الناقد أحمد عبدالرازق أبو العلا يكتب عن: العلاقة الملتبسة بين الناقد والمبدع!
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
بقلم: أحمد عبد الرازق أبو العلا*
ناقد مسرحي مصري
العلاقة الملتبسة بين الناقد والمبدع!
الناقد أحمد عبدالرازق أبو العلا يكتب عن: العلاقة الملتبسة بين الناقد والمبدع!
يُعد كتاب ( فن الشعر) وباليونانية ( البويطيقا) الذي كتبه (أرسطو) مواكبا لعروض المسرح اليوناني القديم ( الكوميديا والتراجيديا ) أقدم كتاب نقدي ، حدد المفاهيم المتعلقة بفن المسرح الذي أخذ لغته من الشعر ، حين أرجع ( التراجيديا) إلى شعر الدثرامب ( الكورَس الترتيلي، يقوم بترتيل قصيدة أو مرثية ) والكوميديا التي أرجعها إلى الحوار الذي كان يدور بين الشخصيات في أعياد الإله “ديونيسوس” ، ومن ضمن ما ذكر ( أن التراجيديا تطورت – منذ أقدم أشكالها- عن طريق الإضافات التي قام بها الكُتاب ، ثم توقفت عن التطور، بعد أن مرت بتحويرات كثيرة ، وذلك حينما اكتمل نموها ) .
وهنا يتبين لنا مجموعة من الحقائق ، أولها : أن كتاب (أرسطو) جاء بعد أن قدم المسرح اليوناني أعماله ، وليس قبله ، بما يوضح أن النقد يقوم بدوره بعد أن تتم عمليه الإبداع ذاتها ، وبعدها يقوم بفعل المواكبة ، التي تشير إلى دوره الأساسي ووظيفته ، وثانيها : أنه حين تحدث عن التطور الذي أصاب (التراجيديا ) وتحدث عن الإضافات التي أضافها الكتاب، شيئا فشيئا إليها ، ثم توقفها عن التغير أو التطوير لفترة ، فهذا يُعد دليلا على تحقق فكرة المُواكبة ، التي قام بها النقد ، كما يتضح من الناحية التاريخية ، وثالثها : أنه لولا ظهور المسرح اليوناني ، لما وُجد كتاب (أرسطو) ، بما يثبت أهمية وجود الإبداع أولا ، ليقوم النقد بالدور المنوط به ، ممارسا لوظيفته .
تلك المُواكبة النقدية ظلت مستمرة منذ ( أرسطو) وقامت بدورها ،وتطورت ، تبعا لتطور الإبداع ذاته، ومن هنا ظهرت النظريات ، التي جاءت تعبيرا عن التباين الذي قدمه المبدعون في إبداعهم الأدبي والفني ، فضلا عن تباين الاتجاهات الفكرية- أيضا – التي عكستها تلك الإبداعات ، وعبرت عن مواقفهم ورؤيتهم تجاه واقعهم ، فلم يخترع النقد أية نظرية ، بعيدا عن الإبداع الموجود بكل أشكاله وأنواعه .
باختصار شديد أستطيع أن أقول :إن التطور الذي حدث للإبداع ، هو الذي فرض تطورا للنظرية النقدية في البداية ، وبعدها تطور الإبداع ذاته ، بفضل استفادته من الأسس التي حددها النقاد ، وذلك لأن النقد حدد الإضافات التي أضافها المبدعون ، تلك التي جاءت بشكل طبيعي ، وليست شبيهة بمن سبقوهم ، ومن المهم أن نعلم أن مواكبة الناقد ، بمناقشة الأعمال الأدبية والفنية في ضوء النظريات الموجودة – التي جاءت بعد ظهور الإبداع الفني والأدبي – تساعد على تحديد علامات التجديد والتحديث إن وجدها ، فيقوم بدعمها ، طالما أنها حققت نجاحا وتطورا لمصلحة الإبداع الحقيقي، وهنا سيستفيد المبدع من النقد ، لأنه سيضيف جديدا يضاف إلي ما سبق أن قدمه السابقون في أعمالهم .
وهكذا يتبين لنا أن العلاقة الجدلية بين الناقد والمبدع ، تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل ، وليس العداء المستتر أو الواضح ، كما يظهر ذلك واضحا هذه الأيام !!
وفي اعتقادي أنه كلما تقاعس النقد عن القيام بدوره ، وكلما اتخذ الناقد الحقيقي موقفا تجاه الحركة الإبداعية ، بعدم المشاركة اتقاء لشر بعض المبدعين ، الذين يظنون أن النقد جاء من أجل أن يُظهر لهم محاسن أعمالهم ، ويهمل سوءاته .. كلما حدث ذلك ، أصبح المجال مهيئا لظهور العدوانية بين الناقد والمبدع ، خاصة حين يحل من يمارسون (النقد الانطباعي) محل النقاد الحقيقيين ، وهؤلاء تجد معظمهم ، يعملون في الصحافة الفنية ، أو الأدبية ، يكتبون عن العروض المسرحية ، والأعمال الإبداعية ، كتابة خبرية ، تتحول رويدا رويدا إلى مايشبه النقد ، لكنه ليس هو النقد بالمفهوم العلمي ، فنجدهم يكثرون من كلمات الإطراء التي لا تصلح للكتابة النقدية الصحيحة ، مثل ( ممتاز – مبهج – رائع ) وغيرها من الكلمات المُجاملة ، بدون الإشارة إلى ما ينبغي الحديث عنه ، ليس لأنهم يريدون إخفاء الحقيقة ، ولكن لأنهم يرون هذا بالفعل ، لغياب الإدراك بطبيعة النوع الأدبي ، أو الفني ، الذي يتعرضون له بالنقد ، ولا يعرفون أصوله وتاريخه .
ومن هنا تظهر الكتابات المُجاملة ، التي تصبح – بالتواتر – نموذجا يُعجب به المبدع ، فإذا قام الناقد الحقيقي بعمله ، وكتب رأيا مُخالفا ، اتهم بالتعمد ، وكأن هناك خصومة شخصية بينه وبين صاحب العمل .. ومن هنا تنتفي مُهمة الناقد ، وتضيع مكانة النقد .
وربما تسألني من هو الناقد ؟ سأقول لك – في البداية – إنه ليس قاضيا ، جاء ليُحاكم المُبدع ، ويصدر أحكاما بنفيه ، لكنه بمثابة المصباح الذي يضيء الطريق أمام المبدع أيا كان ( كاتبا – مخرجا – شاعرا- قاصا – سينمائيا – ممثلا – موسيقيا .. الخ ) ليسير فيه مطمئنا مسترشدا بضوئه ، ولذلك لا ينبغي أن تكون العلاقة بينهما ، علاقة بين ضدين ، يظن كل طرف فيها أنه عدو للآخر – خاصة من جانب المبدع – لأن الناقد ليست من سماته العدوانية ، فهو يقوم بخدمة المُبدع ، ويبذل مجهودا كبيرا لمتابعته والكتابة عنه ، ولا يأخذ شيئا . والمبدع الذي يظن أن الناقد يتربص به ، لا يعلم – في اعتقادي – طبيعة العلاقة بين الطرفين .
بالإضافة إلى ما سبق أقول : إن الناقد لابد أن يكون مُدركا لطبيعة النوع الأدبي ، أو الفني ، الذي يتعرض له ، عالما بأصوله وتاريخه ، وأن تكون لديه ثقافة موسوعيه ( كافة العلوم الإنسانية ) ويكون قادرا على الكتابة بأسلوب واضح ، بعيدا عن النقد الشفاهي ، الذي يُعد نقدا ناقصا ، وأن يكون موضوعيا ، ليس منحازا ، أو متحاملا ، ويفهم أن دوره ينحصر في إعادة اكتشاف العمل الإبداعي ، أو الفني ، اكتشافا جديدا ، وهذا الأمر يتطلب الموهبة مع الدراسة .
وفي هذا السياق استحضر السؤال الذي طرحه الناقد الانجليزي الشهير ( رينيه ويليك) rene wellek حين قال : قد يتساءل المرء إن كان يمكن للشاعر – كشاعر – أن يكون ناقدا ، هل يمكنه أن يكون ناقدا جيدا ؟ وهل ظهر في التاريخ مثل هذا الناقد ؟ وهل كان وجوده كشاعر ناقد لخير النقد الأدبي ؟ كان المقصود من السؤال:
التأكيد على أهمية تخصص الناقد ، وتفرغه للنقد تماما ، وهذا المعنى أكده أيضا الكاتب المسرحي والشاعر ( اليوت) الذي مارس النقد – كذلك –حين اعترف بنواقص الشاعر كناقد ، وأعترف أن الشاعر يحاول دائما أن يدافع عن ذلك النوع من الشعر الذي يكتبه هو ، ولقد قلل ( اليوت ) من أهمية نقده هو نفسه ، باعتباره مجرد ناتج جانبي لنشاطه الخلاق ، وباعتباره كُتب ضمن سياق الأدب الذي ظهر في فترة كتابته ، وعبر (اليوت) عن استيائه ، لأن كلماته التي كُتبت قبل ثلاثين أو أربعين سنة ، تقتبس وكأنها كتبت أمس .
كذلك يعترف (و. ه . أودن ) بأن الشاعر الناقد يكاد أن يقول ” اقرأوني .. لاتقرأوا سواي ” ولقد عبر أيضا ( أوسكار وايلد ) عن هذا الأمر بقوله ” إن الفنان أبعد الناس عن أن يكون أفضل النقاد ، لأن الفنان العظيم حقا لا يستطيع أن يحكم على أعمال الآخرين أبدا ، ولا يكاد يستطيع الحكم على أعماله هو ” يمكن مراجعة الفصل الثالث عشر – وهو فصل مهم جدا يوضح تلك القضية – في كتاب ( مفاهيم نقدية ) لمؤلفه ( رينيه ويليك ) عالم المعرفة- 1987.
نستطيع أن نستخلص من كل هذا أن التخصص مطلوب ، وأن المبدع الذي يُمارس النقد ، لن يكون دقيقا ، أو موضوعيا ، وإذا كان هذا ما ذكره بعض أعلام النقد في العالم ، وأتفق مع رأيهم ، فكيف أذن نقبل نقدا ممن لا يتوفر فيهم شروط الناقد ، كيف إذن نرضى بعملية الإحلال التي تتم الآن ، باستبدال النقد الحقيقي الموضوعي بالنقد الصحفي الانطباعي ؟
وحقيقة الأمر أن الإبداع اليوم – في معظمه – أصبح باهتا ، وغير مؤثر ، بسبب غياب العلاقة الطبيعية بين الناقد والمبدع ، لأن الإبداع – كما ذكرت من قبل – لا يتطور إلا بتوفر الفهم الصحيح لدور كل من الناقد والمبدع ، مع الإيمان بأنهما وجهان لعملة واحدة ، وبأنهما يشبهان قضبان السكة الحديد ، المكونة من قضيبين متوازيين ، يسير عليهما القطار سيرا طبيعيا وسلسا ، وبغياب أحدهما ، لن يستطيع السير .. هكذا أري العلاقة بين المُبدع والناقد ،أنهما يسيران جنبا إلى جنب ، في خطين متوازيين ، وبهذا السير الطبيعي تتحقق غاية النقد ، ويستطيع الناقد القيام بدوره ، دون أن ينحرف عن المسار ، تماما مثل القطار .
ـــــــــــــــ
عن جريدة القاهرة – الثلاثاء 13 سبتمبر ٢٠٢٢