الناقدة أمل ممدوح تكتب عن العرض المغربي “خريف” .. كسر دائرة الذبول”
المسرح نيوز ـ القاهرة ـ دراسات ومقالات | أمل ممدوح
ناقدة مصرية
ـ
كدودة زرقاء شاحبة تحيا على الأعشاب الشحيحة للأمل..تعطبها عند الأعتاب؛ يسري الإحباط، فماذا لو هاجم جسدا لا يقو على الاستواء يتآكل يأسا كأوراق الخريف؟ هذه الصورة التقطها عرض الدراما الحركية المغربي “خريف” لفرقة أنفاس، دراماتورج وإخراج أسماء هوري وتأليف أختها فاطمة هوري عن تجربتها الشخصية مع مرض السرطان، فيتسلل العرض إلى عالم ونفسية امرأة مريضة بالسرطان حيث هوة من الفزع والضعف تعمل في زمن داخلي هاجسي خاص لا واقعي خالص؛ تتسع مبتلعة محاولات وصفها بالكلمات ليكون هنا التعبير الحركي أفضل الخيارات للتعبير الاستبطاني عن عالم نفسي مكثف بمنمنمات رقيقة حادة مشوشة معقدة ومتناقضة الصراع.
مع أول لحظات العرض وفي مشهد أراه أقوى مشاهده؛ تجذبك حالة شديدة الرهافة والعمق حتى الفزع، بصيص إضاءة صفراء وسط سواد يتبع امرأة ذات شعر أصفر قصير ترتدي فستانا أحمرا ممسكة ورقة بيضاء، تمشي مطأطئة الرأس والجسد توشك على انكفاء تتابعها موسيقى دَوّامية تتابعية تضج شجنا مع حركتها الآلية المتهالكة بملامح شاردة ذاهلة مختزلة يأسا وتيها موجعين، تمشي في سكون وتسليم بخطى ضيقة كمن تدفع بلا توقف لكنها أقرب للوقوف أو السير على شريط متحرك، تسير يمينا ويسارا بلا وجهة ثم تتأمل الورقة فزعة لتلقيها وتلتقطها ثم تمسكها في أوضاع متشنجة كما لو كانت جزءا منها تتصور معه فتشخص وضع فرجة ساخرعلى وجعها بأدائية آلية مهانة، هكذا من أول لحظة حملت بطلة العرض “سليمة مومني” ثقلا تعبيريا على أكتافها ببراعة وصدق وحساسية بديعة محملة جسدها وتعبير وجهها العميق كما استمر الأمر طاقة كل المسكوت وما يمكن أن ينطق بلا افتعال أو تصنع أو شكلانية سطحية، هذه الورقة بيدها نفهم أنها تقرير طبي بدأت به الحكاية..تلتقطها وتطبقها بقبضتها لتفتح ثائرة خزانة ملابسها تلقي بالملابس خارجها فتفاجأ بامرأة أخرى بنفس ملابسها ولونها تقف خلف باب زجاجي في خلفية الخزانة تخرج منه منطلقة لداخل فضاء المسرح، امرأة شاحبة بلا حواجب مغطاة الشعر بغطاء قصير حافية كالمرأة الأولى وفي نفس طولها، وبحركة مستنفرة وبأوضاع مرآوية تكرر نفسها بين المرأتين لكن باتجاهات متعاكسة؛ وبفتح قبضة المرأة الجديدة وإخراجها الورقة المتكورة التي سبق وكانت في كف الأولى نعرف يقينا أننا أمام نفس المرأة في صورة زمنية ونفسية أخرى.
تقفان على خط أفقي واحد متقابلتان لتبوح مغطاة الشعر نطقا بمقتطفات الحكاية وبدئها..بمرضها وتلقيها له وخوفها منه وألمها وخذلانها من زوج قاس خائن طردها من حياته بينما كانت في أمس الحاجة للاحتواء والأمان..مكررة بهذيان غاضب جملة “بغيت نمشي خلاص نمشي”، فهناك مستويان سرديان للتعبير أحدهما لفظي منطوق تمثله المرأة الجديدة وآخر صامت حركي نفسي تمثله المرأة الأولى..فهما ترديدات بعضهما، مع مستويات أخرى يتبادلان تمثيلها بين الزمن السردي الآني والمتذكر..الواقعي الخارجي والنفسي الداخلي بما يستتبعهما من مستويات حركة مباشرة تمثيلية للحدث وشكله أو باطنية دلالية لانعكاسات نفسية للحدث المروي، ليتم مزج بعضهم معا أحيانا أو تبادلهم بين المرأتين بين لحظة وأخرى فتعبر إحداهما عن شكل الحركة الظاهري للسرد اللفظي والأخرى عن مردوده النفسي أو تتخذ إحداهما موقف الفاعل والأخرى المفعول به، لتعكس هذه التبادلية والتحولات اللحظية في المستويات السردية حالة الصراع والتشظي التي بدأت بانقسام لاثنتين تطور بصريا لتشظ أكبر فيما بعد جاء صادما إلى عدة نساء جئن من الخارج بنفس الملبس واللون والطول تقريبا..كترديدات لنفس واحدة أو نماذج لحالات مشابهة تتكدس في وحدوية متشيئة. أثناء هذه التجسيدات السردية استخدمت رمزيات بسيطة موفقة ومعمقة للتعاطف والفكرة؛ كرسم دائرة في منتصف المسرح تجسد وتضيق حالة الحصار النفسي الذي رسمته من قبل الإضاءة دائرية البقعة تقريبا وكالكشف الحاد الصادم عن صلع المرأة تحت “باروكة” شعر كانت تبدو طبيعية أثناء تحدث المرأة بلا حواجب عن أهمية شعر المرأة، وكربط هذه المرأة الناطقة لثديي المرأة الصامتة بعنف برباط طبي إشارة لاستئصالهما حين نكتشف مرضها بسرطان الثدي، وتجسيد إحدى مراحل المرض بالقيء والألم وإظهار ازدراء الزوج وإلقائه لها بأشرطة المناديل الورقية التي تدور في دوامتها ألما، ليتطور الأمر من التماهي مع معطف الزوج/ الرجل وارتدائه واحتضانه وتشممه حنينا وندءات احتياجه إلى تقاذفه بأرجلهما حتى تركه بالتعافي النفسي في نهاية العرض وحده مهملا وسط ظلام آت وإن كان على كرسي في وضع مركزي. كل ذلك قدم بتعبير حركي شديد التوفيق والحساسية وبتنوع جذاب وإيقاع منضبط ضاج بطاقة الأحاسيس الكامنة، وهو ما جعل التعبير اللفظي يبدو تحميلا عليه وإفسادا لبلاغته وعمقه خاصة مع نص شديد المباشرة ليس به جماليات سردية أو حتى أدبية مما يجعلنا نسمع كثيرا عبارة “لأقصى حد” كتعويض للفقر التعبيري برغم صدق مكنون النص، مع تفاصيل مثقلة بعيدة كان يمكن الاستغناء عنها كالحديث عن تقرير المرض وبعض أوصافه العلمية، فماذا لو أضيف الشكل الأدائي الهستيري المرسوم للبطلة الناطقة “فريدة بوعزاوي”رغم جهدها وإجادتها لانفعالاتها بعمق؛ الذي كان غاضبا معظم الوقت صارخا مليئا بالحوار والحدة مما يقلل ما يقصده من تعاطف وحنو بدرجة ما ويخفض ما تبنيه الشخصية الصامتة من عمق، وكان الأليق إن لزم وجوده أن يُرشّد ويقل كثيرا هذا الأداء اللفظي الانفعالي، وهو ما تسبب من جهة أخرى في إضفاء حالة أعطت قصدية وافتعالا لقضية نسوية بينما كان ترك العرض بسلاسة تعبيره الحركي العميق والمرور الهادىء بشذرات الحكاية أكبر وقعا وأقوى تأثيرا.
وللحديث عن السينوغرافيا وقد صاغها رشيد البرومي مع الموسيقى كمؤلف وعازف مع أسامة بورواين وقفة مستحقة؛هنا فضاء مسرحي ببقعة إضاءة خافتة دائرية تتراوح في درجاتها الحساسة بتصميم رضا عبدلاوي من شحوب أزرق أو اصفرار خافت أو أكثر سطوعا يحدد الأشياء والألوان، حالة دائرية شاحبة كدوامة هذه النفس المنكسرة، في وسط الدائرة كرسي أبيض في وضع مركزي لم يتحرك يزيد الإحساس بالدائرة وكم أحسن استخدامه، وفي منتصف الخلفية يجثم مستطيل أبيض مصفر”خزانة الملابس”يزيد حالة الارتباك والشحوب مضفيا قسوة وصرامة على الدائرة بما يحيلنا معه لحالة الذكورة إزاء الأنوثة ( الدائرة)، وعلى الأرض قطع ملابس متناثرة توحي ألوانها بأوراق الخريف ونفهم أنها قصاصات تقصها البطلة من ملابسها كتآكلها، تظل باقية طوال العرض حتى نهايته حيث تجمعها البطلة الصامتة بحرص تنتقي به كل قطعة صغيرة متطرفة دون أن تلحظ معطف الرجل في المنتصف، وذلك بعد بدء ترميمها نفسيا والتئامها بدخول كل صورها النسوية داخل الخزانة وبدء تسلل البسمة والطاقة المتحررة لها تاركة فقط معطف الرجل في الدائرة وقد ألقته على الكرسي بلا اكتراث في حين تدخل مع ذواتها المنقسمة في خزانتها (المستطيل) كدلالة التئام ولقهر خوفها في مشهد بديع الإيحاء والقوة، وتكتمل الحالة التشكيلية البلاغية بالملابس الحمراء للبطلتين والجوقة في تضاد مع اللون الأزرق للأرضية يجسد حالة الصراع بين المرأة وعالمها ومحققا إيقاعا بصريا جماليا في نفس الوقت، بتصميم موفق لأمينة البحراوي يعكس رقة وزهدا لا يجسد أنوثة ولا ينفيها تماما، كل ذلك مع موسيقى على العود حية عذبة شجنية قوية الحضور التعبيري متسقة مع دراما العرض بتنويعات ملفتة اتصاحبها الطبول أحيانا..لا زحام ولا ثرثرة رغم ثراء التفاصيل في تشكيل هذا العرض المرهف وحالته الخريفية شفيفة الحزن التي اختارت نهايتها الباسمة بلملمة هادئة لبقايا الذبول وأوراق الخريف.