الناقدة البحرينية زهراء المنصور تكتب عن: المتن والهامش في الندوات النقدية المسرحية!
المسرح نيوز ـ المنامة| زهراء المنصور*
ناقدة مسرحية وباحثة| البحرين
ـ
جرت العادة في المهرجانات المسرحية العربية أن تُقام ندوة نقدية بعد العرض المسرحي مباشرة, يعين فيها معقب رئيسي من ذوي الاختصاص, يقرأ فيها العرض قراءة بصرية كاملة مستنيرة لجميع عناصره, مع إقران القراءة بأمثلة ومقاربات تسهل نقل الرأي للجمهور. لذا، لابد أن يمتلك الناقد المسرحي أدواته ويتحكم بها في هذه القراءة المستفيضة للعرض، حيث يمنح –غالباً- مفاتيح النقاش، وتبادل الآراء بين الجمهور ومقدمي العرض؛ من مؤلف، ومخرج، وممثلين، وفنيين, حيث تتاح الفرصة للحديث عن العرض، أو الرد على التساؤلات التي جاءت من خلال الآخرين الآتين من باب التخصص، أو المتابعة للعروض المسرحية, فتأتي الآراء -بطبيعة الحال- متباينة بين التحليل والانطباعية، وما بينهما يقع الكثير من الالتباس، والمسئولية، والشخصنة، وتبادل الاتهامات أحياناً إلى مكان بعيد عن العرض المسرحي!
ما أود الإشارة إليه معنيّ بركائز أساسية في العملية الإبداعية بالمسرح, وتحديداً فيما يتصل بالجانب النقدي الذي يتخذ شكلين في الغالب: منصة الندوة النقدية المشار إليها, أو الكتابة لاحقاً في النشرة اليومية التابعة للمهرجان/ الصحف، أو ربما مجلات متخصصة تهتم بهذا النوع من المواد, في مزامنة وتكامل للعرض المسرحي, التي توضح المسئولية الواقعة تحت طائلة الناقد، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من العملية الإبداعية لأي فن. ويسرد لنا التاريخ ضياع توثيق مهم للعروض المسرحية التي لم يُكتب لها نقد أو تحليل, واعتمد المؤرخون المسرحيون على تحليل الشذرات التي تتعلق بنشر خبر أو ملصق للعرض, وقد يقترب التحليل من الحقيقة، أو يبتعد عنها كثيراً, وفي الحالتين لا يمكننا الجزم القاطع بالتاريخ البعيد. بينما تحيلنا النقود التحليلية إلى تكوين تراكمي/ حقيقي عن عمر التجربة، وفحواها، ومدى أهميتها في القياس للدراسات المرتبطة بتطور ونمو الأفكار والاتجاهات في فرقة مسرحية على سبيل المثال.
وفي الوقت الذي تكون للنقد فيه حظوة مقدرة، يتم فيها تخصيص برامج مكثفة في الفعاليات المسرحية المختلفة من مهرجانات وندوات فكرية, مال فكر بعض القائمين على هذه الأنشطة إلى تهميشه وتقنين وقت الندوة النقدية، أو ضم أكثر من عرض مسرحي لمناقشته، مما لا يتيح المجال تماماً للتأني والمناقشة الهادفة المرجوة من إقامة هذا الحوار أصلاً, إلى أن تم إلغاء الندوة النقدية على سبيل التخلص من الزوائد أو الكماليات!
ولنترك بعضاً من جانب العداء المتحفز الذي يكيله طرفا العملية النقدية؛ المبدع، والناقد. في الظروف العادية -لدينا في الوطن العربي تحديداً- ناقد يعي سلطته في الحكم على العرض المسرحي, في تطبيق الصورة الذهنية العامة والسيئة بالطبع عن الشخص، الذي يلتقط الأخطاء بشكل فاحش ليعرضها أمام جمهور انتهى للتو من مشاهدة العرض, وقد تساهم أو يكون لها أثر سلبي على الحضور, كما القائمين على العمل، الذين تكبدوا العناء ليضيع كل هذا في رأي حاد وصارم -ولازالت أتحدث عن الصورة الذهنية العامة والمسيئة أيضاً لشخص الناقد-, فيما نجد في مواقع أخرى تحتفي بالمنجز النقدي كما المسرحي تماماً، من منطلق مؤمن بأن العمليتين متوازيتان، وتكملان بعضهما في الأجواء الصحية التي يقدم فيها العرض، ومن ثم يتاح الرأي المتخصص الذي يخدم فيها العرض، ويوثق له بمرور الوقت, وهو مختلف عن المادة الإنشائية الصحفية التي توضع في الصفحات الفنية أو الثقافية عن سرد أحداث عرض مسرحي، والمديح الشخصي، بلا مسوغ للمتلقي/ القارئ عن أبطال العرض, فتختلط الصفة الصحفية المعنية بكتابة أخبار النجوم، والبحث عن المانشيتات”، بالصفة النقدية المفصولة عن الأجواء، والمفترض فيها الكتابة بحيادية التخصص وحسب. لهذا، لازلنا نتراوح في مربع الهواية، وسيكون من الصعب تقبل أن هناك معايير فاصلة بين التسلية والعمل الجاد في المسرح.
إن أزمة تلقي النقد مرتبطة بالحالة الشعورية عن الكائن الطفيلي البغيض، صاحب السلطة الممنوحة له عبر دراسة معمقة متخصصة, أو خبرة عملية بالمسرح، أو اسم مقرون بالصحافة الفنية العامة، والتي من ضمنها التغطيات المسرحية. ولا يمكن الجزم بأهمية العطاء في المجال النقدي، إلا في الاطمئنان للرأي النابع من المحايدة، والركن إلى القواعد والنظريات والأساسيات في المسرح -رغم عدم ميلي الشخصي إلى الالتزام الحاد بها، وإمكانية المزج بين أكثر من منهج ومدرسة داخل اللعبة المسرحية إذا استدعى هذا بالطبع-, بالإضافة إلى الذائقة الفنية التي تعلو مع التجربة والاطلاع, والمشاهدة للمتعة الفكرية والبصرية, وبعيداً عن التصور المثالي بأنه مكان لإطلاق الشعارات، أو مرتبط بالمجتمع بالشدة التي تجعله شرارة لانطلاق الثورات، كما يحدث أحياناً في بلدان اختلط فيها المسرح بالمجتمع، وأخذ دوره التنويري المتوقع للمساهمة في تصحيح الأوضاع.
أيضاً، من أهم العوامل التي تكرِّس للخطأ وتمدحه؛ توقيت الندوة النقدية من بعد العرض مباشرة، والذي يساهم المتحدث الرئيسي فيه بالحكم على عمل استغرق وقتاً غير هين في التدريب، وتكوين كل العناصر المرئية على الخشبة, على أن قليلاً من الوقت لن يساعد على الإعداد الجيد فقط, بل سيدعو المهتمين من الجمهور للتمعن في العرض، وربما القليل من البحث الذي سيظهر بمداخلات بعيدة عن الانفعال والعاطفة المعتادة، والمتراوحة بين أعجبني/لم يعجبني! أما في الظاهرة الحالية، حيث يقوم “المعقب” الذي يسهل تعيينه من خارج المنظومة النقدية ليتحدث بالطلاقة “اللغوية” المطلوبة عن عرض تفرج عليه مع الجمهور قبل قليل, وفي أحيان محدودة يطلع على النص المسرحي، فيشغل الوقت بمحاكمة الورق وقراءة الأفكار التي وردت في النص الأصلي، والذي ربما يكون نفذ كما هو, ومعظم الأحيان حسب رؤية المخرج، أي أن هناك “نص المخرج” الأجدى بمناقشة فكرته وما ورد في عرضه بصرياً، وليس بشكل انطباعي كما تشي قراءة النص، ومن ثم المشاهدة الوحيدة مع بقية الجمهور، وقبل الندوة مباشرة, وهو أمر يدعو بعض المعقبين إلى الاستعانة بمحركات البحث السريعة, والتي تتضح من القراءة المرتبكة والمشبعة بمصطلحات وأسماء يصعب على غير المطلع في المسرح استيعابها، إلا في سياقها، مع الإشارة إلى المعنى, الأمر الذي يشير إلى “رأي انطباعي” وليس نقداً, لأنه عائد إلى أهواء ومزاج في تقبل العمل وفق الذائقة الشخصية، دون الاستناد إلى أسس موضوعية ترفع العرض أو تسقطه وفق المعايير النقدية,
في حين أن التحضير المسبق والمسئول يخلق للناقد الحقيقي نصاً خاصاً موازياً، رغم اعتماده على نص آخر بالأساس، كما أشار إلى ذلك أستاذ النقد الراحل د.نديم معلا (1949-2014م), وأكد عليها أيضاً المؤلف المسرحي السعودي فهد ردَّة الحارثي في ورقته المشاركة بالندوة الفكرية الأخيرة لمهرجان الكويت المسرحي التاسع عشر، حين أنصف دور الناقد، برغم أنه ربما يكون خصم الحارثي “التقليدي” المؤلف، الذي بالضرورة جلس مراراً في كرسي الاستماع والدفاع عن النص/العرض من قبل نقاد متعددين، عدَّد أسماء بعض منهم في ورقته، من أمثال الناقد المصري سامي خشبة الذي التقط الفكرة في مسرحية “الفنار” كما أراد لها المؤلف, في حين أحال الآخرون الحدث إلى البيئة المحلية الخليجية والأسطورة حسبما أوحت لهم أحداث المسرحية, في توضيح أن الناقد المتمكن لا يتكأ على الإحالات السطحية السريعة التي قد يهرع إليها الآخرون ضمن تطابق أفكار مسبق أو موحٍ، دون التفكُّر في تفكيك العرض من خلال الزوايا التي لم ينتبه لها أحد.
فالإشارات التي قد تحيل العرض إلى منطقة مختلفة تجعله -حسب الحارثي- “…ماثلاً أمام نصه في حين آخر، يدرس حالة النص النفسية والذهنية، وقد يصل لحالة الكاتب نفسه، يبحث في الدلالة، والإشارة، والعلامة، والنسق، يقرأ أفق النص، فيرشد الكاتب لمناطق لم يكن يدركها أثناء كتابته، ولا حتى بعدها، ولولا هذه القراءة لما وصل لها. إنه المبدع الثاني لنص المبدع، والناقد بوصفه مبدعاً ملهماً يكون دوماً صاحب رؤية وقدرة على قراءة أفق النص..” (1) هذه الإشارات القليلة، وغير المسطحة، عن الدور الأصيل للناقد، والشراكة عبر المساهمة بدفع التجارب المسرحية لإحيائها، حتى بعد مرور وقت طويل من العرض, لن يوقف تصدير الصور البغيضة للنقد، والمتصلة بالسلطة، والتوحش، والسلبية المطلقة, وميل المعنيين المنظمين إلى جعله نشاطاً تابعاً أو هامشياً وغير منظم، أو عادة ممارسة بدون وعي بأهميته المرتبطة بارتقاء الوعي الجماهيري الذي قد يمهد لصحوة مسرحية تنفض التقليدي، ولا تبني على أنقاض لإعلاء هذا العِلم المتكامل الممزوج حتى الثمالة بالفن.
الورقة المذكورة ضمن الندوة الفكرية “تكاملية العلاقة بين المبدع والناقد” في محور “العلاقة بين المؤلف والناقد” في مهرجان الكويت المسرحي التاسع عشر, ديسمبر 2018م.