الكاتب والناقد المسرحي السوري عبد الفتاح رواس قلعه جي يكتب: المعراج.. التأصيل في المسرح
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
المعراج
التأصيل في المسرح
عبد الفتاح رواس قلعه جي
كنا مجموعة من الباحثين العرب في النصف الثاني من القرن الماضي وكان همنا الكتابة في التأصيل لمسرح عربي، ثم خبا ذلك الضوء وتوقفت تلك البحوث لأسباب عدة. اليوم وبعد الانتكاسات التي نعيشها والتي سبقها تحلل من القيم الوطنية والقومية والاجتماعية بدعاوى الحداثة وما بعدها، المنقطعة المستوردة، وبعد غزو العولمة واللا انتماء والعدمية لكثير من شبابنا أصبحت العودة إلى البحث في التأصيل بالنسبة لنا كمسرحيين أمراً ضرورياً.>
في بحثنا عن الهوية الثقافية والتأصيل لمسرح عربي تعتبر قصة الإسراء والمعراج منطلقاً هاما وغنياً ليس للمسرح فحسب وإنما لكثير من الأعمال الأدبية و والفنية، وتعود أهميتها لكونها حادثة تاريخية جرت للشخصية الإسلامية الأولى، وأنها تصدر عن الفلسفة الإسلامية التي تتناول العلاقة بين الله والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، وعن التصور للثواب والعقاب ونظامٍ كلّي يبدأ في الحياة الدنيا ويمتد إلى الحياة الآخرة. وهي تمس قضية أساسية تؤرق الإنسان في وجوده، وتفتح أمامه آفاقاً من الخيال لا تُحدُّ ألا وهي قضية الموت ، وعنها تصدر فلسفته في الخلود والفناء.
أغلب الرحلات السابقة للإسراء والمعراج في الأدب الأسطوري القديم والتي كانت مصدراً ثرياً للمسرح تتحدث عن هبوط الشخصية الأسطورية إلى العالم الأسفل، عالم الأموات، لتلتقي بمن تحب، أو لتنقذه وتعيده إلى الحياة، وخلال رحلتها تحاول أن تكتشف سر الحياة والموت.
- في ملحمة جلجاميش ترد رؤيا أنكيدو عن العالم الأسفل، عالم الأموات، وبعد أن يفقد جلجامش صديقه أنكيدو يبدأ رحلة طويلة يعبر خلالها جبال ماشو المظلمة، ليلتقي بجده أوتانفشتم (نوح).
“أتيت قاصداً أبي أوتانفشتم
لأنه من مجمع الأرباب
أريد أن أسأله عن الحياة والموت”
- كما تتحدث الأسطورة السومرية عن هبوط إنانا إلى العالم الأسفل، وكان عليها كي تتحرر من بين الأموات أن تفتدي نفسها بآخر، فترسل إلى أريشكيجال ربة العالم الأسفل حبيبها دوموزي الراعي بدلاَ منها. كمتتحدث الأسطورة البابلية عن هبوط عشتار إلى العالم الأسفل، مملكة أريشكيجال، لاستنقاذ تموز.
- وفي الأسطورة الآرامية-الفينيقية يهبط بعل الرب القوي إلى العالم الأسفل وتنشب معركة هائلة بين بعل وعناة من جهة، وبين الرب موت وأنصاره من جهة أخرى تنتهي بانتصار عناة واستنقاذ بعل من عالم الأموات.
- وفي الأوديسة لهوميروس يقوم أوذيس بالهبوط إلى مقر الأرواح ، منازل الموتى، ليكلم العراف ثيريسيا. وفي الإنيادة لفرجيل يقوم إيناس بالهبوط إلى مساكن الموتى عبر نهر الجحيم ليخاطب أباه ويجتمع بأبطال طروادة.
- وفي أسطورتي إيزيس وأوزوريس المصرية، وأقهات السورية الأوغاريتية ليس ثمة هبوط أو ارتقاء وإنما معالجة أرضية واقعية للمشكلة، فإيزيس وفوغة تعيدان حبيبيهما المقتول إلى الحياة بعد أن تجمعا أشلاءهما من الجبال وبطون النور.
عالم الأموات إذن في مختلف النصوص القديمة هو عالم سفلي يقوم تحت العالم الدنيوي للحياة التي تجري فوق الأرض، فهو بين سطح الأرض ومياه الغمر الأولى. أما الرحلة في الإسراء والمعراج فهي ارتقاء لا هبوط، وهي دخول في عالم النور العلوي، وليس دخولاً في عالم الظلام الأرضي السفلي.
رحلة الإسراء والمعراج ، ومثلها تحرر الروح من أسر الجسد عند المتصوفة وفي نظرية الإشراق السهروردية وصعودها نحو الحق وعالم الكمال الإلهي النوراني بحركة عشق، هي تعبير عن التواصل بين الله والإنسان، وهذا التواصل عبّرت عنه الميثولوجيات القديمة بهبوط الآلهة إلى الأرض وزواجها من البشر أي أنه هبوط حسي، ودخول في طقس الفعالية الجسدية، بينما عبرت عنه النظرة الإسلامية بارتقاء الإنسان إلى الله بعد انسلاخه من ناسوت الجسد ونحاس الوجود، مع الأخذ بعين الاعتبار الخلافات حول عروج الرسول (ص) بروحه أو بروحه وجسده.
وحتى نزول الله الذي يقابل الهبوط والذي يرد في الأثر، وأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ليجيب دعوات الداعين والمظلومين، وأن الله يتجلى على عباده، وقوله: ” مايكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم”(المجادلة 7) .. كل ذلك لا يكون من قبيل التشبيه والتجسيد وإنما من قبيل المجاز، فما يتنزل على البشر هو الصفات الإلهية من رحمة وغفران ومحبة وعلم.. وليس الذات الإلهية، وهذا الأمر يحدد طبيعة التواصل بين الإلهي والبشري.
النزول والتجلي يرتبط بالإلهي، والهبوط يرتبط بالبشري والجسدي، وبالتالي فإن الارتقاء والسمو يرتبطان بالروحي ، ومحرك الارتقاء هو الشوق. هذا الشوق الذي نلمسه في قصص السالكين متخذين من العشق وسيلة للمعرفة كمجموعة منطق الطير الرمزية للعطار والتي أعدها بيتر بروك عرضاً مسرحياً، وخلاصتها أن الطيور تقرر السفر (الارتقاء) إلى ملكها السيمرغ (الله) بقيادة الهدهد، قاطعة الأهوال والوديان السبعة (الأحوال والمقامات) عند المتصوفة لتصل إلى الحقيقة ، ويتساقط بعضها في الطريق خلال الرحلة، وأما من يصل منها فإنه يحترق في الأنوار الإلهية ليجتاز وحدة الشهود حيث لا يرى إلا الله، إلى وحدة الوجود عائداً ليرى الله في كل شيء.
هذه الرحلة بقسميها الأرضي وهو الإسراء، والسماوي وهو المعراج، هي ترجمة مكانية للعلاقة بين البشري والإلهي، وتوق الإنسان المتطلع إلى الكمال المطلق، الإنسان الكامل، وهي تختصر وتنطوي على رموز الرحلة الكبرى للوجود البشري على وجه الأرض في محاولة استعادة مكانته التي خسرها باقترافه الخطيئة الأولى.
إن النظرة الإيمانية، التي يكون الإسراء والمعراج مظهراً لها، ومعبِّرا عن آفاقها وتطلعاتها، تقوم على حقيقة كبرى تحددها العلاقة في الإلهي والبشري، وبينهما نزوع ارتقاء، وشقَّا هذه الحقيقة نجدها في الشهادتين، وفيما تطرحه الفلسفة الإسلامية في الوجود حول الحق والخلق وحول واجب الوجود وممكن الوجود. وبذلك لا يكون الموت هو البوابة المرعبة كما في الميثولوجيات القديمة للعبور إلى عالم الرعب المجهول، لأن ما يقرُّ أخيراً في خلد الإنسان العابر للحياة هو أن الموت نقلة فرحة من حياة إلى حياة، ودخولٌ في عالم سماوي تتحدد درجة بهجته أو عدمها من خلال أعماله الدنيوية، ولهذا فإن الموت تسبقه دائماً مشاعر مختلطة بين الرهبة من المجهول والتوق لتحرر الروح اللطيفة من كتامة الجسد ليتحقق الاتصال المنشود، وبما أن الارتقاء الفعلي إلى الله والفناء في صفاته لا يتحقق بناسوتية الجسد وغسقيته كان لا بد من وجود مؤسسة الموت، وما الحياة الدنيا إلا نقطة ارتكاز للقفز فوق نظام الأشياء والانطلاق إلى عالم السماء عبر الحياة الآخرة، وهكذا تتحرر الروح وتعود إلى محلها الأرفع الأول.
الهبوط في الميثولوجيات القديمة يحدث بعد الموت، أما في النظرة الإسلامية فإن هذا الهبوط حدث منذ الأزل من قبل أن تسكن الروح الجسد، أما ما يعقب الموت فهو ارتقاء وتحرر من أسر المادة لتعود إلى عالمها العلوي.
اليوم وبعد الانتكاسات التي نعيشها والتي سبقها تحلل من القيم الوطنية والقومية والاجتماعية بدعاوى الحداثة وما بعدها، المنقطعة المستوردة، وبعد غزو العولمة واللا انتماء والعدمية لكثير من شبابنا أصبحت العودة إلى البحث في التأصيل بالنسبة لنا كمسرحيين أمراً ضرورياً. وقد كتبتُ هذا كجزء من مقدمة لعمل درامي منجز لي عن رحلة الإسراء والمعراج ينتظم في فن الـ (سي/مسرحية)*.
* مزيج من المسرح والسينما