مقالات ودراسات
الناقدة البحرينية زهراء المنصور تكتب عن مسرحية العيارين للكويتي بدر المحارب.. ولا يزال العرض مستمرا
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
زهراء المنصور
ناقدة بحرينية
تعيد مسرحية “العيارين.. العرائس أيضاً يحكمون” نكهة مر وقت طويل على تذوقها، ذلك الطعم الذي شاهده كثيرون، ولازالوا، في مسرحيات كويتية خالدة، قدمت في سبعينيات القرن الماضي، مثل عرضي “حفلة على الخازوق” و”علي جناح التبريزي وصاحبه قفة” اللذين قدما باللغة العربية الفصحى المبسطة، عبر كاتبين عربيين مميزين هما: محفوظ عبدالرحمن، وألفريد فرج، فكسب الجمهور محتوى متقناً ومشاهدة ممتعة، لا يزالان حتى اليوم من النماذج التطبيقية لطلاب كل أقسام دراسات الفنون المسرحية، وأيضاً لمحبي فن المسرح.
اشتغل الكاتب الكويتي بدر محارب على نص “العيارين” في نهاية الثمانينات، لكنه لم يقم بنشره إلا في 2012م، وهذا يعني مزيداً من التعديلات، ومزيداً من النضج المبهج. محارب خريج النقد والأدب المسرحي من المعهد العالي للفنون المسرحية منتصف الثمانينات، مال إلى الكتابة الإبداعية والإخراج أيضاً، لذا فهو صاحب رصيد ذي قيمة في تاريخ المسرح الكويتي، والدراما التلفزيونية أيضاً. عمل محارب في هذا النص على إعادة استخدام شخصية “علي الزئبق” ذات الصيت المميز لدى عموم الشعب، وأحد أشهر الشطار والعيارين في السير الشعبية؛ هذا الزيبق الذي أعاد توزيع الثروة بطريقته، فكيف لا يسعد الناس به، حتى مع إدراكهم لصوصيته التي تصب في صالحهم؟
ويشير الباحثون إلى أن أول إشارة للزئبق -الذي وصف بالفارس النبيل- هو ضمن حكايات ألف ليلة وليلة في مجموعة “حكايات علي الزيبق وأبوه حسن راس الغول وما جرى لهما مع دليلة المحتالة وابنتها زينب النصّابة”(1)، حيث يتصارع والده حسن الغول مع مقدم درك مصر، صلاح الكلبي، الذي يدس السم للأول، ويفوز عليه بالخداع، وتتوالى الحكاية حتى ظهور علي الذي يتحول إلى ذلك البطل الشعبي، الذي ينتهي به الأمر بعدم قبوله منصب قائد الشرطة، خشية أن تغيره السلطة إلى شخص لا يحس بمعاناة الآخرين، والبسطاء منهم تحديداً.
ويمسك محارب بمضمون الحكاية ليعيد تشكيلها في مجلس القاضي ذي “الصاجات الراقصة”! في قضية أرض علي الزيبق التي ورثها عن أبيه، ولكن شهادة الزور والرشاوى والنفوذ قبلها، تعطي الحق للشاه بندر بأخذ الأرض، وجلد البطل، وجلد كل من يعترض على ذلك!(2) الحالة الشعورية بالقهر مشبعة عند علي الذي سرق حقه/ خذله الحمار في شهادته/ عدم قبول شهادة الإسكافي لصالحه/ جلده في العلن، وغلبة الظلم الذي لا يرد، لأنه بفعل القاضي، المفترض أن يحكم عدلاً بين المختصمين/ وعدم مبالاة الآخرين -من المستضعفين أيضاً- لما أصاب واحداً منهم. هنا تولدت شرارة القهر التي تحولت إلى ما يشبه الميليشيات في حدوتته الأصلية، وإلى سلسلة انتقام ظريفة في النص من كل الذين سلبوا حقه وساهموا في ظلمه.
وقبل التعرف على نمط الشخصيات في النص، يهيئ المؤلفُ المتلقي للتعاطف سلفاً مع “الزيبق”، عبر القاضي الذي يظهر محاطاً بحاجبين يربطان صاجات كالتي تستخدم في الرقص الشرقي، في توظيف رمزي لكيفية سير العدالة عند القاضي، وهي نفس الحيلة التي استخدمت في عرض مشروع التخرج للفرقة الرابعة بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدولة الكويت(3)، حين يتوافق شكل الشخصية مع مضمونها في توضيح كيف أن العدالة “تتلوى” أمام كل مصلحة شخصية مع النفوذ الذي يشبهها شاه بندر، عزرا الصائغ وعقيل العطار، في تمثيل للطبقة الرأسمالية المستولية على المناصب والمال، وأيضاً على ما يملكه البسطاء والفقراء، والصراع غير التقليدي الذي يخلق بين أفكار وتوجهات، وليس بين شخصيات حقيقية مقصودة بذاتها.
لجأ بدر محارب أيضاً، من أجل تحريض المتلقي على المشاركة الإدراكية، المتعلقة بفهم المعنى وسط الكوميديا السوداء، إلى طرح قضايا تدور في كل زمان، لأن التاريخ يعيد نفسه من وجهة نظر القراقوزات الرواة، فأدخل بعضاً من الأسلوب الملحمي الذي يعتمد التغريب في تقديم المألوف بطريقة غير مألوفة؛ مثل حيلة “بريختية” تساهم في رفع وعي المتلقي لبيان المتناقضات من حوله، هدم الحائط الرابع، وكسر الإيهام المسرحي الحائل بين الممثل والجمهور. ولم ينسَ أن يذكرنا، مع نهاية كل فصل في “العيارين”، أن ثمة قراقوزات تنوب عنه في سرد الأحداث، تشاغب وتقول وجهة نظرها بشجاعة، ولكنها تقفل غالباً بجملة “لا يزال العرض مستمراً”، حتى لا يغفل المتلقي عن واقعه، ولا يفصله عما يشاهد في سيرة علي الزئبق، فما يحدث هناك قد يحدث هنا أحياناً.
واستعانة المؤلف بالتراث الذي أعاد صياغته ببطله الزئبق، وبشخوص آخرين محتملين في هذه الحكايات، استعارة ذكية يلجأ إليها الكثير من المؤلفين الميالين للكتابة على طريقة المسرح الملحمي/ التغريبي/ البريختي -وليس بالضرورة أن يفلح الجميع في اللعب بمكوناته أو توظيفه- من أجل الإسقاط على واقع أو حاضر أو تبعات لواقعة قديمة تلقي بظلالها للآن على الحاضر. فدافع بريخت كان الانحياز لأفكار الثورة الاشتراكية ضد الرأسمالية، والتي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، ولأن التأويل فيها مفتوح وحمّال أوجه، خصوصاً حين يستدعي المؤلف مشكلة حدثت في الماضي شبيهة بما يحدث في الحاضر، فيقوم بتفريغها من محتواها الأصلي، وتعبئتها مجدداً بما يتناسب مع رؤيته العصرية حتى تحمل صورة مكتملة. وليس غريباً أن يشير أستاذ النقد والأدب المسرحي الدكتور علي العنزي في مقدمته لنص “العيارين” إلى لفتة ذكية في اختيار المؤلف لشخصياته؛ فما هم -حسب رؤيته- إلا أجداد “الإنسان الجديد الراهن المساير لسلوكيات أسلافه” أصحاب النفوذ والسلطات والتجار، وحتى البسطاء الذين يكتفون بما تمنحهم الحياة، ويقبلونه بسلبية، دون تغيير، وهم يورثون أبناءهم ذات الصفات؛ فتخرج الأجيال المغلوبة على أمرها، مثل جينات يتناقلونها بينهم، فلا عجب إن حكم على إنسان يعيش في هذا العصر من اسمه بسعادة أو شقاء ورثت له مجبراً من لقب عائلته!
أما استعمال القراقوزات/ الأرجوزات في نص العيارين، فهو أسلوب ذكي لتمرير كل ما يمكن قوله عبر الدمى المتحركة، فهي تعلن أن الأحداث، والشخصيات، والمؤلف، والمخرج، والجمهور أيضاً من العرائس، وهم من يقومون بتحريكها(4)، أي أن كل العملية قائمة بين الوهم والحقيقة، بين أحداث قد تكون موجودة في الواقع، ولكن محركها قراقوز، الذي هو في الأصل دمية يحركها شخص آخر مخفي ليقوم بدور هزلي! فمن يحرك من؟ كما عمد محارب إلى الإشارة إلى أغنية “معبرة” عن الوضع، دون أن يكتب كلماتها، حتى يحيل الاختيار للمخرج، لكسر سير الأحداث، ومنع اندماج المتلقي مع الحدث، وحتى لا يكون هناك سياق درامي جامد. إن لم تكن الدمى هي اللاعب، فلن يتمكن ممثل يؤدي دور الشاه بندر (شيخ التجار) من التصريح بأن “اللف والدوران ضروريان لسلب الحقوق”(5)، وهي بالمناسبة الجملة التي أوحت للزئبق بعمل كل الحيل للانتقام منهم، وبالتالي لن يتمكن الممثل الذي أدى دور القاضي أن يصرح -بعد نوم الوالي ورغبته هو الآخر أن ينام- بالتعبير بجملة: “إذا السلطة التنفيذية نامت، فما عمل السلطة القضائية؟”(6) لأن هذه الجملة التي تبدو مباشرة، من الممكن أن تشير إلى السلطات في بلاد تنعم بالأمان، ومستقرة، أو خلاف ذلك، ويمكن أيضاً أن نعني الكيانات الصغيرة؛ مثل سلطة العائلة، وسلطة المجتمع، وإلى آخر هذه الدوائر التي تحيط بحياة الإنسان.
وحينما تعود الأمور إلى أصولها، بعد أن يصاب المجتمع بالخروق، جراء فساد السلطة العليا في “العيارين”، لن يستغرب رد فعل الحمار -مقدم الدرك لاحقاً- والذي عُيّن لسد فراغ المنصب، وحاجتهم إلى “طرطور”، حينما خيّره علي الزئبق بين حوائج الناس أو حماره الضائع، فاختار الأخير بلا تردد! لأنه ببساطة لا يحتاج المنصب، ولا يرى نفسه فيه، حتى من باب الوجاهة! معرفته الوحيدة بالحياة هي احتياجات حماره، حتى بدا التأثر به واضحاً في شخصيته الخنوعة، المطيعة لمن يحركها. إشارة أخرى ضمّنها النص، حين سأل الوالي عن وقت صلاة العشاء(7) فلا يجيبه أحد، حينها يوجه سؤاله للصائغ “عزرا”، اليهودي، الوحيد في وسط مجتمع مسلم، ليجيبه ببساطة رصينة، متبعاً جملته بتحذير حول إحضار أمواله لدار الشرطة حفاظاً عليها من اللص الموعود! أليست كلها التفاتات تحتاج للنبر والتقليب مرة بعد مرة؟ فإن كانت غاية بدر محارب من العيارين تغيير المجتمع للأفضل؛ عبر التأمل، والتفكر، والنقد، والتغيير، فإن إهداءه الممهور بالنص إلى “كل حر وحرة فقط”، سيجد غايته يوماً ما، ولو طال الانتظار.
الإحالات والهوامش
العيارين.. العرائس أيضاً يحكمون، بدر محارب، دار مسعى، الطبعة الأولى 2013م ـ ص 24
العيارين، ص 24
نفس المصدر السابق ص 18
نفس المصدر السابق ص 109
نفس المصدر السابق ص 98