حوارات
المخرج الأردني الكبير حكيم حرب: يجب عمل مراجعة لظروف المسرح العربي، والمهرجانات وحدها لا تكفي لخلق حراك دائم
المسرح نيوز ـ القاهرة| خاص
ـ
تحدث المخرج الأردني الكبير عن تجاربه المسرحية عبر فرقته المسرحية ومختبره الجوال قائلا:
يجب عمل مراجعة شاملة لظروف المسرح العربي، وأن نجد حلاً لمشكلة علاقة الجمهور بالمسرح، فالمهرجانات وحدها لا تكفي لخلق حراك وجمهور مسرحي على مدار العام، المهرجانات يشاهدها المسرحيون أنفسهم فقط ولا يشاهدها الجمهور، فعدد مقاعد صالة الجمهور لا يتجاوز ٣٠٠ مقعد، يتسع فقط لأعضاء الفرق المسرحية المحلية والعربية والضيوف وأعضاء اللجان العليا والتحكيم والعلاقات العامة والإعلاميين،
اذن هنالك خلل جوهري في كافة المهرجانات المسرحية المحلية والعربية، أنها لا تحقق الهدف الأساس الذي لأجله وجد المسرح، ألا وهو الجمهور، بالإضافة إلى أن الموضوعات التي تتناولها غالبية العروض المسرحية العربية لا تمس الجمهور العربي الذي لم يتم تثقيفه وتعليمه أبجديات المسرح بعد، وأسس وتقاليد مشاهدة العرض المسرحي والقدرة على تذوقه وفهمه وتحليله،
فمدارس وزارات التربية والتعليم في معظم الدول العربية تتجاهل المسرح، ولا تدرجه ضمن المناهج الأساسية التي يتعلمها الطلبة، لهذا يكبر الأطفال وهم لا يعرفون شيء عن هذا الفن الخالد والعظيم والذي مضى عليه آلاف السنين مثبتاً أنه عنوان المدنية والحضارة لأي أمة، وأنه أنجع وسيلة للتربية والتعليم ولتهذيب النفس البشرية والارتقاء بالوعي والذائقة لدى بني البشر، وأنه علاج نفسي لحالات مستعصية مثقلة بالتراكمات الذهنية والنفسية، وانه حماية من الطاقة السلبية والميل الى العنف والجريمة والتطرف والمخدرات .. الخ، لأنه قادر على اختراق النفس البشرية والولوج الى دهاليزها المظلمة وفتح سراديبها المغلقة، لنشر النور والوعي والمحبة والتسامح والجمال، وأن تجاهل المؤسسات الرسمية العربية للمسرح والمسرحيين، وعدم منحهم الدعم والرعاية وعدم تهيئة مناخ صحي لهم وعدم مدهم بسقف مرتفع للتعبير بحرية وعدم خلق فضاء حر ورحب لهم لتقديم رؤاهم الجمالية والتنويرية جعل الظلاميين يسيطرون على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافية العربي، وزاد من نسبة الجهل ورفع وتيرة العنف وكرس أفكار الكراهية والعدائية وعدم احترام الآخر ووجهة نظر الآخر، ونحن اليوم ندفع ثمن تجاهل المؤسسات الرسمية العربية لدور المسرح وسائر الفنون، من خلال ما نشاهده من جريمة وتطرف وارهاب،
فلا خلاص أمامنا كمجتمعات عربية الا من خلال إعادة الهيبة والاعتبار للمسرح وكافة أشكال الثقافة والفنون، وأهمها المسرح لأنه “أبو الفنون”، ففيه تتجمع كافة أشكال الأدب والفنون من قصة وشعر ونثر وموسيقى ورقص وتشكيل وتمثيل، وهو الأكثر قدرة على الارتقاء بالوعي وتهذيب النفس وتسليح العقول بالمعرفة والقدرة على تذوق الجمال، فلا يمكن لشخص تتلمذ على المسرح والفنون وتذوقها ومارسها أن يرتدي حزاماً ناسفاً ليفجر ويقتل المدنيين الآمنين والمسالمين، ولا أن يقطع رأس أحد لأنه اختلف معه فكرياً أو عقائدياً، ولا أن يغتصب فتاة بعمر الورد، ولا أن ينتمي لجماعات إرهابية،
بناءً عليه علينا أن لا نكتفي بالاحتفاء الموسمي الكرنفال بالمسرح وتوزيع شهادات التقدير والجوائز والأوسمة، بل علينا استثمار هذه المهرجانات لدق ناقوس الخطر وإرسال إشارات استغاثة لنعلن بأن مسرحنا العربي يغرق، ولكي نقول أيضاً بأن مسرحنا العربي في خطر وأنه غريب عن الناس وأنه بلا جمهور وأن موضوعاته لا تتقاطع مع هموم المواطنين في الشوارع والمدن والقرى والمدارس والجامعات والمصانع والحقول والمقاهي والسجون، وأن عروضنا المسرحية يسيطر على معظمها الإيهام والإغراق في الوهم والهروب من الواقع والعيش في الحالات الرومانسية والطقوس الغرائبية ولا زالت تسكن في الأبراج العاجية وتعيش حالات فانتازية وسوريالية لا تشبهنا كمجتمعات عربية غارقة في التناحر والطائفية والصراعات والثورات والفساد والدكتاتورية والحروب الأهلية،
فواقعنا العربي أصبح أكثر مأساوية وغرائبية وعبثية من المسرح الإغريقي والشكسبيري والعبثي واللامعقول، والمواطن العربي مثقل بالهموم والهزائم والانكسارات وحالات الفساد والضرائب وغلاء الأسعار، بينما المسرحيون العرب يناقشون مشاكل السينوغرافيا ومسرح ما بعد الدراما ويختلفون حول تعريف الدراماتورجيا ويتناحرون عند توزيع الجوائز، بينما المواطن العربي لم يتعرف على مسرح الدراما وما قبل الدراما بعد، واللجان العليا والتحكيم والتقييم والنقد التابعة لمهرجاناتنا المحلية والعربية لا زالت تبحث عن عروض مسرحية أكثر عبثية ومأساوية وغرائبية وتعزز الفجوة الهائلة بين الجمهور والمسرح في الوطن العربي من المحيط الى الخليج، اعتقد أن الأمر يدعو للضحك والسخرية، فالواقع العربي في جهة والمسرح العربي في جهة مغايرة تماماً، هنا لم يعد أمامنا سوى التهكم مسرحياً على هذا الواقع المرير والمبكي والمضحك في آن واحد،
لهذا قدمت أنا وفريقي المسرحي “الرحالة” منذ اكثر من عام عملنا الكوميدي الساخر “جنونستان” والذي عرض في الأردن ومصر والمغرب وتونس ولا زال يعرض بنجاح كبير ويدعى للمشاركة في معظم المهرجانات المحلية والعربية، وعمل جولة على العديد من المحافظات وتفاعل معه الجمهور وأحبه، لأنه لامس هموم الناس وواقعهم اليومي المعاش وسخر من كل الحالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الزائفة، وتناول مشاكل الوطن العربي منذ ثورات الربيع العربي حتى الان، مؤكداً على فكرة أن التخلص من الدكتاتور لا يكفي إذا لم يعقب ذلك تخلص من الفكر والثقافة الدكتاتورية المتأصلة فينا منذ الطفولة، فالدكتاتور قادر على التناسل عبر أجيال جديدة من الدكتاتوريين، وكل منا مشروع دكتاتور ينتظر الفرصة لإطلاق العنان للدكتاتورية القابعة في داخله، حتى لو تظاهرنا بالثورجية وتشدقنا بالحرية، فدع رجالك الأحرار يرتدون ملابس السلطة وانظر حينها كيف سيتبدلون وماذا سيفعلون . شكراً لكل الجهود المخلصة في الوطن العربي التي تحاول النهوض بالمسرح العربي من خلال اقامة المهرجانات السنوية ومنح الدعم والجوائز، لكن هذا لا يكفي دون
لكن هذا لا يكفي دون تركيزنا على جعل المسرح جزء من الثقافة والتربية والتعليم لأبنائنا وهم على مقاعد الدراسة الأولى، ودون اقامة الورش والمختبرات المسرحية بشكل دوري ومكثف لتحقيق الاستدامة وليس الموسمية، ولخلق حراك مسرحي حقيقي وفاعل داخل المدن والقرى والأطراف والمناطق النائية والأقل حظاً والسجون ودور رعاية الأحداث والأيتام، حتى نخلق مسرح ولا نكتفي بالاحتفاء بالمسرح فقط، وهو ما نفعله في مشروع المختبر المسرحي الجوّال الذي ترعاه وتدعمه وزارة الثقافة الأردنية منذ عام ٢٠١٤ وحتى اليوم كأحد مشاريعها الهامة،
فقد استشعرنا الخطر قبل ست سنوات بأن مسرحنا الأردني بشكل خاص والعربي بشكل عام قد أصبح نخبوياً ومهرجانياَ وكرنفالياً وأنه للمسرحيين وحدهم وبلا جمهور يتابعه حتى غدا كالرقص في العتمة، وأنه يتمركز داخل العواصم العربية فقط ولا يتواصل مع الناس في المناطق النائية والأقل حظاً، عندها لمعت فكرة المختبر المسرحي الجوّال ليكون بمثابة معمل تدريبي يقوم بعمل جولة على كافة المدن والمحافظات ويدخل السجون، بهدف نشر الوعي والمعرفة المسرحية والارتقاء بالذائقة الفنية والجمالية واكتشاف المواهب وصقلها وتدريبها،
فنحن بهذا قد وضعنا يدنا على مكمن الخلل، فنحن اذا لم ننجح من خلال مشروع المختبر المسرحي الجوّال في خلق جيل جديد من المبدعين المسرحيين القادرين على الارتقاء بمسرحنا العربي، فإننا على الأقل سنكون قد خلقنا جمهوراً مسرحياً مدرباً وواعياً بأبجديات المسرح وتقاليده وطرق متابعته وتذوقه وتحليله، حتى نجد جمهوراً مسرحياً مثقفاً وذواقاً يتابعنا عندنا نذهب لتقديم عروضنا المسرحية في المدن والمحافظات والمناطق النائية والأقل حظاً التي نزورها، بدلاً من أن نبقى متمترسين وراء نفس العواصم ونفس المسارح ونفس الجمهور ونقدم نفس النصوص ونفس الموضوعات ونستقبل نفس الضيوف ونختلف ونتجادل على نفس المصطلحات ونتناحر على نفس الجوائز،
بينما مسرحنا بلا جمهور، ومسرح بلا جمهور يعني مصحة عقلية ونفسية نمارس فيها عقدنا وأمراضنا النفسية . الحل من وجهة نظري يكمن في التركيز على خلق جيل جديد يقوم بتغيير الواقع الحالي، آملاً أن يكون العمل في الأيام القادمة منصباً على التدريب والتعليم وتنشئة الجيل الجديد من خلال ورش ومختبرات مسرحية مستدامة تعمل على مدار العام دون توقف، بهدف محاربة الجهل والفكر الظلامي من خلال المسرح وسائر الفنون وتخلق جيل جديد مسلح بالموهبة والمعرفة والثقافة الواسعة .
” فَأَما الزبد فيذهب جفاءً وَأَما ما ينفع الناس فيمكث فِي الأرض ” . حكيم حرب