الناقد المصري د. أحمد فرحات يكتب: المسرح الشعري عند الشاعر السعودي الراحل عبد السلام هاشم حافظ
المسرح نيوز ـ القاهرة| مقالات ودراسات
ـ
د. أحمد فرحات
اتجه الشاعر إلى المسرح الشعري، فكتب مسرحية ” أضواء على المجهول ” سنة 1382هـ ضمن ديوان ” أضواء ونغم ” الذي صدرت طبعته الأولى في نفس السنة، وهو ديوان يحتوي على قصائد شعرية متنوعة الأغراض والموضوعات، تناولت الموضوعات العاطفية، والوطنية، والعائلية وغيرها.
المشكلة التي تواجهنا منذ البداية، هي الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا النوع من الشعر. فالشاعر يطلق عليه مسرحية شعرية، والدكتور محمد مندور – في تقديمه لهذا الديوان – يقول: ” والحقيقة ليست مسرحية يمكن تمثيلها على خشبة المسرح بل هي حوار شعري “. وكأننا أمام اسمين مختلفين؛ الأول ” مسرحية شعرية “، والآخر “حوار شعري “.
والفرق بين الاسمين كبير – كما يبدو – فالمسمى الأول ينحدر من فن المسرح، والثاني من فن الشعر، ويتفقان في كون كل منهما شعرا.
والفن المسرحي يعتمد على الحركة والأحداث بالإضافة إلى الحوار والشخصيات والزمان والمكان، وغيرها من عناصر المسرح.فإذا أضاف الشاعر لها صفة الشعرية، فهو يريد أن يصبغ عليها بعضا من السمات الشعرية كالتكثيف والتركيز والوزن والقافية والتصوير المجازي. فالمجاز والوزن من أهم عناصر الشعر كما يشير إلى ذلك الأستاذ العقاد بقوله: ” المجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري؛ لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة وإشارات، ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة. وهذه هي العبارات الشعرية في جوهرها الأصيل )[1]( “.
وإذا ولجنا إلى العمل الإبداعي نفسه نجد الشاعر قد قسمه إلى أربعة مشاهد، في المشهد الأول يجري الشاعر حوارا بين شخصياته، وهي شخصيات رمزية مثل كيوبيد، فينوس، صوت المجهول، الطبيعة، حواء، الشاعر، ” اختارها الشاعر ليعبر من خلالها عما يضطرب في نفسه من شتى المشاعر والخواطر والانفعالات )[2]( “.
وتدور أحداث الحوار حول الشاعر والطبيعة التي تتلون بحالة الشاعر النفسية، فنراها تارة زاهرة خضراء، وتارة أخرى كئيبة سوداء، طبقا لما يختلج في وجدان الشاعر؛ فإذا أقبلت حواء ازدهرت الدنيا وأينعت ولف الكونَ سرورُ الحياة، وإذا بانتْْ حواءُ ألقت سحابةٌ سوداءُ ظلالها على كل المرائي حوله. ويتدخل ” صوت المجهول ” بين الفينة والأخرى ليكشف عن حالة الشاعر النفسية في وضعيها معا: الحزن والفرح، دون أن يتنبأ بأمور المستقبل وعما يؤول إليه حالة الشاعر.
أما آلهة الحب والجمال كيوبيد وفينوس، ترددان انفعالات الشاعر المختلفة. والأحداث كلها تدور حول معاناة الشاعر تجاه حبه لحواء التي لا ينالها إلا في الأحلام والخيال، فينهل منها بقبلة طويلة. فحواء هنا هي رمز السعادة التي حُرم منها الشاعر طويلا، ولا يراها إلا في أحلامه وعقله الباطن فقط. ويبدأ الأحداث بوصف المكان والشاعر يقول([3]):
هنَا ملعبي كانَ بينَ الرمالْ صغيراً يهُدُّ ويبني الخيال
ثم يتجاوب ” صوت المجهول ” مع الشاعر([4]):
أجَلْ يا رفيقَ السَّنا العَبْقَرِيِّ هنا أنتَ خفقةُ حُلمٍ نجيِّ
وترد الطبيعة ([5]):
كِلانا خُلِقْنَا هُنا للضِّيَاءْ نُغَنِّي الربيعَ ونَشْدُو الرُّوَاءْ
وأبصر الشاعر طفلة حسناء في الثامنة من ربيعها يخاطبها الشاعر، ثم تختفي بعيدة، وتترنم الطبيعة بجمال المكان، وكيوبيد وفينوس يشكران الشاعر على تحيته للطبيعة والمرأة، وينشأ بينهما صراع يسير فالشاعر يرى الحب كأس صبابته ([6]):
فيه المكارمُ والفضـــيلةْ…. والحــقُّ والدُّنيا الظليلةْ
فلا تنكر فينوس هذا على الشاعر([7]):
وهلْ في العواطفِ ما يُنكرُ إذا الحسنُ كانَ هُوَ الآمرُ ؟
بينما يرى كيوبيد أن الناس أصناف ([8]):
فقومٌ يرى الحبَّ شؤما وشر وحُرماً يهددُ عيشَ البشرْ
وقومٌ يراهُ اشتهـــاءً لجنـْسْ ولذةَ جسمٍ وحسٍ ونفْسْ
وتردد الطبيعة وصوت المجهول هذا المعنى، بل ويطلبون من الشاعر أن يتغني بحبه، فيغني الشاعر([9]):
عرفتُ وجودي بلحظةِ حُبي فتىً حالما، والجمالُ بقربي
ويستمر الحوار بين الشخصيات إلى أن تأتي حواء، ويترنما معا بأسمى معاني الحب، وتذهب حواء، ويبقى الشاعر حزينا ! فالفكرة التي يمكن أن نستخلصها من هذا الحوار الشعري أن للشاعر رأيا جليا في الحب وفي علاقته بالمرأة، وهذا الرأي يتعارض مع بعض أفكار مجتمعه المتحجرة.
فالحبكة الفنية بين الأحداث غير متسلسلة ولا مترابطة، والقصة برمتها غير مقنعة. والحوار الذي اتكأ عليه الشاعر في المسرحية غير نامي ولا يدفع الأحداث للأمام، وكان بمثابة العائق الذي يعوق سرد انفعالات الشاعر. ومما ينأى بها عن العمل المسرحي طول الحوار حتى يصل إلى تسعة وعشرين بيتا من أصل مائة وتسعين بيتا هي مجموع أبيات العمل برمته.وإذا كانت عناصر الفن المسرحي تتضاءل بجانب عناصر الفن الشعري، فإن العمل الإبداعي نفسه يميل إلى طبيعة الفن الشعري، وما يحسب لشاعرنا أنه طوّر القصيدة الغنائية، واستفاد من خصائص الفن المسرحي كالحوار، والشخصيات والمكان، وغيرها.
فالمكان هو مهد ذكريات الشاعر حيث ” الطبيعة التي وجدها الشاعر غير بعيدة عنه ترفل في حللها الناضرة.. على السفح الأغن.. وفي الروض الخضير.. والوادي الشجير، وبين المروج المزدانة بالزهور الملوتة والورود المتفتحة، والغصون المتعانقة، والعشب الطري، والندى الرطيب. ([10]) ” والزمان لم يفصح عته الشاعر؛ لأنه كان حلما من أحلام اليقظة المشرقة. وكان اهتمام شاعرنا منصبا على المكان أكثر من الزمان.
ولعل الشاعر كان متأثرا بالشاعر المصري علي محمود طه في مسرحية ” أرواح وأشباح([11]) “، والى ذلك أشار الدكتور محمد مندور في مقدمته للديوان.
والتأثر الواضح بين شاعرنا وعلي محمود طه ليس ناجما فقط من أن كلا منهما أهمل عنصر الزمان في المسرحية، أو أن كلا منهما استحضر شخصيات غير عربية؛ فشاعرنا استحضر شخصية فينوس وكيوبيد وصوت المجهول والشاعر وصوت الطبيعة، وعلي محمود طه استحضر شخصية سافو، وتاييس، وبليتيس، والشاعر هرميس، بل في علاقة الشاعر وصلته بالمرأة ( حواء ). ولسنا الآن في مجال مقارنة بين الشاعرين بقدر ما نحن معنيون بإثبات صلة الشاعر بغيره من الشعراء وتأثره بهم، وسيره على نهجهم.
يتفق العنوانان ( أرواح وأشباح – أضواء على المجهول ) على صفة واحدة هي ( المجهول ) وعالم مغاير لعالم الواقع، وكلا الشاعرين يريد أن يلقي ضوءا كاشفا على هذا العالم الغريب الذي لا وجود له إلا في ضمير كليهما. فعلي محمود طه يبرز العلاقة بين الجسد المادي المحسوس والشعور بماديته الآدمية، والأشباح المتمثلة في عالم الميتافيزيقيا الذي يمور به ضمير علي محمود طه. وتتناول هذه المسرحية – إذا جاز لنا استخدام هذا المصطلح – ” الغريزة الجنسية و المرأة والرجل )[12]( ” وله فضل السبق على شاعرنا. أما عبد السلام هاشم فإنه يستخدم عنوانا غير شعري أشبه ما يكون بالنثرية أو أقرب إلى لغة الصحافة منه إلى لغة الشعر. ويدلنا هذا العنوان على أن الشاعر يريد أن يعبر عن مشاعره المغمورة في عالم اللاشعور، وعن علاقته بالمرأة في مجتمع لا يعترف بالحب العفيف. وإذا كان علي محمود طه نازعته فكرة الصراع بين الغريزة الجنسية، والسمو بالأخلاق، والترفع عن هذه الغريزة فإن شاعرنا نازعه هذا النازع أيضاً.
وهل في العواطفِ ما يُنْكَرُ إذا الحسنُ كانَ هُوَ الآمرُ([13])
ويقول الشاعر:
وكنتُ لِرِقَّتِها أَرْتجيها وهيكَلُهَا شُعْلَةٌ لحنيني([14])
أو قوله:
أنتِ أَحْلَى مُتْعَتي في أُمْسِيَاتي قُبْلَةٌ مِنْ ثَغْرِكِ النَّادِي رُوَائي([15])
الجانب الموسيقي:
تسعون ومائة بيت شعري هي مجموع أبيات هذا الحوار الشعري، التزم فيها الشاعر شكل الشعر العمودي، وإن لم يلتزم عدد التفعيلات في كل شطر، فنراه يستخدم بحر الكامل ثلاث تفعيلات في شطر، واثنتين في شطر آخر، ومن ذلك قوله ([16]):
أيْقِظْ مَشَاعِرَهَا بأَلحَانِ الهوَى والفَنِّ والكَلِمِ الجميلْ
ومن خلال الجدول التالي يتضح لنا البحور التي اعتمد عليها الشاعر ومدى اتكائه على بحر معين دون سائر البحور العروضية.
البحر | عدد الأبيات | النسبة |
المتقارب | 111 | 50,8٪ |
المتدارك | 33 | 10,8٪ |
الكامل | 27 | 10,4٪ |
الرمل | 19 | 10٪ |
يبدو من خلال هذا الجدول أن الشاعر عبد السلام هاشم حافظ اعتمد على بحر المتقارب بنسبة تزيد على خمسين بالمئة عن باقي البحور العروضية وذلك لما يتمتع به هذا البحر من خواص ” تيسر للشاعر أن ينطلق مع الأفكار التأملية في انسياب وتدفق دونما وقفات قاطعة عنيفة الوقع، عالية الغنائية والنبرة ([17]) ” وهو بحر يتكون من ” أربع تفعيلات ذات طول متوسط، ومن ثم فهو أطول من الكامل والسريع مثلا. وهذه الخاصية تجعله وزنا بطيء الانسياب جليل الوقع )[18]( “. وهذا يتناسب مع مدلول الأبيات ومضمونها الفكري فالشاعر عندما يصف مكان الطبيعة يحتاج إلى وزن بطيء الانسياب، وكذا عندما يرد عليه صوت المجهول واصفا هذه الربوع بزهر السنين. أما عندما يستشعر جمال المكان،ويفيض عليه برغبة البوح فيتغنى بحبه واصفا إياه بأنه كأس صبابته فإنه يستخدم بحر الكامل بموسيقية عالية الوقع والغنائية.
ومما يؤخذ على الشاعر في استخدامه للبحور العروضية، وقوعه في أخطاء وزنية (في بحر الكامل) كقوله )[19](:
هيَّا تَرنَّمْ شاعرَ الوجدانِ.. هذي غادةُ الحسنِ الخجولْ
هوامش
([1]) اللغة الشاعرة: عباس محمود العقاد. القاهرة. مكتبة غريب. 1988م. ص 46.
([2]) الدكتور محمد مندور: مقدمة ديوان ” أضواء ونغم ” ص 279.
([3]) أضواء على المجهول. من ديوان ” أضواء ونغم ” الأعمال الشعرية الكاملة ج1 ص 301.
([10]) المشهد الأول ص 300. من ديوان ” أضواء ونغم “.
([11]) أرواح وأشباح لعلي محمود طه.( الأعمال الكاملة ) دار العودة. بيروت. ص 377.
([12]) نازك الملائكة.الأعمال النثرية الكاملة. ج2.المجلس الأعلى للثقافة. ص 263.
([13]) أضواء على المجهول من ديوان ” أضواء ونغم ” الأعمال الشعرية الكاملة ج 1 ص 312.
([17]) نازك الملائكة: الأعمال النثرية الكاملة ج2. المجلس الأعلى للثقافة ص 271.
([18]) السابق نفسه، نفس الصفحة.
([19]) أضواء على المجهول. من ديوان ” أضواء ونغم ” ص 318.