مسابقات ومهرجانات

الناقد حيدر عبدالله الشطري يكتب.. عن التجارب المسرحية العراقية المشاركة في مهرجان بغداد الدولي للمسرح


المسرح نيوز ـ القاهرة: مقالات ودراسات

ـ

حيدر عبدالله الشطري

كاتب وناقد مسرحي عراقي

 

 

اختارت لجنة مشاهدة العروض في مهرجان بغداد الدولي للمسرح ثلاث تجارب عراقية لتكون ضمن المسابقة الرسمية وعرض آخر سيكون تقديمه تشريفيا في المهرجان، في خطوة تعكس الحضور الفاعل للمسرح العراقي في المشهد العربي، وتكشف عن إصرار المبدعين على تجديد خطابهم الفني والفكري.

وهذه العروض هي:

مأتم السيد الوالد تأليف وإخراج مهند هادي
نحن من وجهة نظر قط تأليف وإخراج أنس عبد الصمد،
طلاق مقدّس تأليف وإخراج علاء قحطان
المربع الاول تأليف واخراج علي دعيم وهو عرض شرفي

وتمثّل امتداداً لتجارب مسرحية سبقت، وكرّست هوية إخراجية مغايرة لكل مبدع منهم، بحيث بات يمكن النظر إليها بوصفها ثمرة لمسار طويل من البحث والتجريب والتأمل في أسئلة المسرح والواقع معاً.

ومن اللافت أنّ هذه العروض لم تُقدَّم بعد على خشبات المسارح العراقية ولم تُعرض على الجمهور، الأمر الذي يجعل التوقف عند التجارب السابقة لمخرجيها مدخلاً ضرورياً لفهم الرؤية التي تقوم عليها، بوصفها مشاريع تتراكم لا لحظةً معزولة، بل امتداداً وتكريساً لطروحات مسرحية راسخة.

اولا : تجربة أنس عبد الصمد: مسرح المستحيل وتجريب الجسد

يتفرّد المخرج أنس عبد الصمد بملامح إخراجية تنحاز إلى التجريب الفني والمسرح الجسدي، حيث يصبح الجسد أداةً أساسية في صياغة الدلالة، لا تابعاً للكلمة وحدها.

وفي أعماله مثل “نعم غودو” يكاد يغيب الحوار، لتنهض الإيماءة والحركة والصورة الرمزية مقام اللغة، بما يفتح أفقاً واسعاً للتأويل.

كما يشتغل انس عبد الصمد على المسرح داخل المسرح (الميتا مسرح)، فيسائل الفعل المسرحي ذاته ويعيد تعريفه. في مسرحية “بيت أبو عبد الله” دمج بين الرقص المعاصر والأسلوب الميتا-مسرحي لطرح قضايا الوطن بصورة رمزية.

ويميل إلى التجريد والرمزية( معطف معلّق، طير في قفص، أو مشاهد دمار تتحول إلى أيقونات تثير الذاكرة الجماعية) وهذا الأسلوب يمنح أعماله أفقاً مفتوحاً للتأويل، حيث يغدو لكل مشاهد غودو الخاص به.

تتجلى في أعماله أيضاً الموضوعات السياسية والاجتماعية: الحروب، الخراب، الألم الجمعي، والزمن المهدور. لكنه لا يعرضها كوقائع مباشرة، بل يصفّيها عبر لغة بصرية وجسدية تستفز المخيلة أكثر مما تنقل الواقع حرفياً.

إلى جانب ذلك، يشكّل عمله في الورش المسرحية والتجارب التربوية جزءاً من مشروعه، حيث أسس “مسرح المستحيل” ليؤكد أن الفعل المسرحي في العراق تحدٍّ دائم للظروف المادية والسياسية، ورهان على أن يتحول المسرح إلى مختبر حيّ للبحث والتجريب.

ثانيا: تجربة مهند هادي: مسرحة اليومي وفضاء البساطة العميقة

أما المخرج مهند هادي، فيرسم ملامح تجربته من الواقع اليومي العراقي، حيث يظهر الإنسان المهمَّش ( بائع متجول، غاسل سيارات، صبّاغ أحذية، أرملة) في مركز العرض المسرحي.

ومهند هادي لا يكتب فقط عنهم، بل يكتب بهم، مستحضراً تفاصيل ما بعد 2003 مثل (الخوف، الاضطراب، الصراعات الطائفية، وتحوّلات المجتمع العراقي).

ويمتاز بكونه مؤلفاً ومخرجاً في آن واحد، ما يمنحه تماسكاً بين النص والرؤية البصرية. وفي أعماله مثل (كامب) حيث تبدو السينوغرافيا المتمرّدة أداة مركزية في فضاءات متحركة وأضواء تتقاطع وأصوات وعويل حيث يفتح المشهد على شريط من الصور الشعرية.

كما يتميز اسلوب مهند هادي بأنه مشغول بالقضايا الاجتماعية والسياسية لا كخطاب مباشر، بل كتجربة جمالية تثير التفكير، وتفتح باب التساؤل. حين يمزج بين السخرية والمفارقة واللغة الشعبية، وبين المشاهد الرمزية، ليخلق عروضاً تنبض بالبساطة الشكلية والعمق الدلالي.

إنه مخرج البساطة المعمّقة: لا يبحث عن الزينة المسرحية المترفة، بل يكتفي بما يخدم الحالة الدرامية، ويتيح للعرض أن يتنفس بحرية أمام المتلقي. هذه البساطة لا تلغي الغموض، بل تحافظ على مساحة للتأويل، وتجعل العرض يستمر في ذهن المشاهد حتى بعد انتهائه.

ثالثا: تجربة علاء قحطان: رمزية الهوية قضايا المجتمع

دائما ما ينطلق المخرج علاء قحطان من أسئلة الهوية الاجتماعية والسياسية في العراق، ومن جروح الطائفية والعنف والفكر المتطرف. ففي عرض (جلسة سرية) يتناول الصراعات الطائفية عبر استعارات مسرحية ورموز جسدية، بينما وجّه في عرض مسرحية (ستريبتيز) نقداً للفكر المتطرف مستخدماً اللون الأحمر كرمز للدماء والإنذار.

تميل عروض المخرج علاء قحطان إلى الرمزية حيث يتحول الجسد والحركة إلى مكوّن دلالي، ويصبح الضوء والصوت والفضاء المسرحي عناصر فاعلة في صناعة المعنى. وهو يوازن بين البساطة والرمز، فلا يغرق في الزخرفة، بل يستخدم السينوغرافيا بقدر ما يخدم الحالة النفسية والاجتماعية.

وهو مخرج تجريبي بطبيعته، مشارك في مهرجانات دولية وعربية ومحلية ويجمع بين كونه ممثلاً ومخرجاً، ما يمنحه حساسية مضاعفة تجاه النص وأداء الممثل معاً.

والانسان عنده محور العملية الدرامية ومدخل وجودي لعرض معاناته وآماله وتطلعاته فالمسرح عند المخرج علاء قحطان وسيلة للتطهير من معاناة المجتمع العراقي ولإعادة صياغة هذا الألم فنياً.

إنه مسرح يرى نفسه ابن البيئة ومتصلاً مباشرة بما يعيشه الناس من انقسام وخوف، محاولاً تحويل تلك التجربة القاسية إلى لغة رمزية وجمالية.

رابعا:تجربة علي دعيم: ملامح التجربة

من خلال الأعمال التي أنجزها المخرج علي دعيم يمكن تبيان عدد من السمات التي تميز مشروعه المسرحي في التركيز على لغة الجسد الكوريغرافيا فهو يشتغل بدرجة كبيرة على كوريغرافيا الحركة والجسد كأداة للتعبير ولغة تكاملية في العرض. وتجسد ذلك في عروض عروضه مثل (صفر سالب) و (بغداد NH4+) حيث تظهر هذه العروض كيف يُستخدَم الجسد كي يكون علامة إنسانية، تاريخية، أو حتى رمزًا للصراع.

ويميل المخرج علي دعيم إلى خلق عروض لا تروّض المعنى وتُرسّمه بشكل مباشر، بل تترك المساحة للتأويل والتساؤل حيث تكون الرموز في عروضه حاضرة بقوة (الطين، اللون الأسود، السواد كرمز للخراب والموت، الألوان المتعددة التي تتبدد بالتشابه، تناثر الأوراق البيضاء كرمز للوثائق أو القصص المفقودة)

ولا تنفصل عروضه عن الحالة العراقية، من حيث الجراح المجتمعية والتدمير والذاكرة والخسارة والعنف والتطرّف. والمسرح لديه يتواصل مع ما يعانيه الإنسان العراقي، سواء بشكل مباشر أو من خلال الإيحاءات الرمزيةوهو فعل مقاومة للجهل والظلم.
لا يكتفي المخرج علي دعيم عند تقديم عروضه باستخدام الجسد، بل يدمج الصوت والموسيقى والسينوغرافيا والإضاءة ليصنع فضاءً متكاملا عندما يستخدم الموسيقى، الصوت، الظلال، الضوء، الحركات الجسدية، لون الملابس، لخلق حالة عرضية قوية.

انه يعمل في ضفاف التجريب وأعماله ليست مألوفة دائمًا، بل تسعى للخروج من الأشكال التقليدية وفتح التأويل والمخاطرة في التواصل مع الجمهور.

إن مشاركة هذه الأسماء أنس عبد الصمد، مهند هادي، وعلاء قحطان وعلي دعيم في مهرجان بغداد الدولي للمسرح، لا تمثل حضوراً فردياً بقدر ما هي إعلان عن تنوع المشهد المسرحي العراقي اليوم.

فعبد الصمد يذهب إلى مسرح الجسد والتجريب الرمزي، وهادي يشتبك مع اليومي البسيط في فضاء بصري معقّد، بينما يشتغل قحطان على رمزية الهوية والألم الجماعي.

هكذا يصبح المسرح العراقي، رغم التحديات، فضاءً مفتوحاً للتجريب والتأمل في الأسئلة الكبرى: الجسد، الهوية، الواقع، والذاكرة. ومثل هذه العروض، وإن لم تُعرض بعد للجمهور، تحمل وعداً بأن بغداد ستشهد في مهرجانها الدولي مشهداً متنوعاً، يثبت أن المسرح العراقي ما يزال قادراً على إنتاج خطاب فكري وجمالي متجدد، متجذر في الأرض، ومفتوح على العالم.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock