخلات من مسرح الحكواتي ومسرح القسوة.
تطوير الفكر والخيال
أصبح لإهمال المكياج، وإلغاء الديكور، وبساطة الأزياء وتفقيرها، وعدم الاعتماد على الإضاءة؛ تفسير منطقيّ لدينا، وتحوَّلت التدريبات البدنية التي كان الهدف منها زيادة معدلات اللياقة البدنية والقدرة العضلية، التي كانت تحتاج إليها حركة المجاميع؛ إلى تدريبات معملية، تهدف إلى تطوير الفكر والخيال، وإعداد الممثل بشكل يزيده قُدرةً ذهنية وحركية، ويزيده تفاعلًا مع العمل المسرحيّ؛ لذلك كنا نجد تدريبات المعمل المسرحيّ تصبّ فورًا داخل عرضنا المسرحيّ من دون ترتيب سابق.
مضت الأمور بعدها في تجارب كثيرة، وغوايات مسرحية لا تنتهي أبدًا؛ نحن نلعب، نعمل، نجتهد، نقدم، ثم نمضي إلى رسم طريق من النجاحات القائمة على فعل مشروع جادّ يتنفس مسرحًا.
المسرح الفقير
أعتقد أن هذه المسرحية كانت هي بداية تفكيرنا في المسرح الفقير، فقد اعتمدنا تفقير الديكور والأزياء وإلغاء المكياج، والاعتماد المحدود على الإضاءة، وما لبث الأمر أن تطوَّر بعد اكتشافنا جمالية هذا المنهج ونجاح عروضه، فجاءت مسرحية ”البابور” عام 1415هـ؛ إذ ألغينا جميع قطع الديكور تمامًا، وتجاهلنا الكواليس، واعتمدنا على خلفية فقط، تُمثل دوامة بها بقايا إنسان، وكان لحركة الممثل ولتناسق حركة المجاميع دور كبير في استغلال فراغ المسرحية. على أن الأمر تطوَّر بعد ذلك كثيرًا بوساطة جلسات القراءة الحرة والمنفردة، وأوراق العمل الجماعية، والمشاهدة والمناقشة، التي خَصَصْناها بوقت كبير ضمن برامج الورشة المسرحية، فبدأت الآفاق تتسع، وجَرَتِ الاستفادة من تجارب العمل المسرحيّ عربيًّا بوساطة القراءة والاطلاع والمشاهدة، فاختُصرت المسافات، واختُزلت التجارب.
وأصبح من الضروري أن نضع لنا منهجًا علميًّا نسير وَفْقَه، ومن ثَمَّ تحديد أهداف فنية نتطلع إليها، وإجراء تدريبات المعمل المسرحيّ المفيدة جدًّا لنا، فجَرَتِ الاستعانة والاستفادة من كل ما وقع تحت أيدينا من منهج إعداد الممثل عند ستانسلافسكي، وتشيكوف، وسوينامور. وأصبحت العملية تأخذ شكل الجدية، ولم يعد هاجسنا البحث عن إطارات وقوالب جاهزة للملحمية، أو العبثية، أو ممارسات لمسرح القسوة، أو الانطلاق إلى أجواء المسرح الاحتفاليّ، أو تجسيد شكل تراثيّ من الحكواتي.
قد تكون شهادتي هنا مبتورة من لوحات كثيرة؛ كل لوحة تُقدّم فعلها، لكنها تؤكّد أن المسرح مشروع، وطريق النجاح يبدأ بالمشروع أولًا
ـــــــــ
الفيصل