مقالات ودراسات

الناقد العراقي حسين رضا حسين يكتب: أنساق السلطة ودمويتها في “حصان الدم”


 حسين رضا حسين

ناقد وباحث مسرحي ـ العراق

ـ

يستفز نص العرض (حصان الدم) الذاكرة الثقافية والمرجعية المعرفية لدى المتلقي في اشتباك مع مسرحية (مكبث) لـ (وليم شكسبير) بأفق توقع يصبح ملتبسا عن طريق الاستفهام الآتي، ما الذي يمكن أن يقدمه هذا الخطاب الجديد! مسرحية (مكبث) والتي صنّفت على انها الأكثر عنفاً ودموية من بين الشخصيات الدرامية في مآسي (شكسبير). إذ تمثل الاستبداد والشر في حدوده القصوى.

فعلى الرغـــــــــم من ان (مكبث) رجل نبيل وشجاع، وبطل حرب غير انه يتحول الى واحد من أكثر الطغاة دموية ووحشية، من لحظة قتله للملك (دنكن)، والذي بدأ يثير هلعه وخوفه بعد فعلتـــه الغــادرة، وازدادت هواجســه، وكوابيسه أصبحت أكثـــر وطأة عليه بعد قتله لصديقه (بانكو) الذي شكّل مصدر قلق له، ذلك ان شبحه يترآى له في كلّ حين، ومن هذه اللحظة تُصبح القيم لديه مضطربة، ومشوشة نتيجة لطموحه اللامحدود لاعتلاء شهوة السلطة بتحريض مستمر من زوجته (الليدي مكبث) بعد نبوءة الساحرات. من هنا يبدأ عرض السينوغرافي والمخرج (جبار جودي) في محاكاته المكثفة للنص الشكسبيري بفرضية اخراجية معاصرة عن طريق اشتباك السينوغرافيا مع النص في خلق علاقات سيمائية تنفتح على رؤى صورية وشحنات تعبيرية مرمزة لتحقيق الفرضية الاخراجية. ماكبث شكسبير واحدة من تراجيدياته الدموية التي تنتظم في نسق درامي متواتر وتحريض متواصل من الجميع بما فيهم تنبؤات الساحرات والطموح اللامتناهي لليدي ماكبث في الجلوس على عرش السلطة فضلا عن شهوة ماكبث بذاته في سعيه للاستجابة لكل الدوافع وتحقيق مآربه بما فيها القتل وتتجلى هذه اللحظة بقتل ضيفه الملك دنكان. هكذا طرح السينوغرافي والمخرج جبار جودي فرضيته بدءا من عنونة عرضه المسرحي بحصان الدم.

إذ كانت بقع الدم واللون الاحمر اطارا مرمزا لدموية الليدي ماكبث بمشاهد متعددة والتي سخرت قدرتها الكلامية وموهبتها في دفع ماكبث لاشباع شهوتها الدموية للوصول الى اعلى هرم السلطة. مافعله جودي بالنص الشكسبيري واستجابة لفرضيته قام بتشظيته واختصر الحبكة بتبئيرها واستخلاص الخلاصة بشكل مكثف بمشاهد متلاحقة مستبعدا المناخات الشكسبيرية برمتها. اذ قدم العرض على فضاء مفتوح ويكاد أن يكون فارغا كما هو الا من منصتين في منتصف جدار عمق المسرح مع شاشة عرض في وسطها فضلا عن استخدام خشبة عارية فيما كانت أزياء الشخصيات ببدلات رسمية معاصرة. بعرض مسرحي مضغوط بزمن 40 دقيقة تقريبا اختصر جودي الحكاية الشكسبيرية وانساق السلطة فيها بكشافات ضوئية ودرامية مؤثرة ومؤطرة للأحداث بل رسم الاحداث وجسدها ورسمها ضوئيا ولونيا بمشاهد تفضي الى محمولات سيميائية متجذرة في بنية العرض. مشاهد مرسومة بعناية فائقة تحاكي ذائقة المتلقي وتستفزه للمشاركة في لعبة السلطة او في لعبة القتل عن طريق لعبة الابهار. بنية العرض التي اعتمدت بشكل رئيسي السينوغرافيا في اشتباكها مع اداء الشخصيات من قبل ممثلين على دراية ودربة بما يفعلون عبر بؤر مشهدية ليست متنامية لكنها ليست منقطعة ففي اللحظة التي تعتلي فيها الليدي عرشها بسريرها الملكي وهي تدور في عمق المسرح تنادي ماكبث للولوج اليها فيما كان ماكبث مهموما بشبح دنكان القادم بهدوء على كرسي متحرك في مشهد مشتبك بعلاقات مشهدية دالة. التباس واشتباك مزدوج بين اشارتين ودالتين بين العجز الجنسي وعجز الامير المتسلط والسلطة العاجزة بمقاربتها وهي في أوج احتفالها الملكي. ان حكاية السلطة وهي حكاية وجود وموجود التي ارتهنت بايدي ملوثة بدماء ضحايا لن تدوم بل ستتلوث على شهوة قاتل اخر يرتضي لنفسه في تحقيق شهوتها لاعتلاء عرش السلطة حتى وان كانت تحقيقا للنبؤة.

هكذا كانت مقترحات جودي الفكرية والجمالية في بنية عرضه المسرحي الذي اجتهد في مقاربة معاصرة لدموية الواقع العراقي والعربي المنتهك وجوده أصلا. اذ ختم العرض بمشهد درامي مشغول بدقة يذكرنا ليس بما يحصل باروقة الملوك الاستبداديين والمتغطرسين والقتلة بل شكليا ايضا بافلام المافيا ولكن بنسخة محدثة ومعاصرة.

إذ يدخل مكدف ويقابل ماكبث وجه لوجه على خشبة دوارة وفي حركة دائرية مستمرة وبحوار متنامي ومتسارع بين الاثنين واللذين يرتديان بدلتين رسميتين يطلق مكدف الرصاص فيما يقع ماكبث صريعا. فرضية جمالية وفكرية مؤشرة تستجيب للمؤثر السينوغرافي في صناعة المشاهد بحرفية عالية باشتباك متنامي مع جسد الممثل في تقديم رؤى جمالية معبرة.

أداء الممثلين(اياد الطائي، آلاء نجم، رياض شهيد، حيدر منعثر وزياد الهلالي) وان كان محكوما برؤية سينوغرافية مؤطرة ومشخصة في فضاء يكاد يكون فارغا الا من اشتباك ترميزي وتفسيري مع تحولات الاضاءة الا انه كان معبرا ومتجانسا في ترميز شفرة العرض وتشكيل البنى المشهدية بحرفية ومهارة لا لبس فيها حركيا او صوتيا او ايمائيا. المسرحية عرضت على خشبة المسرح الوطني في بغداد يومي 9و10/2/2016 من قبل الفرقة الوطنية للتمثيل وستشترك في مهرجان علي بن عياد المسرحي الدولي بحمام الانف في تونس العاصمة يوم 14/2/2016 على قاعة دار الثقافة علي بن عياد – ولاية بن عروس.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock