الكاتب والناقد “مجدي الحمزاوي يكتب: في انتظار البرابرة.. واختصار الأفق للطرح والتلقي
مجدي الحمزاوي
كاتب وناقد مسرحي مصري
ـ
يجب أن يسأل المخرج السوري وليد قوتلي نفسه عن ماذا حدث لعرضه المسرحي ( في انتظار البرابرة) الذي قدمته فرقة ( أل) المسرحية خلال فعاليات مهرجان القاهرة الدولي لمسرح التجريبي في دورته الثانية والعشرين؟ ولماذا كان هذا الفتور من جانب الجمهور ؛ بل والحكم على العرض بأشياء كان من الممكن أن يكون في غنى عنها ؟ لو قام بهذا السؤال ربما أدرك أنه كان من الأفضل لو أنه قد جعل الممثلة التي تقول كلمات قصيدة كافافيس المأخوذ عنها نص العرض في البداية والنهاية، قد قامت بالإلقاء المباشر دون أن يكون هناك غناء لهذه الكلمات ؛ أو يضع في حسبانه أن يكون اللحن المصاحب سلسلا سهلا ؛لا يضغم الكلمات أو تكون هناك بعض الألفاظ غير واضحة ، بالإضافة إلى انه ربما كانت هناك بعض العيوب في التعامل مع الأجهزة الصوتية ؛ فكانت النتيجة أن أغلب الكلمات قد ضاعت ولم تصل إلى الجمهور ، مع أن الشرط الأساسي لتلقي هذا العرض بالشكل الجيد أن يكون الجمهور على علم تام بما يقوم به الممثلون في حركاتهم ، أي أن تكون هناك ترجمة بصرية ذات اتجاهات محددة حتى وإن كثرت يقوم بها المخرج والممثلون لمعنى ربما يكون ضبابيا أو متشعبا في مرجعية الجمهور ، وقبل أن نستطرد في الحديث فطبيعي جدا أن تكون هناك قلة قليلة هي التي قرأت هذه القصيدة من قبل كما أن القليل من هذه القلة هو الذي يتذكرها على الوجه الأكمل أو يحفظها ؛ فالحديث هنا عن قصد جمهورا نوعيا محددا بهذا العرض هو حديث فيه شك فهذا الجمهور النوعي ربما في حاجة إلى حافز يجعله قادرا على التذكر وهذا لن يأتي إلا من وضوح كلمات القصيدة التي استخدمها المخرج ، وفي اعتقادي انه ربما يكون عرض القاهرة هو أول مرة يتم فيها هذا العرض لأنني اعتقد أن الجمهور في مصر وسورية في أغلبه لم يعرف الشاعر ولا القصيدة ؛ ومن يعرفهما ليس من الضروري ان يكون على تذكر تام بأحداثها وكلماتها.
وربما يجب ان نقول أنه ليس بالجديد ولا المستبعد أن يتم الإتكاء على قصائد الشاعر السكندري كافافيس ؛ فهذا الشاعر الذي ولد في مدينة الإسكندرية المصرية 1863 وقضى معظم حياته بها حيث كان يعمل موظفا بمصلحة الري المصرية أغلب فترات حياته ؛ ولكنه توفي في العاصمة اليونانية أثينا عن عمر السبعين ؛ هذا الشعر كانت تغلب الدراما على قصائده بالإضافة إلى الحس الإنساني المتوقد الذي تجاوز الزمان والمكان ، صحيح انه لم يعرف على نطاق واسع إلا بعد وفاته خاصة حين قام الدكتور نعيم عطية بقراءة ما ترجمه من كلمات هذا الشاعر للأديب يحي حقي الذي لم يتمالك نفسه من الدهشة والإعجاب وقال: ليس المهم في هذه القصائد ما تقوله بل ما تنم عنه . ثم يستطرد يحي حقي في وصفه شعر كافافيس فيقول : هذا هو الشعر في بساطتةانسانيته ، أثره عند السامع لا بد أن يتصاعد من الإعجاب إلى الطرب ، إلى اللذة إلى النشوة ، ثم إلى الهزة التي ترج الروح رجا لتبحر نحو الشاطئ من بعيد .
فمن خلال قدرة كافافيس على خلق العلاقة الحية بين الحاضر والماضي ، وفي نفس الوقت فإن أعماله تقوم لى التكثيف الشديد ، فهو بكل بساطة يخلق صورة مركبة في اقل عدد من الكلمات ويترك للآخرين بعد ذلك محاولة فكها واستخراج التفاصيل الموجودة / وما أكثرها تلك التفاصيل.
ولآته كما قال يحي حقي أنه ليس المهم في أعمال هذا الشاعر ما تقوله الكلمات بل ما تنم عنه ؛ وهذا باب جيد للمشتغلين بالدراما الجماهيرية أن يحاولوا استغلال هذا الذي تمت الإشارة إليه في تلك الأعمال ،فرأينا اثنين من مخرجي السينما المصرية وهما يسري نصر الله وإبراهيم البطوطي يصنعان فيلمين لهما انطلاقا من شهر كافافيس وهما فيلم( إيتاكا) للبطوطي ، وفيلم ( المدينة ) لنصر الله ، كما أن لورانس داريل في رباعية الإسكندرية قد اعتمد كثيرا على كافافيس سواء في شخصياته أو معرفة الحالة التي كانت موجودة بكل أبعادها من خلال أعمال شاعرنا.
فالكل في المدينة ينتظر البرابرة؛ يحتشدون في السوق في انتظارهم ؛ ومجلس الشيوخ لن يسن القوانين لأن البرابرة عندما يأتون سينفذون قوانينهم ؛ ولم يصحو الحاكم مبكرا ويجلس عند بوابة المدينة؟ إنه في انتظار البرابرة حتى يكون في شرف استقبالهم .. الخ ويمضي النهار ولم يحضر البرابرة ؛ وهناك من جاء من على الحدود وقال انه لا يوجد برابرة في الأفق ليأتي السؤال المفاجئ والمفزع في نفس الوقت فأهل الدينة يسألون أنفسهم ماذا سيفعلون الآن بلا برابرة؟ هذه الصدمة تجعلنا نكتشف ان البرابرة ربما كانوا هم الحل للحالة المتردية التي تعيشها المدينة / الحضارة/ الواقع . هؤلاء البرابرة الذين لم يحددهم وجعلهم ينتمون لبرابرة كل زمان ومكان ،كما أن سكان المدينة أيضا لم يحددهم وجعلهم ينتمون أيضا لكل مكان وزمان ممكن .
وفي رأيي أن هذه القصيدة ربما تكون معادلة أوهي الوجه الآخر لقضية انتظار هذا الذي لن يأتي ولكن من وجهة نظر مختلفة ؛ فكافافيس هنا يدين المجتمع ككل ؛ وهذا العالم الذي يصف نفسه بالمتمدن يبحث عن حل لمشاكله في تمني مجيء هؤلاء البرابرة بكل ما تعنيه هذه الكلمة
ولكن وليد قوتلي حينما اتكأ على القصيدة ربما كان في خلده الحالة التي يمر بها الوطن العربي والعالم الثالث عموما ؛ وحاول ان يجعل هناك مكانا وزمانا للمدينة ؛ فهو مر مرور الكرام على معظم القصيدة وركز فقط على حالة الحاكم وهو على باب المدينة ينتظر البرابرة ؛ ويعد لهم الاحتفالات عن طريق الرقص والغناء والألعاب البهلوانية. وعن طريق الملابس التي اختارها خاصة للحاكم والسورة التي كانت عليها الديكورات لبعض النساء تحيل بالضرورة إلى الشرق؛ والشرق العربي خاصة ؛ وربما كان هذا التحديد؛ الذي في رأيي قد اضر بالصورة العامة للقصيدة_ هو الدافع الذي لم يجعل المخرج يهتم كثيرا بوضوح كلمات القصيدة ؛ ربما لأنه قد استشعر أن القضية التي يطرحها عن استعداد الحاكم لتسليم مقاليد مدينته للبرابرة عن طيب خاطر وفي احتفالات مهيبة ؛ هي قضية سهلة النفاذ للوجدان الشرقي
ولأن الكلمات ضاعت والعرض اعتمد على الحركة فقط فقد رأى غالبية المشاهدين أن ما يدور أمامهم ربما يكون جزءا من التدريبات على فن التمثيل حيث يستعرض القائمون بالحركات مهاراتهم الحركية والإيمائية ، كما أن تكرار هذه الحركات بصورة مبالغ فيها قد جهلت هناك شبه ترهل في العرض وربما لو أكتفي من الحركة أن تكون لمرة واحدة أو مرتين على الأكثر لكان العرض قد مر على الجمهور حتى وإن لم يفهمه كلية وحاول هو أن يبحث عن معنى لما يراه أمامه لو كان هناك تكثيف في الحركة ؛بل وربما تكون هناك محاولة للبحث عن القصية او السؤال عن محتواها ؛ ولكن الوقوع في دائرة الملل لن يجعل هناك أية محاولات استكشافية أو إدراكية.