الكاتب المسرحي والناقد “يوسف البري” يكتب عن مسرحية “حارس أحلام المدينة” لمحمد جمال عمرو.. خيال بلا حدود.. غسل الرماد بالعسل!
يوسف البري*
كاتب مسرحي وناقد ـ الأردن
ـ
تأتي مسرحية الأطفال “حارس أحلام المدينة” من تأليف الكاتب وشاعر الأطفال محمد جمال عمرو، لتشكل إضافة جديدة في عوالم مسرح الطفل العربي وفضاءاته، لما اشتملت عليه من فكرة وسرد وأحداث، كانت الكوميديا العباءة التي غلفت أحداث العمل كلها لتنسج جواً من المتعة والسعادة والفرح، وتحلق بضحكات الأطفال طيلة فترة قراءة العمل أو عرضه.
لقد نجح الأديب والشاعر محمد جمال عمرو بتوظيف الكوميديا بأشكالها وأبعادها الحسية واللفظية والحركية، في هذا العمل المسرحي وكأنه يرسم- وبألوان الربيع- ممرات واسعة، تشق طريقها نحو قلب الطفل، فتراقصه تارة وتلعب معه تارة أخرى، وتحلق في مخيلته بين الغيمات، ليدرك أن شخصيات العمل على اختلافها وتنوعها، هي نوافذ خصبة تفضي إلى تسليط الضوء على فكرة العمل، تلك الفكرة التي تقوم على تعزيز مفاهيم حب الوطن والتعاون والتضحية والشجاعة، والإيمان المطلق بأن الحق هو الذي ينتصر في النهاية أياً كان صانع الشر وباعث الخراب.
إن جميع القيم سالفة الذكر قد تمت إذابتها بنكهة السكر وماء الزهر، حتى تمطر على قلب الطفل بشكل سلس بعيداً عن التلقين المباشر المفتعل، لذلك نجد شخصية “شحبور” مثلاً -وهو عنصر الشر الرئيسي في العمل، والمحرك الأول للفوضى، وصانع العقدة الدرامية ترافقه صديقته شحبوره، هما الشخصيتان اللتين حملت عليهما مهمة جذب الطفل، والاحتفاظ به دون كلل أو ملل حتى آخر كلمة في العمل، وقد تجسد ذلك في كثرة المواقف والتصرفات المضحكة، التي تقوم بها هاتان الشخصيتان طيلة فترة العمل، ليثبت المؤلف براعته في تمرير ما يريد من خلال هاتين الشخصيتين، وبسرد سلس وأحداث مشوقة استطاعت أن تغسل الرماد بالعسل.
إن هذه المعادلة الصعبة المتمثلة في إعطاء الرماد، الذي يرمز إلى أعمال شحبور وصديقته شحبورة الشريرة، المتمثلة بمحاربة النظافة والعبث بجمال المدينة ومقدراتها، إعطاء الرماد نكهة العسل على هيئة خفة دم شحبور وصديقته شحبورة، وطرافة حكاياتهم، وأخذهم كل أمورهم الحياتية بمنظور مختلف عن الواقع، لأنهم يحبون الأوساخ ويكرهون النظافة، وهي مفارقة ليست سهلة، فقد غسل المؤلف الرماد بالعسل، حتى يدرك الطفل صعوبة ما يقوم به “شحبوروشحبورة” من فوضى وخراب، لكن دون أن يشعر بالخوف أو المرارة أو الملل.
من ناحية أخرى نجد أن التنوع في جنس شخصيات أبطال العمل، ما بين الشخصيات البشرية، مثل: ” حارس أحلام المدينة، وعامل النظافة، ومهندس المرور، ومرح “، وهم عناصر الخير والحب والعطاء في العمل، والشخصيات الحيوانية، وهي: ” الفراشة والعصفور، والضفدع “، وهم مكمل للعناصر والقيم الجميلة، لكنهم الأكثر ضرراً جراء ما يقوم به شحبور من تلويثٍ للبيئة ومحاربة للنظافة، ذلك التنوع -وعلى هذا النحو من الطرح- جعل الطفل يبحر بخياله إلى اللا حدود، وجعله يذوب في مخيلته وهو يتعاطى الأجواء المسرحية الساحرة، التي تنسج الحوار بين تلك الشخصيات كافة، بأصواتها وحركاتها وأشكالها المختلفة، والتي تحاكي الحقيقة إلى حدّ كبير، لتجد أن الطفل جزء لا يتجزأ من العمل، وكأنه يشارك تلك الشخصيات في التفكير أو التقرير أو العمل.
يمكننا القول إذن أننا أمام نص مسرحي مكتمل بامتياز، بعناصره كلها وأدواته من: حبكة وشخصيات وأدوات ولغة حوارية، عُزّزت بالشعر والغناء، حتى ترقى الفكرة إلى أبعد ما يكون، بل وحتى تنبت لها أجنحة تطوف وتحلق بها، وتغازل كل النوافذ التي شرعها الأطفال حينما هموا بقراءة هذا العمل.
من جهة أخرى، نجد أن شخصية حارس أحلام المدينة، ذلك البطل البارع الذي استطاع- بالثقة والاتزان والوعي- أن يضبط كل ما صدر عن شحبور وصديقته شحبورة من فوضى وخراب وعبث، بوعي وحرفية عالية، وشخصية ثقّابة، خفيفة على قلب الطفل، بعيدة عن المنطقية المفرطة غير المستساغة، استطاع الكاتب أن يجمع الخيوط كلها، فينسجها بالحب والشعر والغناء، وبالحث على العمل والتعاون والعطاء، وأن يلقن عناصر الشرّ والعبث في المسرحية، متمثلة في شخصية “شحبوروشحبورة”، درساً قاسياً كانت الطبيعة – بنحلاتِها- هي البطل المنقذ المنتقم منهما، ليعود الخير والنظافة والبيئة السليمة هما المناخ الطبيعي السليم، الذي طالما كانت المدينة تحلم بهما.
مما لا شك فيه، أننا أمام نص مسرحي يدرك مؤلفه جيداً، آلية طرح العقدة وانفراجها، بلغة مسرحية خصبة، اكتملت بها العناصر المساعدة الأخرى، فهو يكتب بقلمين معاً، الأول: قلمه ككاتب مسرحي محترف وشاعر للأطفال، والثاني: قلم المخرج الذي رسم به مسارات المؤثرات الصوتية والموسيقية والضوء وانعكاساته على خشبة المسرح والممثل والجمهور، وكأنها ظلال انسجمت مع كل شخصية حسب مهمتها في هذا العمل.