المسرح نيوز يقدم ..ركن « سؤال الراهن » الكاتب والمخرج البحريني خالد الرويعي: المسرح ليس بيئة للاستعراض المجاني وليس محطّة للتسابق في الريادة التكنولوجيّة
حاوره: حامد محضاوي/ تونس
المسرح نيوز ـ القاهرة| حوارات
ـ
ركن « سؤال الراهن »
فكرة وإعداد: حامد محضاوي
إشراف: صفاء البيلي
« خالد الرويعي »
ركن ينتمي لجدارة السؤال في السياق المسرحي الحالي، لا يبنى على أرشفة التصنيف أو أحاديّة الإقناع. ركن يبحث عن حقيقة؛ هناك حقيقة وهناك الحقيقة بأل التعريف والسعي نحو حقيقة ما، وليس الحقيقة. وبهذا المعنى فهي معرفة نسبيّة دائما ولكنّها تتضمّن بذرة من المطلق دون أن تكون هي المطلق. هي كما يقول إدوارد الخرّاط: ” حقيقة تظلّ دائما أيضا نسبيّة بمعنى أنّها ليست نسقا في الفن فلسفيّا أو معرفيّا كاملة “. بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إجابة شاملة ومحيطة بالمعنى ككلّ. هي دائما – كما أرجو – ذهاب إلى أعمق فأعمق بدون الوصول إلى تشكّل راكد. من هنا أرى « سؤال الراهن » كرافعة لتنضيج المعنى الإشكالي، ورسم مآل متشابك للرؤى المسرحيّة، وليس تجميعا مسقطا للهواجس والتعاريف. لست أظنّ أنّ من مهام المسرح أن يضع حلولا أو يجيب عن أسئلة، مجرّد وضع سؤال في السياق المسرحي هو كلّ ما أسعى إليه عبر هذا الركن.
ركن « سؤال الراهن » محمل تساؤلي عبر جملة الأسماء المتدخّلة، في إطار تثمين التشبيك اللحظوي من خلال تيمات « الراهني » و « الآن وهنا » ابتعاد عن الإخبار الصحفي واقتراب من جدوى التفكّر في السياق المسرحي. عبر أسئلة عشر تطرح لكلّ ضيف نحاول بناء لحظة جدليّة نافذة وفاعلة في رهان التشكّل العام.
يسرّنا في هذا الركن استقبال المسرحي البحريني
« خالد الرويعي »
في مساحته الحرّة بين الذات وتفاعلها الراهني في الآن وهنا.
من أنت الآن في المسرح؟
أنا الذي أحبّني الناس به، وأنا الذي اختلف حولي ومعي الناس فيه، أنا حبّة رمل في فضاءه، وهبني الحياة حتى لو أعطيته الحياة.. علّمني معنى أن تكون انساناً بفضل الشخوص التي مثّلتها وحاورتها، علّمني كيف ترتقي بانسانيتك وتحب الناس فيه وتغفر لهم وتعاتبهم وتناضل من أجلهم لأنّ المسرح حياة.
ما مضى منك في المسرح: ما بقى وما سقط؟
لم يمض منّي شيء؛ فهو في كلّ يوم يلهمني ويعطيني ما لم أتوقع، يدهشني كأنّي اُولد من جديد، أنا ممتن لهذا الكائن العظيم الذي اسمه المسرح.. كلّ يوم أقع في حبّه من جديد كأنّي أتعرّف عليه للمرة الأولى، ولا يعجبني أن اُسطر تراجيديا العطاء فيه حقه. أنا أحبّه لأنّه يعطيني الكثير ولم يأخذ منّي شي. أخذ منّي وقتي؟ وفكري؟ وشغفي؟ صحيح.. لكنّي كنت في أعلى درجات التجلّي والشغف.
في الراهني الآن، ما هي درجات التمثّل الجمالي التى تراها قادرة على بناء العرض المسرحي بأبعاده المختلفة؟
الدهشة أن تقول (الله). هذا هو التمثّل الجمالي. والدهشة عند صانعي العرض المسرحي عندما يمارسونه سيصلني حتماً.. الدهشة بأبعادها المختلفة. أن أترجم الحلم إلى عرض مسرحي، كيف ذلك؟ لا أعرف، هذا هو المسرح أن أرى الشخصيّة عارية المشاعر تقبض على أحاسيس الجمهور ودهشته. هذا هو المكوّن الجمالي، أن أرى الليل يسبح عارياً من دون نجوم، أن أرى القمر في خاتم ليلى وهي تحتال على قيس بأن زدني شعراً، أن أرى الناس تبكي جمالاً لهول المشهد… هذا هو الخلق الجمالي.
في الآن وهنا، ما هو انطباعك على المعطى المسرحي العربي الحالي في مستوياته: الجمالية والأكاديمية والهيكلية؟
لا أريد أن أسطر اعترافات أو أشحذ السيوف أو أعد التوابيت أو أغرس في المستقبل خنجراً ظنياً، أحلم بالإصغاء فقط، بالحوار، بمساحة خضراء نؤثّثها بتبادل تجاربنا، بأن لا نخشى الفشل. نريد أن نخطأ بحريّة، أن نقع في فخ الجمال. التجربة العربيّة تعيش تحت وطأة الشكوى – وهذا مبرّر – وتعيش تحت وطأة المسرح الأصولي والدرس الأكاديمي ما زال في القوالب. نحن بحاجة الى انتفاضات على المستوى الشخصي أوّلا ثم على المستوى المجتمعي. الاستسلام الآن لدرس الوهم لم يعد ممكناً. وهم أنّنا ما زلنا بخير. وهم المسرح النخبوي والجماهيري والتجاري والأكاديمي. كلّ تلك التوصيفات مجرّد أوهام من أجل تبرير الانغلاق. ما زلنا نعطي المتفرّج جرعة ما يريده هو باعتباره كاهن الزمان ونحجر على تجاربنا باعتبارها نخبويّة وكأنّ المتفرّج من كوكب آخر… الانتفاضة في المفاهيم والرغبات كلّ ذلك ممكن الآن.
في الراهني الآن، مدى وجاهة التطوّر في الاشتغالات الحالية للذائقة المسرحية العربية مقارنة بغيرها؟
كما ذكرت سابقاً، الذائقة تقبع في القالب حاليّا، قالب التوصيفات؛ ولذلك ليس لدينا تراكم معرفي حقيقي. مجتمعاتنا العربيّة تعيش حالة من الفصام في الذائقة، وكلّ ذلك يغلب على بعضه؛ الشأن المعيشي والسياسي والاجتماعي والتفكير فيه يبعدنا عن تشكيل ذائقة واضحة، ولأنّ المسرح يعيش الإنسان ومع الإنسان لذلك تجده يتأثّر بسهولة إذا غاب الوعي.
في الآن وهنا، أي درجة تُخرج فيها الوسائط التقنية والتكنولوجية العرض عن كونه مسرحا؟
أعتقد المسرحي الحقيقي لديه حساسيّة عالية تجاه أي تطوّر في الحياة. الاستفادة من التطوّر العلمي وما يحيطه أمر مبرّر ولكن ليس بالجهل تجاه الأشياء. المتفرّج الآن ومع الغرق التكنولوجي لديه ما يدهشه ولكن ليس لديه ما يثير حساسيّته الإنسانيّة تجاه الدهشة.. المتفرج مسلوب تكنولوجيا والمسرح يضبط الميزان. المسرح ليس بيئة للاستعراض المجاني وليس محطّة للتسابق في الريادة التكنولوجيّة. بالأمس كانت الإضاءة تطوّراً تكنولوجيّا حتى أصبحت شيئا مسلّماً به من عناصر العرض المسرحي. وهكذا هي الحياة، ولكن الأهم من ذلك هو الوعي وقياس مدى تأثير ذلك على الإنسان.
في الراهني الآن، مدى أهميّة التنظير المسرحي وحضور المعطى الفكري والفلسفي والثقافي في مدى الفعل المسرحي القائم؟
مسرحياً.. هناك فجوة بين التنظير المسرحي والمسرح بشكل عام؛ هناك قواعد انطباعيّة وضعها المسرح الأصولي، هناك جفاء بين الفكر والفلسفة في المسرح. هناك من يقبع خلف الكواليس الأكاديميّة وليس المسرح. النقد المسرحي لم يعد قادراً على اللحاق بالمسرح، ولذلك فإنّ المسرح يقبع في دائرة التكرار والانتهاء. التجربة المسرحيّة لا تستمرّ لدينا وهذا يعطّل المسير. انشغلنا بالمصطلح في أحيان كثيرة ولم ننشغل بالسؤال حوله وحول تحدّياته وتحدّيات المسرح بشكل عام، حتى باتت العزلة شائكة أكثر؛ فانشغال المسرحيّين بالتقليد وإن كان في شكله حداثياً أبعدنا عن المسرح الجديد. انشغلنا باشتراطات المهرجانات ورضا النقّاد والجماهير، انشغلنا بالتعليقات على الفيسبوك حتى بتنا ذاتاً استهلاكية. منذ أن سنّت شبكة فيسبوك التفاعليّة فكرة الاعجاب على ما يقوم به المرسل من قبل شبكة الأصدقاء أو الزوّار أصبح رمزاً الآن باعتباره ثقافة للإعجاب والتقدير.
لكن، هل سألنا أنفسنا: لماذا نضع هذا الرمز ولماذا؟ أم هي حالة الاستهلاك التي تجرّنا لممارسة هذا السلوك لا إراديّا، بطبيعة الحال وضمن منظومة الانغماس التي وقع فيها الكثير لم تعد مسألة الاعجاب حالة نزيهة تنم عن الجمال أو الثقة أو الصدق كما هو الحال في عدد المتابعين، ذلك أن الحالة الاستهلاكيّة التي نمرّ بها هي الحالة العبثيّة المريضة التي دمّرتنا بها وسائل التواصل حتى أعمتنا عن النظر بتمعّن أمام ما يحدث، فغدت هذه الوسائل مجرّد مجالس الكترونيّة تحاول أن ترضي فلان على حساب فلان.
لكن الضغط على زرّ الاعجاب ليس بهذه السهولة، فهو الدرب الأصيل لإنتاج مصنع التفاهة؛ فليس بمقدورنا الآن أن نحكم لماذا هذه الصورة تنال كلّ الاعجاب مقارنة بصورة أخرى، يرجع ذلك إلى سبب مهمّ، وهو ما أنتجته الأفكار الالكترونيّة من حالة استهلاكيّة في سلوكنا، فلم يعد مهمّا بالنسبة لنا أن نسأل لماذا أضغط زرّ الاعجاب، إنّه مصنع التفاهة الذي يقودنا لحتميّة المجاملات حتى تتضخّم الأنا بكثرة المعجبين.. لا لشيء سوى لأنّنا لم ندرك المعنى الأصيل للذائقة حتى غدا المحتوى العربي أمام خراب قادم. لتدركوا حجم هذا الخراب راقبوا سلوك مدمني وسائل التواصل في حياتهم العاديّة وستكتشفون التشوّهات التي أحدثتها حالة الاستهلاك. إنّها الأصوليّة في ثوبها الجديد.
في الآن وهنا، قيمة الجدل في الساحة المسرحية تعود لاختلاف الرؤى المسرحية أم لبناء الصفة الذاتية والتموضع؟
أي تمثّلات لهذه أو تلك؟
عربياً.. وفي نزاع مستمرّ حول الريادة يتجاوز المسرح العربي المائة عام. ولانعدام البحث الاستقصائي لدينا فإنّنا لا نملك وثيقة بحثيّة تقرأ لنا ملامح التطوّر والتأثّر في المسرح العربي. لا نملك خارطة عمريّة تصنّف لنا أجيال المسرح ومدى تأثيرهم في محيطهم العربي. لا نملك قراءة للمجتمع المسرحي ومدى اسهامه في حركة الجيل المسرحي. لا نملك تبياناً لمواطن الكلاسيكيّة في المسرح العربي أو تمرّدها لاحقاً على من سبقها. لا نملك مواطن المسرح الحديث أو الطليعي وكيف أثّرت هذه الحركة أو تلك في مسار المسرح في البلد الفلاني. هذه القراءة نفتقدها حقيقة.. نفتقد الجدل لأنّنا لا نغادر التموضوع ونخاف مغادرته.
في الراهني الآن، أذكر لكل من هؤلاء وصيّة: المخرج، الممثل، الكاتب المسرحي، الناقد، المتلقي، الهياكل المهتمّة بالمسرح؟
أعتقد أن الحوار هو الوصيّة الأولى والأخيرة.. إن ما يميّز المسرح عن غيره من الفنون الإنسانية أنّه قائم على دربة الحوار والاصغاء. فالعادة جرت أن تأتي مفردة الحوار كشرط انساني لأصول التعايش بين الناس، ولكن الحوار بمعناه الحقيقي يؤصّل لمفهوم تبادل الخبرات أيضا؛ إذ أنّني لا أفهم حقيقة معنى (الحوار) إذا كان البعض ذاهباً إليه غير مستعدّ له في الأصل.
فالحوار – وهو بخلاف فنّ الممكن لدى الساسة – يقتضي أدوات جديدة لمراحل مختلفة ومستقبليّة، وعادة ما يلجأ الناس إلى الحوار من أجل صياغة هيئة المستقبل، إذ لا يمكن تفادي الماضي من دون اقتراح مستقبل نعرف من خلاله إلى أين نتّجه.
في الآن وهنا، هل يمكن من سؤال الراهن استشراف ممارسة المسرح في المستقبل؟
ربما أتحدث هنا عن الثقافة كممارسة أكثر شموليّة وباعتبار المسرح فعل ثقافي، ولذلك أعتقد أن هناك خطوطا عريضة ومتشابكة نظنّها بعيدة عن الواقع الثقافي إلّا أنّها من صلب عمليّة الصناعات الإبداعيّة، فالمكاتب التجارية والمطاعم والمقاهي تستمدّ تميّزها من هندسة المكان الداخليّة أو ما يطلق عليه بالتصميم الداخلي، فاللوحات وألوان المقاعد وطريقة الدخول وأزياء العاملين كلّها ترجع في الأساس إلى عالم الفن والابداع وهو جزء أصيل من الثقافة.
فالثقافة قبل كلّ شيء هي نبض المجتمعات وسلوكه، والثقافة بحاجة على الدوام لمن يقرأ واقعها ويدرس تأثيرها من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، اجتماعيا يؤثّر الفعل الثقافي على سلوك الفرد بسبب التأثير الجمالي الذي تحدثه الثقافة؛ فالمسرح كونه عملاً جماعياً يقوّم السلوك، الفنون التشكيليّة تربّي في الفرد حسن الذائقة والالتزام بالبيئة، الكتابة تكرّس اهتمام المجتمع بهويّته الثقافية والاعتزاز بها، الموسيقى تخلق التوازن.. كلّ تلك التوصيفات إنّما هي ملامح بسيطة لأهميّة الفنون ناهيك عن تأثيرها المباشر تربويّا وسلوكيّا.
عربياً.. ما لم يكن الاقتصاد محفّزاً للمشاريع الثقافيّة فلا يمكن التنبّؤ بالمستقبل. ولذلك أجد أنّ الاقتصاد أمام مائدة من المشاريع، حيث باستطاعته استثمارها من دون تشويه المعنى الأصيل لفعل الثقافة، فالمراكز والصالونات الثقافية باختلاف أنواعها ودور العرض المسرحيّة ومراكز التدريب الفنيّة وصالات الفنون التشكيليّة وقاعات الموسيقى ومراكز الحرفيين.. كلّها طعماً سهلاً لتدوير عمليّة العرض والطلب واستثمار هذه البيئة للترويج.
والحق يقال لا يمكن مقارنة التأثير الثقافي بالتأثير الاقتصادي، ذلك أن عقليّة الفرد لا تدرك سوى قيمة المبالغ في الحساب البنكي آخر الشهر، والعقليّة التي تريد رؤية التأثير التنموي أو الاقتصادي بشكله السريع لا يمكن التعويل عليها لبناء قوّة اقتصادية ملهمة وهو بالضبط ذات المعنى عند الحديث عن الثقافة، فالثقافة ليست مرطبات أو مشروبات غازية أو عمليات تجميل، ولكنّها الطريق الأمثل لنمو المجتمعات بعد سنوات عديدة ولا يمكن قياسها بالجلوس خلف طاولة الاجتماعات.
محصّلة هذا كلّه هو الحاجة الملحّة لتنمية الواقع الثقافي وايجاد مسيّرين ومستشارين لبلورة رؤية عمل موحّدة تخصّ الحقل الثقافي الخصب واستثماره لتنمية أجزاء مختلفة من الواقع الاقتصادي والسياحي والاجتماعي.
إنّ تنمية حسّ الابتكار والإبداع عن طريق الثقافة هو المؤشّر الأمثل لتصحيح مسار التعليم ومخرجاته وبالتالي هيمنة هذا كلّه على الواقع الاجتماعي والاقتصادي.